موقع الشيخ عبد الحق التركماني - صفة الركوع والسجود في الصلاة على الكرسي

/ 26 أبريل 2024

للتواصل 00447432020200

صفة الركوع والسجود في الصلاة على الكرسي

/ 19 أبريل 2023

السؤال :

فضيلة الشيخ أحسن الله إليك المريض الذي يصلي على الكرسي هل السنة الصحيحة أن يشير إلى الركوع والسجود برأسه فقط؟ أم الواجب عليه أن يحني ظهره للركوع ويزيد في الانحناء للسجود؟ علمًا أن هذا يسير عليه، أثابكم الله.

الجواب :

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

أما بعد: فقد قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقال سبحانه: ﴿‌لَا ‌يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، فمن عجز عن الركوع من قيام أو عن السجود على الأرض، أو عن كليهما، وجب عليه أن يأتي بما في وسعه، فيخفض ظهره للركوع وهو جالس، ويزيد في خفضه في سجوده، فإنَّ عجزه عن تمام الركوع والسجود لا يسقط عنه ما يقدر أن يأتي منهما، وهذه قاعدة شرعية عامة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد اتفق المسلمون على أن المصلي ‌إذا ‌عجز ‌عن ‌بعض ‌واجباتها ـ ‌كالقيام ‌أو ‌القراءة أو الركوع أو السجود أو ستر العورة أو استقبال القبلة أو غير ذلك ـ سقط عنه ما عجز عنه، وإنما يجب عليه ما إذا أراد فعله إرادة جازمة أمكنه فعله» (المجموع: 8/438).

وليس على المصلي أن يتكلف في الانحناء بظهره إن كان فيه ضرر عليه أو مشقة، فإن عجز عن الانحناء ـ كما هو حال الذي يعاني من آلام الظهر، أو الذي غلبه نزيف الدم من رعافٍ ـ أشار برأسه، ويكون معذورًا في ترك الانحناء بالكلية، وعلى هذا يحمل ذكر الإيماء بالرأس في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ (1097) ‌عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يسبح، يومئ برأسه، قِبَلَ أيِّ وجهٍ توجه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة. وأخرجه (1105) من حديث ‌ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبِّح على ظهر راحلته، حيث كان وجهه، ‌يومئ ‌برأسه.

والإيماء: الإشارة بالأعضاء كالرأس واليد والعين والحاجب، وإنما يريد به هاهنا الرأس، كما قال ابن الأثير في «النهاية». والإيماء يكون بالظهر أيضًا كما سيأتي في بعض كلام الفقهاء، لكن هذين الحديثين صريحان بتقييده بالرأس، وذلك لما في الانحناء على الدابَّة من المشقة والمخاطرة، خلافًا للصلاة على الكرسي، فإن المصلي عليه مستقرٌّ على الأرض، فإن استطاع أن يخفض ظهره وجب أن يفعل ما يقدر عليه، ويدلُّ على هذا التفصيل فهم الفقهاء للأحاديث الواردة في هذا الباب:

قال الفقيه الشافعي العز ابن عبد السلام في «الغاية في اختصار النهاية» 2/28: «ولا ‌يلزمه ‌الانحناء إلى حد السجود على الأرض مع تمكنه من ذلك؛ لأن جماح الدابة غير مأمون، فربما وقع في بعض ما يحاذر، ولو قيل: ينحني إلى حد لا يتوقع فيه ذلك في أحوال الغفلات، لم يبعد».

وقال أبو حامد الغزالي في «الإحياء» 2/262: «وينبغي أن يجعل سجوده أخفض من ركوعه، ولا ‌يلزمه ‌الانحناء إلى حدِّ يتعرض به لخطرٍ بسبب الدابة».

وقال الإمام ابن قدامة في «المغني» 2/93: «وإذا عجز عن الركوع والسجود أَوْمَأَ بهما، وينحني إلى السجود أكثر من الركوع على قدر طاقته». ومراده بهذا: الانحناءُ بظهره، كما قال في الموضع الآخر 2/575: «وإنْ عجز عن الركوع والسجود أومَأَ بهما، كما يومئ بهما في حالة الخوف، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن السجود وحده ركع، وأومأ بالسجود، وإن لم يمكنه أن يَحْنِيَ ظهْرَه حَنَى رقَبَته، وإن تقوس ظهره فصار كأنه واقع، فمتى أراد الركوعَ زاد في انحنائه قليلًا، ويقرِّبُ وجهَه إلى الأرض في السجود أكثر ما يمكنه». وقال في كتابه الآخر «الكافي» 1/314: «فإن عجز عن الركوع والسجود أومَأَ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، ‌يقرِّب ‌وجهَه ‌من ‌الأرض ‌في ‌السجود ‌قدر طاقته». وفي هذا استعمال (الإيماء) لانحناء الظهر.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والسجودُ لا يسقط لا عن قائمٍ ولا قاعدٍ، ‌والمريضُ ‌إذا ‌عجز ‌عن ‌إيمائه أتَى منه بقدر الممكن، وهو الإيماء برأسه، وهو سجود مثله» (المجموع: 23/72). وفي هذا استعمال الإيماء أولًا بمعنى انحناء الظهر، ثم استعماله بمعنى بالإشارة بالرأس.

وبهذا أفتى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فقال: «فمن أصيب في رأسه بمرضٍ يشق عليه معه السجود في الأرض ويضره لا حرج عليه يومئ إيماء، ويكون إيماؤه في السجود أخفض من الركوع، ولا حرج عليه، يركع ويسجد بالإيماء، ولكن يكون سجوده أخفض من الركوع، يركع في الهواء ويسجد في الهواء، ولكن يكون سجوده أخفض من ركوعه» (فتاوى نور على الدرب: 12/462).

وسُئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عمَّن لا يستطيع السجود على الجبهة، لكن يقدر باليدين وبالركبتين فماذا يصنع؟ فأجاب: «نأخذ بالقاعدة: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، فيضع يديه على الأرض ويدنو من الأرض بقدر استطاعته؛ لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾. وأما قول من قال من العلماء: إنه إذا عجز عن السجود بالجبهة لم يلزمه بغيرها، فهذا قول ضعيف؛ لأننا إذا طبقنا الآية الكريمة ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ﴾؛ كانت دالة على أنه يجب أن يسجد على الأرض بما استطاع من أعضائه، فإذا كان يستطيع أن يسجد على الكفين وجب. ولو فرضنا أنه لا يستطيع أن يسجد أبدًا، بمعنى: لا يستطيع أن ‌يحني ‌ظهره إطلاقًا فحينئذ لا يلزمه أن يضع يديه على الأرض؛ لأنه لا يقرب من هيئة السجود، أما لو كان يستطيع أن يدنو من الأرض حتى يكون كهيئة الساجد، فهنا يجب عليه أن يسجد، ويقرب جبهته من الأرض ما استطاع».

أما القول بأنَّ من يصلي على الكرسي يكتفي بالإشارة برأسه، ولا يخفض ظهره للركوع والسجود وإن كان هذا الخفض في وُسْعِه من غير مشقة ولا ضرر ولا خطر؛ فهو قولٌ بعيدٌ عن الصواب، لا أعلم له أصلًا في شيء من أقوال الفقهاء في هذه المسألة، والله تعالى أعلم، له الحمد أولًا وآخرًا.

 

كتبه:

عبد الحق التركماني

28 رمضان 1444