موقع الشيخ عبد الحق التركماني - اللَّعن في القرآن الكريم

/ 4 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

اللَّعن في القرآن الكريم

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 8840

الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى أزواجه الطاهرات وآله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فقد زعم أحد المشاركين في (الحوار الصريح بعد التراويح) في قناة المستقلة؛ أن (اللَّعن) عقيدة قرآنية إسلامية، ولم يُرِدْ بذلك أن اللعن قد ورد في القرآن العظيم ـ وهو أمرٌ معلومٌ لا يخالفه فيه أحدٌ ـ، بل أراد تبرير اللعن الذي يلتزمه الشيعة في مخالفيهم، خاصَّة في أئمة الهدى والتقوى، وخير الناس بعد الأنبياء والرسل: أبي بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة الكرام ـ إلا نفرًا يسيرًا منهم ـ رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

لهذا أردتُ الرجوع إلى الكتاب العزيز واستقراء الآيات التي وردت فيها اللعن، وتتبع معانيها ومقاصدها، والنظر فيما إذا كان الله تعالى يأمر عباده باستعمال اللعن، ويجعله لهم عقيدة ثابتة، وسنة ماضية.

وبعد البحث المعجمي والحاسوبي الدقيق في القرآن الكريم؛ تبيَّن أن مادَّة: (ل ع ن) وردت في القرآن الكريم في (37) موضعًا فقط، ويمكن تصنيفها حسب معناها والغرض منها في الأقسام التالية:

القسم الأول: الخبر عن الله تعالى بأنه لعن أو يلعن بعض عباده الكفار المعاندين، الذين استحقوا غضبه وعقابه، وهؤلاء على أصنافٍ:

1- من لعنهم الله تعالى بسبب كفرهم وعنادهم واستحقاقهم للخلود في النار: كما في المواضع التالية: البقرة: 88، البقرة: 161، آل عمران: 87، النساء: 46، النساء: 47، النساء: 52، المائدة: 78، التوبة: 68، هود: 60، هود: 99، القصص: 42، الأحزاب: 64، محمد 23، الفتح: 6.

2- من لعنهم الله لمعاندتهم في إنكار الحق وكتم العلم والكذب على الله وتضليل الناس، كما في المواضع التالية: البقرة: 89، البقرة: 159، المائدة: 13، المائدة: 60، المائدة: 64، الرعد: 25.

3- لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا: وهذا في موضع واحد: النساء: 93.

4- لعن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات: النور: 23.

5- لعن الذين يؤذون الله ورسوله: الأحزاب: 57، وهم المنافقون: الأحزاب: 61.

6- لعن الشيطان الرجيم: النساء: 118، ص: 78، الحجر: 35.

7- شجرة الزقوم التي في أصل الجحيم: الإسراء: 60.

القسم الثانـي: لعن أهل النار، وهم أهلها الكفار الخالدون فيها، فأخبر الله تعالى بلعنهم: الأعراف: 38، غافر: 52، وأن بعض أهل النار يلعن بعضًا: الأعراف: 38، الأحزاب: 68، العنكبوت: 25، وأنه يُعلن فيهم باللعن إيذانًا بحرمانهم من رحمة الله: الأعراف: 44، هود: 18.

القسم الثالث: ورود اللعن على سبيل التشريع، وهذا ورد في موضعين فقط:

الأول في المباهلة: قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 59-61].

والثاني: في الملاعنة بين الزوجين: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6-9].

فهذا جميعُ ما ورد من اللعن في القرآن الكريم، ونخلُصُ من ذلك إلى ما يلي:

1- إنَّ اللعن الواردَ في القرآن أغلبه من باب الإخبار أن الله لعن أو يلعن بعض خَلْقِه، وهذا من خصائص الربِّ القدير، الذي يعاقب من كفر وعاند من عباده؛ بالغضب واللعن والخلود في النار.

2- إن التلاعن هو من صفات أهل النار يوم القيامة، لأنهم قد أيقنوا بخلودهم في النار، ويئسوا من رحمة الله ومغفرته. أما أهل الجنة والرضوان فاللعن والتلاعن عنهم بعيد.

3- إن اللعن لم يأت في كتاب الله تعالى على وجه التشريع إلا في موضعين فقط، فلم يرشد الله تعالى عباده إلى اللعن والتلاعن، ولم يشرع لهم ذلك، ولا ذكره في سياق أخبار الأنبياء والرسل، وجاءت السنة النبوية الصحيحة بتحريم اللعن، وتعظيم أمره، وصحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ! قَالَ: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً.))[1] ، لأنَّ الأصل في النبيِّ صلى الله عليه وسلم ـ وكذلك في كلِّ من اتَّبع سنَّته وهداه ـ الامتناع عن اللَّعن، لأنه منافٍ للرحمة، وغرض الداعي إلى الله تعالى هو إيصال الدين الحق إلى الخلق، وهو عين الرحمة، فصار اللعن منافيًا لغرضه ودعوته. لهذا لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعَّانًا[2]، ونفى أن يكون اللعن من صفات المؤمن؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ.))[3]، وقال صلى الله عليه وسلم في اللعَّانين: ((لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.))[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا.))[5] 4- إن الموضعين المذكورين هما في قضيتين محددتين: الأولى هي المباهلة، حيث تنتهي المناظرة إلى إنكار الحق الواضح البيِّن وجحوده من أحد الطرفين، مع المكابرة والعناد، فيضطر الطرف الآخر إلى دعوة الجاحد المكابر المعاند إلى المباهلة.

5- وكذلك الملاعنة، تكون عند فَقْد الأدلة القضائية للإدانة، فيتم اللجوء إلى الملاعنة؛ ليسلم الزوج من تهمة القذف لزوجته بالباطل، وتسلم الزوجة من عقوبة الزنى بمجرد تهمة الزوج لها.

وبهذا يتبيَّن أن (اللعن) ليس (عقيدةً قرآنيةً إسلاميةً) خلافًا لما زعمه الرافضيُّ، بل الصواب: أنه حكم شرعيٌ مغلَّظٌ، لم يأت في القرآن إلا في أمور عظيمة جليلة، لا يتجرأ عليها، ولا يستخف بها؛ إلا شقيٌّ رقيق الدين.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

كتبه:

عبد الحق التركماني


[1] أخرجه مسلم (2599).

قوله: ((إني لم أبعث لعانًا)) أي مبالغًا في اللعن، أي الإبعاد عن الرحمة، والمرادُ نفي أصل الفعل، على وزان: {وما ربك بظلام} [فصلت : 46]، وقوله: ((إنما بعثت رحمة)) يعني: لو كنت أدعو عليهم لبعدوا عن رحمة الله، ولصرت قاطعًا عن الخير إني لم أبعث لهذا. وقال الطِّيبي: أي: إنما بعثت لأقرب الناس إلى الله وإلى رحمته، وما بعثت لأبعدهم عنها. فاللعن منافٍ لحالي؛ فكيف ألعنُ. ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري 10/485، و((فيض القدير)) للمناوي 3/13.

[2] أخرج البخاري في ((الصحيح)) (6031) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّابًا، وَلَا فَحَّاشًا، وَلَا لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: ((مَا لَهُ تَرِبَ جَبِينُهُ!))

[3] أخرجه الترمذي (1977) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[4] أخرجه مسلم (2598) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

[5] أخرجه مسلم (2597) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد