موقع الشيخ عبد الحق التركماني - مسألة اشتراط جنس العمل لصحة الإيمان

/ 30 تشرين الأول 2024

للتواصل 00447432020200

مسألة اشتراط جنس العمل لصحة الإيمان

تنزيل البحث تاريخ النشر مرات التنزيل
تنزيل البحث بصيغة pdf 7 كانون الأول 2020 239

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة البحث

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فهذا بحثٌ موجزٌ في مسألة اشتراط جنس العمل الظاهر([1]) لصحة الإيمان؛ استللتُه من تحقيقي لكتاب: «الدرة فيما يجب اعتقاده» لأبي محمد ابن حزم الظاهريِّ (ت: 456)، فإنه استنتج من حديث نجاة من قال: لا إله إلا الله، ونجاة من لم يعمل خيرًا قطُّ قاعدةً كليَّةً في أن تارك العمل الظاهر بالكليَّة ـ وهو ما يعبَّر عنه بجنس العمل ـ لا يكفُر لكنه ناقص الإيمان؛ فقال: «ومن ضيَّع الأعمالَ كلَّها فهو مؤمن عاصٍ، ناقصُ الإيمان لا يكفر»، ثم ساق ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ في حديث طويل ـ: «حتى إذا فرغ الله من قضائه بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار؛ أمر الملائكةَ أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا، ممن أراد الله عزَّ وجلَّ أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله». (المحلى، المسألة: 79).

وقال ـ عن تارك العمل الظاهر ـ: «إنه مؤمن ناقص الإيمان بالإضافة إلى من له إيمان زائد بأعمال لم يعملها، وهذا وكل واحد فهو ناقص الإيمان بالإضافة إلى من هو أفضل أعمالًا منه» (الفصل: 3/118).

وبنى ابن حزم على هذا تعريفه للإيمان الذي يقابله الكفر، فعرَّفه باعتقاد القلب وقول اللسان، ولم يذكر عمل الجوارح، فقال: «فأما الإيمان الذي يكون الكفر ضدًّا له فهو العقد بالقلب والإقرار باللسان، فإن الكفر ضدٌّ لهذا الإيمان، وأما الإيمان الذي يكون الفسق ضدًّا له لا الكفر فهو ما كان من الأعمال فرضًا، فإن تركه ضدٌّ للعمل وهو فسق لا كفر» (الفصل: 3/118).

وجزم بنجاة تارك العمل فقال: «إننا على يقينٍ من أَن لا خلودَ على مسلمٍ في النار؛ وإن لم يفعل خيرًا قطُّ غير شهادة الإسلام بقلبه ولسانه، ولا امتنع من شرٍّ قطُّ غير الكفر» (المحلى، المسألة: 611).

ورغم هذا فإن ابن حزم ذهب إلى أن العمل الظاهر داخلٌ في مسمَّى الإيمان، وشنَّع على المرجئة الذين أخرجوا العمل الظاهر من حقيقة الإيمان، فقال: «وأما من قال: إن الإيمان هو العقد بالقلب والإقرار باللسان دون العمل بالجوارح؛ فلا نكفِّر من قال بهذه المقالة، وإن كانت خطأً وبدعةً» (الفصل: 3/117).

إن ابن حزم ينتسب إلى أهل الحديث والسنة، ويعظِّم أئمتهم مثل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن جرير الطبري رحمهم الله تعالى، ويقرِّرُ أنهم أهل الحقِّ، ويذمُّ المرجئة ويتبرأ من مذهبهم، ويكفِّر جهمَ بن صفوان لغلوه في الإرجاء([2])، ورغم كل هذا فإنه لم يتقيَّد بعقيدتهم السلفية، بل تناولها على وجه الاجتهاد، فزلَّت قدمُه في مواضع، أخطرها ما يتعلق بأصول الاعتقاد في الأسماء والصفات فقد ضلَّ فيها، أما مسائل الإيمان والتكفير فجاء فيها بمذهبٍ ملفَّق ـ كما ترى ـ، أصاب في معظم أصوله وقواعده، خاصة في ردِّه على المرجئة عدم تكفيرهم بأعمال الكفر الظاهر، وغيره من المسائل، لكنه أخطأ في تحقيق صورة علاقة العمل الظاهر بالإيمان؛ فقد أدخله في مسمَّاه، لكنه جعله من واجباته لا من شروطه، لهذا ـ كلِّه ـ أثنى عليه ابن تيمية ثناءً نسبيًّا لا مطلقًا، فقال: «وإن كان أبو محمد ابن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث، وأكثر تعظيمًا له ولأهله من غيره» (المجموع: 4/19).

إن أشهر من جدَّد قول ابن حزم في هذه المسألة في عصرنا الحاضر هو العلامة المحدِّث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى، فقد كتب فيها بحثًا مطولًا في كتابه: «سلسلة الأحاديث الصحيحة» (3054)، واستدلَّ لها بنفس ما استدلَّ به ابن حزم، وهو حديث الشفاعة، وقع له ذلك اتفاقًا دون أن يطَّلع على كلام ابن حزم، لهذا قال ـ بعد أن ساق الحديث وخرَّجه ـ: «إذا عرفت ما سلف ـ يا أخي المسلم ـ فإن عجبي لا يكاد ينتهي من إغفال جماهير المؤلفين الذين توسعوا في الكتابة في هذه المسألة الهامة ألا وهي: هل يكفر تارك الصلاة كسلا أم لا؟ لقد غفلوا جميعًا ـ فيما اطلعت ـ عن إيراد هذا الحديث الصحيح مع اتفاق الشيخين وغيرهما على صحته. لم يذكره من هو حجة له ولم يجب عنه من هو حجة عليه، وبخاصة منهم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فإنه مع توسعه في سوق أدلة المختلفين في كتابه القيم (الصلاة)، وجواب كل منهم عن أدلة مخالفه، فإنه لم يذكر هذا الحديث في أدلة المانعين من التكفير إلا مختصرًا اختصارًا مخلًّا لا يظهر دلالته الصريحة على أن الشفاعة تشمل تارك الصلاة أيضًا».

وأخذ هذه المسألة عن الشيخ الألباني وانتصر لها في حياته وبعد موته تلميذُه النجيب الشيخ المحدث علي بن حسن بن علي الحلبي؛ فإنه اقترح على الشيخ الألباني إفراد بحثه المذكور بالطبع والنشر، فأذن له الشيخ وأسند إليه الأمر، فأخرجه في رسالة طُبعت سنة (1412)، قبل أن يطبع ذلك الجزء من «سلسلة الأحاديث الصحيحة» بسنوات طويلة. وجرت بينه وبين بعض أهل العلم وطلَّابه ردودٌ ومناقشات في هذه المسألة، لكنه ثبت عليها حتى وفاته، فقد توفي قريبًا في الثلاثين من شهر ربيع الأول من هذه السنة: (1442)، رحمه الله تعالى وغفر له.

هذه المسألة ـ وإن كانت اعتقادية أصلية ـ لكن فيها شيء من الدقة والالتباس، وهؤلاء الثلاثة ـ وأمثالهم من أهل الحديث والأثر ـ وإن خالفوا فيها عقيدة السلف أخذًا بظاهر حديث الشفاعة، فإن معذورون بدخول هذا الاشتباه عليهم، ولما عرفوا به من صحة أصولهم، واتباعهم للسلف، وتحريهم للحق، فهم أحقُّ الناس بقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإنِّي أُقرِّر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعمُّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية» (المجموع: 3/229).

إنما التشنيع على الجهلة والحمقى الذين خاضوا في هذه المسألة بغير علم، وزادوا على ذلك بالبغي على أهل العلم والإيمان باتهامهم بالغلو في التكفير وبأنهم من الخوارج، ولله في خلقه شؤون، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

 

كتبه:

عبد الحق بن مُلَّا حقِّي التركماني الغُزِّي

الاثنين 22 ربيع الثاني 1442 الموافق: 7 كانون الأول 2020م

 


([1]) فالمراد بهذا البحث ما يتعلق بالعمل بهذا القيد: (الظاهر)، أي عمل الجوارح والأركان، وقول اللسان ليس منه، أما من زعم أن المراد من الأدلة وتقريرات العلماء في هذه المسألة: العملُ الباطن (عمل القلب)؛ فهو إما جاهل جهلًا مركبًا، وإما مرجئ، ومثله من زعم أن العمل هو القول، فمن قال فقد عمل، والله المستعان.

([2]) راجع كلامه في مقدمتي لكتابَيه: التقريب لحد المنطق والدرة فيما يجب اعتقاده.