شيخ الأزهر والمصاب الأكبر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
كنت أقرأ في خبر وفاة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي يوم الأربعاء 24/3/1431هـ، الموافق10/3/2010م، فلفت نظري كثرة تعليقات القراء على الخبر في مختلف المواقع على الشبكة العالمية، فنظرتُ فيها، فهالني ما رأيت في كثير منها من الجهل والظلم والبغي، حتى بلغت الجراءة ببعض أولئك النكرات إلى تكفيره. ومثل تلك التعليقات تصلح أن تكون مادة لدراسة علمية يستطيع الباحثون من خلالها إدراك ما عليه حال كثير من المسلمين من الفهم الأعوج لحقائق الدين والحياة.
أعظم ما نقم به أولئك على شيخ الأزهر بعض مواقفه السياسية، وهي مواقف جزئية آنية خاضعة للمصلحة والاجتهاد، فالتكفير بها من أعظم البغي، لكن كثيرًا من المسلمين يظنون أن أهواءهم السياسية والحركية ضروريَّات دينية وعقيدية لا يخالفها إلا زنديق ومرتد، فكيف وشيخ الأزهر قد صافح طاغية من طواغيت اليهود، ولم يشفع له عندهم اعتذاره بأنه لم يعرفه، ولو كان عرفه لكان وقوع الحرج عليه في تلك اللحظة العابرة التي فاجأه فيها ذلك الطاغية بيده؛ مما يمكن أن يعتذر له به.
وزعم بعضهم أن شيخ الأزهر قد استحلَّ الربا! وهذا كذب وبهتان، ورمي بالكفر والردة، فإن استحلال الربا كفر بواح بلا خلاف، وإنما أباح الرجل فوائد البنوك لأنه رآها خارجة عن صور الربا، فلا تجري عليها أحكامه، وأخطأ في ذلك خطأً شنيعًا، لكنه لم ينفرد بهذه الفتوى، بل وافقه عليها ـ بفتوى رسمية في 23/9/1423هـ ـ عددٌ من أعضاء مجلس مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وهو قول المفتي الحالي علي جمعة!
وزعم آخرون أن شيخ الأزهر أنكر فريضة الحجاب! وهذا مثل الأول، فإن وجوب ستر المرأة لعورتها أمام الرجال الأجانب عنها معلوم من الدين بالضرورة، وإنما وقع الخلاف في بعض تفاصيل هذا الحكم، ومن ذلك ستر الوجه، فذهب بعض الفقهاء إلى وجوبه، وذهب آخرون إلى عدم وجوبه. والمسألة خلافية لا بد أن يكون البحث والترجيح فيها بالأدلة الشرعية من غير تعصب، فمن ترجَّح عنده قولٌ بدليله وجب عليه اتباعه، أما عامة الناس فيتبعون ما عليه الفتوى في بلدهم.
ليس غرضي الدفاع عن شيخ الأزهر الراحل، ولا التسويغ لما كان منه من فتاوى شاذة، ومواقف منكرة، وهي مشهورة، قد تصدى للرد عليه كثير من العلماء وطلبة العلم والكتاب، لكني أريد التنبيه على أمر مهم أغفله جميع أولئك الذين علقوا على خبر وفاته بالتشنيع والتجريح، وإغفالهم لهم دليل على غفلتهم عنه، وهذه مصيبة أخرى لا يمكن السكوت عنها:
لقد قاد محمد سيد طنطاوي مؤسسة الأزهر مدة ثلاثة عشر سنة، وكان يحظى بثقة الحكومة، ولم يكن ليتعرض لأية ضغوط أو تدخلات فيما يكتبه أو يقوله أو يفتي به، ومع ذلك: لا نعرف للشيخ فتوى واحدة، بل ولا كلمة واحدة في حكم ما هو منتشر في البلاد المصرية من الممارسات الشركية عند أوثان الحسين والسيدة زينب والرفاعي والشافعي والدسوقي وعدد لا يسهل إحصاؤه من أمثالها، وهي ممارسات ليست سرية ولا خفية، بل يجهر بها أصحابها في وضح النهار: يدعون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويذبحون لغير الله، وينذرون لغير الله، ويطوفون بالقبور، ويعظمونها بالتقبيل والخشوع والتذلل، ويلجؤون إلى أصحابها بحوائجهم كما يلجأ الموحِّد المخلص إلى ربِّ الأرض والسماوات!
فأين كان شيخ الأزهر ـ بل شيوخ الأزهر والمفتون والمجاهدون منذ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ـ خلال تلك السنوات الطويلة من هذا المنكر الأعظم، والشر الأكبر، الذي يقول فيه ربنا عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، ويقول عز وجل لإمام الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام محذرًا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فأي خسران أعظم من ظهور الشرك والوثنية في طول العالم الإسلامي وعرضه ـ إلا المملكة العربية السعودية ـ، ومنه في أرض الشام والعراق ومصر التي توصف بأنها قلبه؟!
ولو افترضنا أن شيخ الأزهر قد اختار السلامة بعدم التصدي لرأس الموبقات السبع؛ فأين كان من الدعوة إلى توحيد العبادة بالتجلية والشرح والبيان للخاصة والعامة؟ فتوحيد الله تعالى هو أعظم الواجبات، وأولى الأولويات، وبه بدأ رسل الله دعوتهم، كما بيَّن الله سبحانه في كتابه، فقال جلَّ وعلا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: ]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف ]، وقال جل ثناؤه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: ]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: ]، وبيَّن سبحانه في دعوة الرسل أجمعين أن أول ما أمروا به هو الجهر بدعوة التوحيد، فقال تباركت أسماؤه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: ]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: ].
فإذا كان شيخ الأزهر قد ضيَّع الأمر بأعظم معروف: التوحيد، وضيَّع النهي عن أعظم منكرٍ: الشرك ومظاهره ووسائله وأسبابه؛ فهل من الشرع والعقل والفقه بالواقع أن يشنَّعَ عليه فيما هو أدنى من ذلك من أحكام الديانة! فيا لمصابنا الأكبر بشيخ الأزهر، وبالمشنِّعين على شيخ الأزهر الغافلين عن تحقيق الأصل الأكبر، ودفع الشرِّ الأخطر. وإنما أوتوا من قبل اتباعهم على غير هدًى مناهج الجماعات والأحزاب والفرق والطوائف الموصوفة بالإسلامية منذ ابتليت بالانشغال بالمهم عن الأهم، تجاوز الله عن الجميع وردَّهم إلى دينه ردًّا جميلاً.
كتبه:
عبد الحق التركماني
نشر في سنة : 2010
- لا يوجد تعليقات بعد