ضوابط الخلاف في مسألة إغلاق المساجد بسبب وباء كورونا فيروس
5 تشرين الأول 2020
السؤال :
ضوابط الخلاف في مسألة إغلاق المساجد بسبب وباء كورونا فيروس
السلام عليكم ورحمه الله،شيخنا الفضيل. لدينا سؤال مهم بخصوص قرارنا بإغلاق مسجدنا في مدينه أوستن ولاية تكساس في الولايات المتحدة الأميركية بسبب وباء كورونا. كما تعلمون فضيلتكم وضع الوباء في مدينتنا يشكل خطر كبير كما في أماكن أخرى. وكما قد فهمنا أن شريعتنا تسمح لنا باتخاذ مثل هذه التدابير في حال الخشية والخوف من تفشي المرض. وقد قمنا باستشارة الكثير من الأطباء والناس في مجتمعنا. علمًا بأنه قد تم فتح مساجد كثيرة ضمن تدابير وقائية إلا أنها ليست تضمن السلامة للجميع مئة بالمئة. وقد نصحنا الكثير بإبقاء مسجدنا مغلقًا حرصًا على السلامة العامة. وقد علمنا أنه قد ذهب بهذا الاتجاه الكثير من المساجد سواء في الولايات أو في أماكن أخرى لقوة هذا الرأي في ضوء شريعتنا. هل ما نقوم به صحيح؟ وكيف تنصحوننا فضيلتكم بالنسبة للإخوة الذين يثيرون الجدل في مجتمعنا ويحاولون إجبارنا بإعادة فتح المسجد؟ كيف لنا أن نقنعهم بأن حرصنا على السلامة العامة أولى؟ وجزاكم الله خيرًا، فضيلة الشيخ، وحفظكم ونفع الأمة بكم.
الجواب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبيه الكريم، وأسأل الله تعالى لي ولكم العفو والعافية والسلامة والنجاة في الدنيا والآخرة.
هذه نازلة عامة، والبلاء فيها عام على المسلمين وغير المسلمين، وفيها عبرة وعظة وتذكير، لعلنا نرجع إلى الله تعالى، ونلجأ إليه، ونتواضع بين يديه، وندرك عجز الإنسان وضعفه رغم ما افتتن به من زخرف الحياة الدنيا، قال الحقُّ سبحانه: {ظَهَرَ اْلۡفَسَادُ فِي اْلْبَرِّ وَاْلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي اْلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ اْلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، نسأل الله تعالى أن يلهمنا رُشدنا، ويصلح عقائدنا وأقوالنا وأعمالنا.
أما ما تفضلتم بالسؤال عنه، فأقول:
لا بدَّ في هذا المقام التفصيل والبيان على الوجه التالي:
أولًا: إذا كان الأمر بإغلاق المساجد من الجهات الحكومية؛ فلا بدَّ من الالتزام به، وعدم مخالفته، رعاية للمصلحة العامة. وإذا ظهر لمسؤولي المساجد والمراكز الإسلامية أن القرار غير صائبٍ؛ فعليهم التواصل مع الجهات المسؤولة، وشرح وجهة نظرهم. أما إذا كان القرار جائرًا وظالمًا، فعليهم المبادرة إلى إجراءات الاعتراض القانوني، بطلب الاستئناف، ورفع الأمر إلى المحكمة. فليس المقصود بالالتزام بأمر إغلاق المساجد الاقتناع التام بالقرار، فقد يكون لفرد أو جماعة رأي مخالف، فعليهم إيصال رأيهم إلى الجهات المسؤولة بالطرق القانونية المتبعة. والحقيقة أن هذا ينطبق على البلاد الإسلامية أيضًا، فإن أئمة المساجد التزموا بقرار إغلاقها، ولا يعني هذا أن كلَّ واحدٍ منهم مقتنع بالإغلاق، أو يجب عليه أن يقتنع، فإن مثل هذه النوازل والأحوال الطارئة تختلف وجهات النظر حولها اختلافًا كبيرًا، لكن الواجب الالتزام بالقرار الحكومي، رعاية للمصلحة العامة، وتجنبًا لإثارة الفتن والشقاق في المجتمع، وكذلك التزامًا بما عليه الفتوى في البلد.
ثانيًا: إذا لم يكن ثمَّة قرار حكومي ملزم بإغلاق المساجد، وترك الأمر لتقدير المسلمين، فالواجب في هذه الحالة إسناد الأمر إلى أهل المسؤولية، أعني مجلس الأمناء ومجلس الإدارة للمسجد أو المركز الإسلامي، فيقررون ما يرونه الأحقَّ والأصلح، بعد دراسة الواقع واستشارة الجهات والشخصيات ذات العلاقة، ولا يجوز لآحاد المسلمين ـ من رواد المسجد أو غيرهم ـ أن يشغِّبوا على قرار الجهة المسؤولة عن إدارة المسجد، ذلك لأن لهم ولاية بحكم مسؤوليتهم، وإلَّا لم يكن لاختيارهم في تلك المناصب معنًى، وأيضًا: فإن هذا يفتح باب الفوضى والقيل والقال، وتتطور الأمور إلى الخصومات والعداوات، ثم إلى الضرب واللكم والطعن بالسكاكين في المسجد وخارجه، كما حصل في بعض المساجد في وقائع مؤسفة بسبب الخلاف بين الإدارة وروَّاد المسجد.
وتعلمون ما حصل من بعض الجهلة المتعالمين من إطلاق أحكام التكفير والردَّة والجاهلية على عموم المسلمين بسبب إغلاق المساجد، وتجرأ على هذا بكل وقاحة وغرور، رغم علمه أن في الذين أفتوا بالجواز في مختلف الأقطار عشرات بل مئات العلماء والفقهاء وطلاب العلم المعروفين بسلامة المعتقد، وصحة التدين، والتعظيم لشعائر الله تعالى، فأعظم ما يجوز أن يقال في مخالفة هذه الفتوى ورفضها أنها اجتهاد معتبر قال به جماعات من أهل العلم والدين. أما البغي على الأمة بأحكام التكفير والردة والجاهلية فهو ـ واللهِ! ـ جاهلية جهلاء، وحماقة بيِّنةٌ عند الحكماء، وهو دَرَكٌ من الغلوِّ لم يسقط فيه حتى الخوارج الأولون، والله المستعان.
لهذا أقول: إن على الجميع أن يتقوا الله تعالى، ويحرصوا على اجتماع الكلمة والبعد عن الخلاف والشقاق، والأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق أصلٌ من الأصول الشرعية، وردت فيه أدلة كثيرة في القرآن والسنة، من ذلك قول الحقِّ سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [سورة الأنفال]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: «يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا». أخرجه البخاري ومسلم.
ومن نافلة القول التنبيه هنا على أن الاجتماع المقصود ما كان في الحقِّ أو فيما يسوغ فيه الاختلاف، وليس الاجتماع في مخالفة الكتاب والسنة والظلم والبغي والفساد في الأرض، وكما بيَّنت آنفًا فإن التصرف في هذه النازلة، والأخذ بالإجراءات الوقائية، ومنها إغلاق المساجد، أمر اجتهادي، يقع الاختلاف في تقديره، ويكفي فيه ما تحصَّل من فتاوى جماعات كثيرة من الفقهاء بالجواز، فينبغي ألَّا يكون هذا الاختلاف سببًا للخصومات والفتن بين المسلمين.
ثالثًا: الذي يترجح عندي، وأنصح به القائمين على المساجد في البلاد الغربية؛ هو إقامة الجمعة والجماعات بعدد قليل من الناس، يرجع في تقديره إلى أهل الاختصاص، حسب مساحة المسجد، وشدة الوباء في المنطقة، لكن المهم أن تقام شعائر الله تعالى، ولو بعدد قليل جدًّا، فهذا خيرٌ من تعطيل المساجد والشعائر تعطيلًا تامًّا، لكن كما ذكرتُ أولًا الأمر في هذا راجع إلى تقدير القائمين على المسجد، واختلاف الأحوال من بلدٍ إلى آخر، فهاهنا في بريطانيا فتحت المساجد منذ شهر سبتمبر 2020، تقام فيها الجمعة والجماعة بلا تحديد لعدد المصلين، مع الالتزام بالإجراءات الوقائية التي تراقب الجهات الرسمية تنفيذها مراقبة دقيقة، وتعاقب عند مخالفتها بإغلاق المسجد.
نسأل الله تعالى أن يفرج عنا وعنكم وعن الناس أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
كتبه: عبد الحق التركماني
الأحد 17 صفر 1442 هـ الموافق 4 أكتوبر 2020 م