قراءة في كتاب: الحوار مع أهل الكتاب
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
اسم الكتاب: الحوار مع أهل الكتاب أسسه ومناهجه في الكتاب والسنة
المؤلف: خالد بن عبد الله القاسم. الناشر: دار المسلم، الرياض.
موضوع هذا الكتاب من القضايا المهمة التي تعرض لها القرآن الكريم، وبيَّن شروطها وضوابطها التي يمكن تلمس تطبيقها في طريقة تعامل النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته مع أهل الكتاب، وما زال هذ الأمر له مكانته في دعوة المسلمين حتى دبَّ فيهم داء الأمم من قبلهم: التفرّق، والضعف والهوان والركون إلى الدنيا، فَشُغِلوا بأنفسهم، وغفلوا عن هذا الجانب، ثم كان أن استطال عليهم أعدائهم، فصار أولئك ـ على العكس مما كان ومما يجب أن يكون ـ يستخدمون الحوار مع المسلمين للضغط عليهم، والاستخفاف بهم، وهرول إليهم قوم من مبتدعة الإسلام ـ لما في قلوبهم من الشبهات والشهوات ـ فصاروا أداةً بأيدي أولئك، يستخدمونهم لتحقيق هدفهم الخبيث، وهو تغييب البعد الديني العقدي في الحوار بين الأديان، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، ففي معظم الحوارات القائمة اليوم، يتجنب الإسلاميُّون التطرُّق إلى قضية التوحيد والدار الآخرة، إنما يبذلون جهدهم لإيجاد نقاط التقاء مشترك للتعايش المادي، وفي هذا مصادمة جذرية لدعوة الرسل، مع ما فيه من الخيانة العظيمة لأولئك الكفار، من النصارى وغيرهم، إذ فيه إقرار ضمني لما هم عليه من الباطل، فيزدادون ـ لسكوت أولئك، وعدم نصيحتهم، وإنذارهم لهم ـ اعتزازًا به، وينتهي أمرهم ـ إذا ماتوا عليه ـ إلى نار جهنم خالدين فيها أبداً.
وهنا تكمن أهمية الكتاب، إذ بيَّن فيه مؤلفه ـ وفقه الله تعالى ـ الأسس والمناهج الصحيحة للحوار مع أهل الكتاب، مع الالتزام الكامل بأحكام الدين، والتنبيه على ضرورة تحقيق الأهداف الشرعية من الحوار معهم، وأهمها وأجلها على الإطلاق دعوتهم إلى دين التوحيد، وهي دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجعلها أصلاً وأساساً ومنطلقاً، مع الحذر والتحذير من الأهداف غير المشروعة، كموالاة الكفار ومودتهم، أو الحوار معهم لأجل التقارب معهم، أو لتحقيق أهداف مشتركة كمحاربة الشيوعية، أو لنشر الأديان السماوية الثلاثة، ونحو ذلك. ولا أريد هنا أن استعرض أبواب وفصول الكتاب القيمة، ولا ما تضمنتها من المباحث المفيدة، بل أترك ذلك للقارئ الكريم، فأحثه على قراءة الكتاب، والاستفادة من مواضيعه المنهجية، خاصة من كان مقيماً في ديار الغرب، إذ الحاجة فيها إلى الفقه في هذه القضية ملحَّة كما لا يخفى.
غير أني ـ وإن كنت لا أخفي إعجابي بالكتاب، وبحسن صياغته وإخراجه، وبالتزام مؤلفه منهجية البحث العلمي ـ أود الإشارة إلى أمور استوقفتني أثناء قراءتي الكتاب:
1- إن المؤلف ـ غفر الله لي وله ـ قد رجع أثناء بحثه إلى كتب “المفكرين الإسلاميين”، واستفاد منها في مواضع كثيرة، واطلع ـ في الوقت نفسه إلى أخطائهم وسقطاتهم الكثيرة الخطيرة في تناولهم لهذه القضية وأمثالها، مثل: إنكارهم لأحكام الردة، وزعمهم بحرية أعداء الله في التعبير حتى ولو نقداً للإسلام، وأن الجهاد الإسلامي قتال دفاعي فقط، وأن الرّقَّ في الإسلام كان مرحلة تاريخية ومعاملة بالمثل، وإطلاقهم عبارات قريبة جدًّا من القول بوحدة الأديان؛ وغير ذلك.
فكان يحسن بالمؤلف أن ينبّه قراءه إلى أن هؤلاء القوم لا يصلحون للتصدي لأمور الدعوة، لإعراضهم عن العلم الشرعي، وانشغاهم بما يسمى بالفكر الإسلامي، ويذكر أمثلة من مناهجهم وسلوكياتهم ـ وهي كثيرة ـ تدل على انحرافهم عن منهج الرسل، وما كان يحسن به أن يفرد “روجيه جارودي” بالنقد، إذ هو مثال واحد، وليس هو بالمثال الوحيد!
2- ولم يكتف المؤلف بالسكوت عنهم، بل ذهب بعيداً فجزم أنهم في باطلهم كانوا يريدون نصر الإسلام، والدفاع عنه، ولكنهم عفا الله عنهم لم يصيبوا في ذلك[1]، وموقفه من روجيه جارودي أعجب وأغرب، إذ ذكر طائفة من أفكاره وأعماله المنحرفة المشبوهة، مثل: دعوته الصريحة إلى وحدة الأديان، ومدحه للفلاسفة الملحدين كالفارابي وابن سينا، وزعمه أن القرآن لا يصلح لكل زمان ومكان، وميله إلى إنكار حجية السنة في التشريع. وكل هذه الطامات نقلها المؤلفُ من كتب الجارودي ونشراته، ومع ذلك نجده يقول عنه: “أنا لا أشك في نية جارودي، وحسن قصده، وإني أعلم أنه أَسلم باقتناع …”[2].
فأقول: لا أدري كيف أجاز المؤلف لنفسه هذا الموقف ممن له انحرافات خطيرة مهلكة، هل شق عن صدره فوجده مليئاً بالإخلاص والتقوى؟ فجزم بحسن نيته وقصده! ولو فرضنا صحة ما جزم به من حسن النية والقصد فذلك لا ينفع مع فساد الاعتقاد والعمل، وقد أخبرنا ربُّنا سبحانه عن الأخسرين أعمالاً بأنهم: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104] لعل المؤلف أراد أن يلتزم في الحكم عليهم جانب العدل والإنصاف ولا شك أن هذا مقصد طيب، وهو المطلوب شرعاً، ولكنه بالغ في ذلك فأخرجه إلى الثناء عليهم، وتزكيتهم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن كان أحدكم مادحاً أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا ـ إن كان يرى أنه كذلك ـ ولا أزكي على الله أحداً”[3] فإذا كان هذا حكم الشرع في من هو في ظاهره يستحق المدح والثناء، فكيف يمن لا يستحق في ظاهره إلا القدح والذم، كروجيه جارودي، وأمثاله من الذين: “يقطعون رأس الدين بسيف الدين!!”[4].
فالحذر الحذر من هذا المنهج في الحكم على الرجال والجماعات، إذ الواجب شرعاً هو الحكم على ظاهرهم، ونكل باطنهم إلى الله تعالى، ولا نزكي من خالف منهج السلف، ولا نجزم أنه حسن القصد والنية، نعم: لا نبغي عليه بالتكفير والظلم وبما لا يليق من القول والاتهام الباطل، بل نحكم عليه بالعدل، والعدل هو الحكم بالظاهر، ضمن الضوابط الشرعية التي فصَّل العلماء القول فيها.
3- الإشارة إلى الأمرين السابقين، ساقتني إلى الإشارة إلى هذا الأمر الثالث، وهو: ضرورة التعامل مع كتب طائفة المفكرين بحذر بالغ، فلا يمكن الاقتباس منها، أو الاعتماد عليها، إلا بعد التثبت التام، والتيقظ إلى عدم مخالفتها للأحكام الشرعية، إذ الغالب عليهم الخطأ والانحراف، لبعدهم عن العلم الشرعي وأهله، وانشغالهم بترَّهات الفكر الإنساني، وبإمكاني أن أقدم الدليل على زعمي هذا من واقع هذا الكتاب الذي نحن بصدده، فإن المؤلف مع تمسكه بالعلم الشرعي، قد تسرَّب إلى كتابه بعض أباطيل كتب أولئك:
منها: أنه نقل عن الكونت هنري دي كاستري ـ ما معناه ـ: “إن خلفاء بني أمية لم ينظروا بعين الرضا إلى كثرة دخول المسيحيين في الإسلام، وذلك لانخفاض الضرائب، فقد هبطت في أيام معاوية إلى النصف عما كانت عليه أيام عثمان” [5]. وهذه كلمة خبيثة من عدو الإسلام، وفيها طعن في خلفاء بني أمية، بل فيها طعن في كاتب الوحي، الصحابي الجليل معاوية رضي الله عنه، ومع هذا فقد نقله المؤلف مستأنساً به، غير منكرٍ والمظنون بمثله الغضب لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولخلفاء الإسلام الفاتحين، فإن عدم ذلك منهُ، فلا أقل من أن يكون موقفه من معاوية رضي الله عنه كموقفه من جارودي!… هذا والنص تسرَّب إلى المؤلف من كتاب: التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام لمحمد الغزالي الداعية المصري الشهير، فتأمل.
ومنها: تناقضه في كلامه عن الرق، فقد نقل عن بعضهم: أن الاسترقاق في الإسلام إنما كان معاملة بالمثل لمواجهة أوضاع عالمية قائمة، وتقاليد في الحرب عامة، ثم تنبَّه إلى بطلان هذا القول، فذكر أنه ليس معنى هذا أن الإمام لا يسترق إذا كان أعداء المسلمين لا يسترقون[6].
ومنها مبالغته الشديدة في أمر الشورى، فزعم أنه: “لا يجوز لأحدٍ بعده صلى الله عليه وسلم أن يترك هذا المبدأ العظيم لأي مصلحة كانت”[7] وزعم أيضاً أن “الشورى من سمة المؤمنين حكّاماً كانوا أو حكومين”[8]، وهذا من تأثره بكلام بعض المفكرين، وقد نقل بعض عباراته، وإلا فقد فرغ العلماء من بيان حكم الشورى، بل نقل هو نفسه عن ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان فوائد قصة الحديبية. “ومنها استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه”[9]. وأيضاً: فإن الشورى خاصة بأهل الحل والعقد، وليس للمحكومين عامة، كما يعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصوص أهل العلم. والله الموفق للصواب.
(نشرت في مجلة (الهدي النبوي) عدد 13 محرم 1418) (نشر في سنة : 2007)
[1]الحوار مع أهل الكتاب (71 و 74 هامش).
[2]نفسه (131 هامش).
[3]رواه مسلم في: “صحيحه” (3000).
[4]هذه العبارة لشيخهم في هذا العصر: محمد عبده، أخبر بها عن نفسه في رسالة كتبها إلى شيخه وأستاذه جمال الدين الرافضي الماسوني المتأفغن.
[5]الحوار (ص 98 – 99).
[6]نفسه (77).
[7]نفسه (65 و 66).
[8]نفسه (65 و 66).
[9]زاد المعاد: (3 / 302).
-
اسلام
11 كانون الأول 2020السلام عليكم،
جيد.