موقع الشيخ عبد الحق التركماني - نموذج من عدالة القوانين الوضعية وصيانتها لحقوق الإنسان

/ 21 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

نموذج من عدالة القوانين الوضعية وصيانتها لحقوق الإنسان

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 25 كانون الأول 2021 2022

أندرس بريفيك Anders Breivik مواطن نرويجي ولد في أوسلو سنة 1979، وتأثر منذ شبابه بالتيارات القومية المتعصبة، وانتهى به الأمر إلى أقصى اليمين المتطرف، حتى صار يفتخر بوصف نفسه بالفاشية والنازية. استحكم الحقد والكراهية في قلبه، وحوله التعصب الجاهلي إلى متوحش بلا رحمة، فأعدَّ عدته لقتل أكبر عدد من الأبرياء، ففي 22 من شهر تموز 2011 فجَّر شاحنةً بالقرب من مبنى مكتب رئيس الوزراء في الحي الحكومي في وسط أوسلو، فقُتل ثمانية أشخاص وجُرح آخرون، ثم انطلق إلى مخيَّمٍ شبابيٍّ لحزب العمل الحاكم ـ آنئذٍ ـ، متنكرًا بزيِّ ضابط شرطة، وبدأ بإطلاق الرصاص من بندقيته على من كان في المخيم، وأكثرهم من الشباب الصغار، فقتل تسعًا وستين شخصًا منهم، فكان مجموع من قتلهم في ذلك اليوم: (77) سبعًا وسبعين شخصًا، أما المصابون فتجاوز عددهم الثلاث مئة! حُكم على أندرس بريفيك بالسجن الانفرادي مدَّة (21) إحدى وعشرين سنة فقط.

حسب التقارير التي نشرتها الصحف النرويجية والسويدية والعالمية فإن هذا السفَّاح يقيم في سجن يُشبه فندقًا فاخرًا، إن لم يكن بدرجة خمسة نجوم فهو قطعًا أفضل من فنادق ثلاثة نجوم، حيث يحتوي سجنه الانفرادي على ثلاث زنزانات: غرفة نوم، وصالة جلوس، ومطبخ، ويخرج إلى منطقة نزهة خارجية لينعم بالهواء الطلق، ويحصل على الصحف اليومية، ولديه كثير من أدوات الترفيه، كالتلفزيون وأدوات الرياضة وألعاب PlayStation، ويزوره أحد القساوسة كل أسبوع ـ ويتحمل السجن أجرة الزيارة ـ، وحتى لا يشعر بالضجر في عزلته فقد أُلزم موظفو السجن بمجالسة هذا البغيض ـ الذي يوصف بأنه أكثر شخص مكروه في النرويج ـ فيخصصون له ساعة يوميًّا، يشاركونه في شرب القهوة وفي الألعاب والطبخ. وفي 2015 قُبل في برنامج البكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة أوسلو، ليصبح الإرهابي السفاح طالبًا جامعيًّا! وقد أثار هذا الخبر جدلًا واسعًا، ونشرت BBC في 2/10/2018 تقريرًا حول الموضوع بعنوان: «هل يجب أن تعلِّمَ الجامعة قاتلًا؟».

ومن المفارقات العجيبة أن جامعة أوسلو ـ نفسها ـ قد أطلقت خريف 2018 برنامجًا دراسيًّا بعنوان: «الطقوس والديمقراطية»، وهو برنامج: «يوفر أساسًا نظريًّا للتفكير في القضايا الحالية المتعلقة بالديمقراطية وظهور الحركات القومية الراديكالية، وكيفية استخدام الطقوس لتعبئة الاستجابة والاحتجاج ضد التطرف وتذكر ضحاياه»، وجاء في خطته العلمية: «من أجل التمكن من الخوض على وجه التحديد في هذه المشكلة المعقدة، سيتم استخدام هجوم أندرس بريفيك الإرهابي على أوسلو وأوتويا في 22 يوليو 2011 كنموذج. تم تضمين المقالات الأخيرة من المشروع البحثي REDO الذي فحص أيديولوجية بريفيك والطقوس والاستجابة القانونية حتى 22 يوليو، في المناهج الدراسية». وأطلقت الجامعة ـ أيضًا ـ برنامجًا آخر في ربيع 2020، وربيع 2021 بعنوان: «التطرف والديمقراطية والدين»، ضمنته نموذج بريفيك أيضًا. (موقع جامعة أوسلو، البرنامجين: TFF4280، و TFF4281).

نعلم بهذا: أن الطلاب يبحثون مواجهة التطرف والعنف في نفس الجامعة التي يدرس فيها أحد أكبر الإرهابيين في هذا العصر، وهو إلى ذلك نموذج لمادة مبحثهم!

يتواصل السفاح مع العالم الخارجي بالرسائل التقليدية، فيرسل رسائل كثيرة إلى أصدقائه ومعارفه، كما يستقبل رسائلهم، وهذا يحتاج إلى مراقبة ومتابعة أمنية، لهذا قامت إدارة السجن بتوظيف شخصين متخصصين في قراءة الرسائل وفكِّ رموزها، يداومان دوامًا كاملًا ويكلفان الدولة مليون كرونة سنويًّا (120 ألف دولار)، حسب صحيفة GP السويدية 28/6/2013.

وتقدَّر التكلفة الإجمالية لرعاية السفَّاح بعشرين مليون كرونة سنويًّا (2350000 دولار)، حسب صحيفة Aftonbladet السويدية 4/7/2012.

وفي 2015 رفع بريفيك شكوى على السلطات النرويجية لإنهاء سجنه الانفرادي، وحكمت محكمة نرويجية بحقِّ السفَّاح: «في استقبال المزيد من الزوار»، وأدانت الحكومةَ بإساءةِ معاملة السجين، لكنه خسر في محكمة الاستئناف التي أبطلت الحكم، ولم تنظر المحكمة العليا النرويجية في قضيته، ولا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ. وقد أصبحت شبهة انتهاك «حقوق الإنسان» في معاملة هذا المجرم، والالتزام ببنود: «الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان»؛ قضية جدلية في وزارة العدل والمحاكم النرويجية.

إن التفاصيل كثيرة حول قضية هذا السفَّاح، وليس غرضي تتبعها، ويمكن للمتشوِّف إليها فعل ذلك من خلال البحث في الشبكة العالمية، لكني أردت بما أوردته توثيق أمرين:

الأول: أن هذا السفاح قتل 77 شخصًا من المدنيين عمدًا؛ بسبق إصرار وتخطيط وترصد ومباشرة، ولم يبدِ أي ندم على جرائمه.

الثاني: أن تكلفة رعاية هذا السفاح يبلغ سنويًّا نحو مليونين ونصف المليون من الدولارات، هذا عدا تكاليف المحاكمات والاستئنافات والاعتراضات المتكررة من طرفه وطرف محاميه الذي تتحمل الدولة تكاليفه أيضًا. فإذا حسبنا مجموع هذا المبلغ في مدَّة محكوميته ـ وهي إحدى وعشرون سنة ـ وجدنا أنه أكثر من خمسين مليون دولار (400 مليون كرونة نرويجية)!

والآن نأتي إلى السؤال المهمِّ: من الذي يتحمل هذه النفقات الضخمة لرعاية هذا الإرهابي السفَّاح؟

إن هذه الأموال تخصص من أموال الضرائب التي تجبى من المواطنين قسرًا، حيث يدفع المواطن 28% من صافي دخله الشهري، هذا عدا الضرائب الأخرى التي تفرض على التجارة والسلع وغيرها.

ومما لا شكَّ فيه أن أولياء القتلى على يد (أندرس) هم من دافعي الضرائب أيضًا، وإذا حسبنا العدد الأدنى لهم بأربعة أقرباء لكل قتيل: الوالدان وأخ وأخت، فإن مجموعهم يبلغ: (308)، يدفعون الضرائب إلى الحكومة، ليتم تخصيص قسم منها لرعاية قاتل أبنائهم وأقربائهم الـ: (77)!

إن معدَّل الدَّخل الشخصي في النرويج يقدَّر بـ: (558000) كرونة نرويجية سنويًّا، تستقطع الحكومة منها (156000) للضرائب. فإذا افترضنا أن جميع أقرباء القتلى يدفعون للحكومة هذا المقدار من الضريبة سنويًّا، أي ما مجموعه: (48) مليون كرونة، فإن (20) مليون من هذا المبلغ يذهب لرعاية قاتل أبنائهم وأحبابهم!

هذا نموذج لما قدَّمته (القوانين الوضعية) إلى (الإنسانية) من العدالة والإنصاف!

إنها (عدالة) معكوسة منكوسة، لا تراعي حقوق الأمهات الثكالى، والآباء المفجوعين بفقد فِلْذَاتِ أكبادهم، ولا حَرَّى قلوب الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال.

إنها (عدالة) عوراء عرجاء، لا تهمها إلا حياة (القاتل الباغي) وسلامته، وحسن معاملته، وجميل رعايته، ولو كلَّف المجتمع كلَّه أموالًا طائلةً تؤخذ من الموظفين والعمال الكادحين ـ الذين يخدمون بلدهم بسلام ومحبة ـ لتفرش بها الورود تحت قدمي سفاح قاتل!

إنها (عدالة) تُبقي الأسَى والحسرةَ والحقدَ والكراهيةَ تحرق قلوب أولياء الدم، دون مواساة ولا عزاء، بل يُستفَزُّون بأخبار السفاح القاتل على صفحات الصحف اليومية مرةً بعد مرةٍ؛ فمرةً تنشر خبر التحاقه بالدراسة الجامعية، ومرةً تنشر خبر رفعه شكوى ضدَّ إدارة السجن مطالبًا بتغيير نوع (الجبنة) التي تقدَّم على مائدته!

والأنكى من هذا كلِّه: أن واضعي هذه القوانين وأتباعها وأنصارها لا يقفون عند الخزي الذي هم فيه؛ بل يتنمَّرون على كل مخالف لهم، فيتهمونه بالرجعية والتخلف والتوحش وعدم الإنسانية. أي أنهم يسلبونه صفة «الإنسانية» لمجرد أنه فكَّر في إنصاف (308) شخصًا ورحمتهم والرفق بهم مقابل (شخص واحد فقط)، يتَّفق الجميع ـ وبحكم المحكمة ـ على أنه: (إرهابي، قاتل، سفَّاح).

إن المسلم الحقَّ لا يحتاج إلى (النتائج والآثار) حتى يعرف أن دين الله تعالى وحُكمَه هو الحق والعدل والخير والهدى، فهو يوقن بكل هذا بمحض إيمانه بالله تعالى، وتصديقه لرسوله، واتباعه لدينه، لكن لا بأس أن يتأمل في (النتائج والآثار) ليزداد إيمانًا إلى إيمانه، وليحاجج به أهل الزيغ والضلال، ويُخجل أهل الكفر والإلحاد، الذين استعبدتهم الأهواء، وساقهم الشيطان إلى فساد فطرهم، وانقلاب القيم والمعايير في عقولهم، حتى أصبح ميزان العدل عندهم مائلًا كما هي حياتهم، ويريدون أن يميل ميزان العدل في قلوب المسلمين، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [سورة البقرة: 109].

وليتأمل العاقل المنصف البون الشاسع بين هذا الحكم الذي هو نتاج زبالات أفكار البشر، وبين شريعة رب العالمين؛ فقد جاءت الشريعة الربانية بحكم عادل منصف للقاتل ولأولياء الدم وللمجتمع كلِّه:

1- فالقاتل إمَّا أن يُطالِب أولياءُ الدم القضاءَ بالقصاص منه؛ فيُقتَل، لتشفى صدور أصحاب الحقِّ ويقطع دابر شرِّه عن المجتمع.

2- وإما أن يَعفُوا عنه بطيب نفسٍ منهم؛ فيطلَق سراحُه، ويعيش بقية عمره حرًّا طليقًا، دون أن يكلِّف المجتمع مصاريف السجن والرعاية.

3- وإمَّا أن يؤخذوا مقابل العفو عنه ديةً ترضيهم.

قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [سورة البقرة].

وصدق ربُّنا عزَّ وجلَّ إذ قال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [سورة المائدة].

والحمد لله تعالى على نعمة الإيمان والإسلام.

كتبه:

عبد الحق التركماني

الاثنين 12 جمادى الثاني 1442، الموافق: 25 كانون الثاني 2021.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد