هل ضُلل عامةُ المسلمين بفتوى إخراج زكاة الفطر قوتًا؟!
أطلعني عددٌ من طلاب العلم على مقالات ومنشورات وتعليقات تؤكد على أن صدقة الفطر (أو: زكاة الفطر) يكون نقدًا أو قوتًا، فكلا الأمرين جائزٌ على التخيير، أما القول بعدم إجزاء إخراجها نقدًا؛ فتشدُّدٌ وتنطُّعٌ، وجهلٌ بمقاصد الشريعة. وتؤكد ـ أيضًا ـ على أن القول بالجواز هو مذهب كثيرٍ من أئمة الفقه من السلف والخلف، فالمسألة خلافيَّة، فللمسلم أن يعمل بأحد القولين دون نكير!
ورأيت أحدهم يتعجَّب من بيان هذه المسألة للمسلمين في (الساحة الأوروبية): «حيث نظام الحياة وإشكالية الحصول على الحبوب وإيصالها إلى المساكين دون خسارة مالية، فضلًا عن دلالات الوقوف عند ظاهر النص لدى المسلم الأوروبي الجديد، أو تفهم العقلية الأوروبية عمومًا لفكرة إغناء الفقير يوم العيد بالحبوب دون المال!» [مقال: «إخراجُ زكاة الفطر نقدًا.. رُباعية الدِلالات والترجيح» د. خالد حنفي، مدونات «الجزيرة» 28/5/2019].
إن الذي أعلمه من خبرتي بالمسلمين الجدد مدة خمس وعشرين سنة؛ أن من أسلم منهم وجهه لله تعالى حقًّا وصدقًا لا يرى الدين إلا في (الوقوف عند ظاهر النص) فيلتزم بأحكام الشريعة التزامًا يفوق في انضباطه ودقته التزام أكثر المسلمين، وأنه يفهم أن هذه الشعائر الإسلامية عبودية خالصة لله تعالى وليست مجرد (فكرة إغناء الفقير)؛ إلَّا من انحرف اعتقاده وتدينه ـ بعد إسلامه بمدَّة ـ نتيجة تأثره بأفكار بعض الجماعات الإسلامية المنحرفة.
وإذا أردنا أن نتفلسف في الدين على طريقته؛ نستطيع القول بأن إخراج القوت أكثر مناسبة للمسلم الأوروبي من وجهين:
الأول: أنه إذا وكَّل مؤسسة إغاثية لإخراج القوت في فقراء المسلمين في آسيا وإفريقيا، ورأى صور توزيع الأقوات على المساكين هناك، ورأى فرحهم بذلك؛ فإنه يرقُّ قلبه، وتجود إنسانيته، ويزداد حرصًا ومساهمة في إطعام المساكين، خاصة أن تقارير الأمم المتحدة تؤكد على أنَّ: «أكثر من 820 مليون شخص يعانون من الجوع في العالم» (منظمة الصحة العالمية: 15/7/2019).
الثاني: أن إخراج القوت أقل كلفة على المسلم الأوروبي من الناحية المالية، فبدلًا من أن يخرج خمسة جنيهات لمؤسسة إغاثية ـ وتقوم المؤسسة غالبًا باقتطاع ثلث المبلغ للمصاريف الإدارية أو يحول لرصيد مشاريع أخرى! ـ؛ يستطيع إطعام مسكين في بلد فقير بجنيه أو جنيهين فقط!
فيتبين بهذا ـ على طريقة الحِجَاج الإقناعي ـ بأن إخراج القوت أنسب لعقلية المسلم الأوروبي ونفسيته، وأرفق به!
لا أريد هنا بحث المسألة من الناحية الفقهية، فقد بحثها الفقهاء ـ القائلون بالقوت أو القائلون بالقيمة ـ بحثًا شافيًا وافيًا، ولا جديد فيها، وإنما أريد بيان حقيقة هذه المسألة من الناحية الأصولية والمنهجية والدعوية، نصيحةً لله ولدينه، ونصرةً لعلماء الأمة وفقهاء الملَّة، وردًّا على الذين يستغلون هذه المسألة ـ وما شابهها ـ للتشكيك وبث التناقضات بين عوام المسلمين، إذ يقولون لهم: إن علماء العصر المشهورين ـ كابن باز وابن عثيمين والألباني وغيرهم كثير ـ قد أخفوا عنكم الرأي الآخر، وحمَّلوكم الآصار والأغلال، وزعموا أن إخراج النقد لا يجزئ، ونحن نكشف لكم اليوم أن القول الآخر هو مذهب كثير من الأئمة؛ فاضربوا بما تعلَّمتموه وأخذتم به من فتاوى علماء العصر عرض الحائط، بل أَعيدوا النظر في دينكم كلِّه! وقد أخبرني أخ ثقة أنَّه سَأَل أحد رؤوس هذه الفئة المارقة ـ سمَّاه لي، ولو شئتُ لسمَّيته ـ عن قول حسن الترابي بجواز زواج المسلمة من الكافر؛ فقال له: «يجب ألَّا نسارع في إنكار قوله، بل نبحث المسألة، لعل الحقَّ معه»!
نعم؛ إن لانتشار القول بوجوب إخراج زكاة الفطر قوتًا، وعدم إجزائها نقدًا، واستقرار الفتوى على ذلك منذ عقود طويلة في عموم البلاد العربية؛ أسبابًا علمية معقولة، أو كما يقال اليوم ـ نتيجة الترجمة من الإنكليزية ـ: «أسبابًا موضوعيَّةً objective reasons»، أي: أسبابًا فعلية وواقعية متحققة في الخارج. وهذه إشارة إلى بعضها:
أولًا: أن المذاهب الفقهية المنتشرة في البلاد العربية هي المالكي والشافعي والحنبلي، أما المذهب الحنفي فانتشاره فيها محدودٌ جدًّا، خلافًا لانتشاره في بلاد العجم كالهند وباكستان وأفغانستان وتركيا وغيرها. ومن المعلوم أن الجامعات ومؤسسات التعليم الديني ومؤسسات الفتوى الرسمية تعتمد المذهب السائد في الدولة، وكذلك العلماء وطلبة العلم والدعاة يغلب عليهم مذهب أهل بلدهم. فإذا علمنا أن الفتوى عند المالكية والشافعية والحنابلة على وجوب إخراج القوت، وقالوا: «ولا تجزئ القيمة» كما في «الفقه على المذاهب الأربعة» للجزيري 1/569، و«الفقه الإسلامي وأدلته» للزحيلي 3/2046؛ فلا عجب أن يكون هذا المذهب هو القول المعتمد الظاهر والمشهور في البلاد العربية.
ثانيًا: أن الذي جرى عليه أهل الديانة والعلم والفتوى منذ عهد الصحابة والتابعين حتى يوم الناس هذا؛ هو الجزم بالحكم الشرعي الذي ظهر لهم بدليله، تديُّنًا لله تعالى، وإبراءً للذمة. وهكذا كان صنيع أئمة الهدى والتُّقى ـ المشهود لهم بالفقه والعدالة والتثبت والإنصاف ـ في خصوص هذه المسألة:
1- أما إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله؛ فقد قال: «ولا يجزئ الرجلَ أن يعطي مكان زكاة الفطر عرضًا من العُروض، وليس كذلك أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم» (المدونة: 1/392، التهذيب في اختصار المدونة: 1/489). وقد جزم الأئمة في مذهب مالك بما جزم به إمامهم، منهم ابن عبد البر (ت: 463)، حيث قال: «ولا يجزئ فيها ـ ولا في غيرها من الزكاة ـ: القيمةُ عند أهل المدينة، وهو الصحيح عن مالكٍ وأكثرِ أصحابه» (الكافي في فقه أهل المدينة: 1/323).
2- وأما الإمام الشافعيُّ رحمه الله؛ فقد قال: «ويؤدِّي الرجلُ من أي قوت كان الأغلب عليه من الحنطة، أو الذرة، أو العَلَس، أو الشعير، أو التمر، أو الزبيب، وما أدَّى من هذا أدَّى صاعًا بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يؤدِّي ما يخرجه من الحب، لا يؤدي إلا الحب نفسه، لا يؤدي سويقًا ولا دقيقًا، ولا يُؤدِّي قيمته» (الأم: 2/73)
وقال ابن المنذر (ت: 319) في «الإشراف على مذاهب العلماء» 3/80: «وفي قول مالك، والشافعي: لا يجوز البدل منه. وقال إسحاق، وأبو ثور: لا يجوز ذلك إلا عند الضرورة» ثم قال ابن المنذر: «لا يجوز ذلك بحالٍ».
3- وأما الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله؛ فأقواله كثيرة في النهي عن إخراج القيمة:
1- قال صالح في «مسائله» (978): قلتُ: قومٌ يقولون: الطعام أنفع للمساكين، وقوم يقولون: الخبز خير؟ فكرهه أبي، وقال: توضع السنن على مواضعها، قال الله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، ولم يأمرنا بالقيمة ولا الشيء، نعطي ما أَمَرنا به. وحديث ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير. فيعطي ما فرض رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم. وقال: لم يلتفت أبو سعيد ولا ابن عمر إلى قيمةٍ مقوَّمةٍ.
2- وقال أبو داود في «مسائله» (596): سمعت أحمد سُئِلَ عن الخبز في زكاة الفطر؟ قال: لا. قيل لأحمد ـ وأنا أسمع ـ: يعطي دراهم؟ قال: أخاف ألَّا يجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- وقال ابنه عبد الله في «مسائله» (647): سمعتُ أبي يكره أن يعطي القيمة في زكاة الفطر، يقول: أخشى إن أعطَى القيمةَ ألَّا يجزئه ذلك.
4- وقال الأثرم: قلتُ: أعطيتُ لكل مسكين؟ قال: نحن لا نرى القيمة. قلت: ما ترى؟ قال: لا أشير عليك، ونحن نخشى أن القيمة لا تجزئ. (تهذيب الأجوبة: 2/596)
5- وقال أبو طالب: قال لي أحمدُ: لا يُعْطِي قيمته. قيل له: قومٌ يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخُذ بالقيمة. قال: يَدَعُون قَوْلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون قال: فلان! قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}. وقال قومٌ يَردُّون السنن: قال: فُلانٌ، قال: فُلانٌ! (المغني لابن قدامة: 4/ 295)
إذن؛ فلا لوم على علماء العصر في جزمهم بالمذهب الذي اختاروه بدليله، وإنكارهم للقول الآخر، أو تجاهلهم له.
ثالثًا: إذا ثبت اتفاق المذاهب الثلاثة على عدم إجزاء القيمة، وعليه الفتوى عند علمائها قديمًا وحديثًا؛ فالواجب على المفتين وطلبة العلم من أتباع هذه المذاهب، الذين يخالفون مذهبهم في هذه المسألة، ويأخذون بمذهب الحنفية؛ الواجبُ عليهم أن يبينوا وجه مخالفتهم لمذهبهم، ويشرحوا أعذارهم، لا أن يشنعوا على من التزم بقول جمهور الفقهاء من السلف والخلف، ويرموهم بالتشدد والتعصب، وبعدم مراعاة مقاصد الشريعة، وبعدم معرفة آداب الخلاف!
وقد أحسن (المجلس العلمي الأعلى) في المملكة المغربية، في بيانه المنشور بتاريخ 22 رمضان 1442: «حول زكاة الفطر ومقدارها كيلًا ونقدًا» حيث قال: «من المعلوم أن زكاة الفطر فريضة شرعية يتقرب بها المسلمون إلى الله عز وجل، نهاية شهر رمضان من كل عام. والأصل فيها أن تخرج كيلًا من غالب قوت أهل البلد، ومقدارها صاع نبوي عن كل نفس، وهو أربعة أمداد، بمُدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويعادلها اليوم كيلوغرامان ونصف (2,5 كلغ) من الحبوب أو الدقيق. ويجوز إخراجها قبل العيد بثلاثة أيام. وقد تم تحديد القيمة نقدًا هذه السنة في مبلغ خمسة عشر درهمًا (15 درهمًا)»؛ فبيَّن أن إخراج القوت هو الأصل عند علماء المجلس، فيُفهم من صنيعهم أن (تحديد القيمة) اجتهاد منهم، وهو اجتهاد مخالف لمذهبهم الرسمي؛ لهذا لم يشنِّعوا باجتهادهم على أصلٍ ثابتٍ في مذهبهم ومذاهب عامة الفقهاء، وهذا هو الواجب على القائلين بجواز إخراج القيمة؛ أن يتواضعوا، ويشفقوا على أنفسهم، ولا يتنمَّروا على القائلين بما هو الأصل والحقُّ والصوابُ بالنَّصِّ الصحيح والإجماع القطعي، أما رأيهم فموضع خلاف، فلا تثريب على من أعرض عنه أو ردَّه، وبالله تعالى التوفيق.
كتبه:
عبد الحق التركماني
ليستر: الأحد 27 رمضان 1442هـ - 9 أيار 2021م
- لا يوجد تعليقات بعد