موقع الشيخ عبد الحق التركماني - ماذا وراء منع مكبرات الصوت على المنائر في غير الأذان؟

/ 19 أبريل 2024

للتواصل 00447432020200

ماذا وراء منع مكبرات الصوت على المنائر في غير الأذان؟

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 3 يونيو 2021 1535

أتابع منذ أيام الجدل المثار في السعودية حول قرار وزارة الشؤون الإسلامية إلزامَ الجوامع والمساجد بإغلاق مكبرات الصوت على منائر الجوامع والمساجد في غير الأذان والإقامة، فقد كانت العادة أن تبثَّ الصلواتُ كلُّها ـ حتى صلاة التراويح والقيام وخطبة الجمعة ـ من خلال مكبرات الصوت الخارجية، فيحصل تشويش وتداخل في الأصوات وإزعاج للمرضى وذوي الأعذار. وهذه المشكلة قديمة، والجدل فيها قديم؛ فقد استضافني شيخنا العلامة أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري حفظه الله في منزله في رمضان 1425، ودخلت العشر الأواخر وأنا في ضيافته؛ فقدَّر الله أن مرضتُ مرضًا شديدًا، فعنِّي أُخبركَ ما عانيتُه من أصوات المساجد القريبة في التراويح والقيام، وكانت أصواتًا متداخلة، غير مفهومة، ليس وراءها إلا الإزعاج والإيذاء.

هذه المسألة «شأن داخلي» كما يقال اليوم، وفي المملكة العربية السعودية من العلماء الأجلاء والمسؤولين الأَكْفاء من تبرأ بتصرفهم الذمة أمام الله تعالى؛ لهذا لا أرى من شأني الخوض في هذه المسألة من الناحية الفقهية أو الإدارية؛ لكني أحببت أن أكتب كلمة أنبه فيها على جانب آخر مهم، وهو الجانب المنهجي والدعوي ـ وهو جانب عام لا يخص واقعة معينة ولا بلدًا معيَّنًا ـ، فقد رأيتُ بعض الأفاضل من طلبة العلم والدعاة قد غفلوا عنه، كما أن من حقِّ الجيل الصاعد من الشباب أن نشرح لهم جوانب في صَيْرورةِ الدعوة وسَيْرورتها تخفى عليهم، وقد يكون جهلهم بها من أسباب اختطافهم من قبل التيارات الحركية، فيتهيؤون بذلك للنزوع إلى الغلو والتطرف، وتستمر مشكلة ضياع الأجيال الجديدة، دون استفادة من تجارب العقود السابقة.

اعلم ـ أيها الشاب الغيور على دينه ـ أنَّ هذه الأمة قد مضتْ في عصورها السابقة على أنه لا صوت للدين والدعوة فيها إلا صوت علماء الشريعة من المحدثين والفقهاء والقضاة والمفتين، فلم يكن يتكلم في شؤون العقيدة والشريعة غيرهم، فكانوا «ولاة الأمر» في الأمة في شأن الدين، كما كان الحكام «ولاة الأمر» في شأن السياسة الدنيوية. ثم إنه في العصر الأخير تغلب الكفار على كثير من الأقطار (بما سمي بالاستعمار)، وانفرط عقد المسلمين، وظهرت الدول العلمانية ـ سواء كانت جزئية أو شاملة؛ على حد توصيف المسيريِّ ـ، وتيسرت وسائل الطباعة والنشر، فصارت الصحف والمجلات منابر لكل صاحب قلمٍ، وأصبح الكلام في أحكام الديانة ومسائل الدعوة مستباحًا لكل أحدٍ، وإن كان من أجهل خلق الله تعالى بشرع الله تعالى ومراده. وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على من يفتي بغير علم، فقال له بعضهم: أَجُعِلتَ محتسبًا على الفتوى؟ فقال له ابن تيمية: يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ؛ ولا يكون على الفتوى محتسب؟! (أَعلام الموقعين لابن القيم: 4/167)؛ فماذا عساه يقول لو بُعث في عصرنا؛ ورأى هذا الخوض في دين الله تعالى بالهوى والباطل من غير احتساب ولا رقابة.

في ظل تلك الفوضى الدينية والعلمية والفكرية التي أصابت الأمة؛ ظهر «الخطاب الحركي»، ومن أخص خصائصه: مزاحمة «خطاب علماء الشريعة»، بل منابذته، ومحاولة مصادرته، أو تحجيمه، أو اختطافه، فصار أصحاب الفكر والثقافة والقلم يتكلمون في دين الله ـ عقيدة وشريعة ودعوة ـ بحسب رصيدهم العلمي والمعرفي في مجالات تخصصاتهم في العلوم الإنسانية أو التطبيقية، أما العلوم الشرعية فليسوا من أهل التخصص فيها، ولم يأخذوا منها إلا طرفًا لا يؤهل آخذه لوصف «طالب علم»، بله أن يكون أهلًا للفتوى والحكم في دين الله تعالى.

هذه الحقيقة التاريخية المهمة والخطيرة جدًّا أثبتُّها بالبحث المفصَّل في كتابي: «مقدمة في تفسير الإسلام»، وأوردت هناك شهادة مهمة للدكتور طه جابر العلواني (ت: 1347/2016)، وهو من كبار رموز الخطاب الحركي ومن قيادات الإخوان المسلمون العالمية، ولا يتسع المقام لنقل كلامه بطوله، لكني أكتفي منه بقوله: «وبالفعل سارت الحركات الإسلامية المعاصرة بعيدًا عن العلماء والمشايخ، وبقيت تنظر إليهم نظرةً فيها الكثيرُ من الحذر والتوجُّس» (مقاصد الشريعة، دار الهادي، بيروت: 1421، ص 67-71).

إذن؛ صار في الأمة خلال المئة السنة الأخيرة خطابان: «خطاب علماء الشريعة»، و«خطاب الإسلاميين الحركيين»، والبون بين الخطابين شاسعٌ جدًّا، سواء في أصوله وقواعده، أو في أشكاله وأساليبه، أو في مقاصده وأهدافه، وليس بالإمكان هنا أن أفصِّل القول في ذلك، لكني أشير إلى ما هو داخل في صُلب الموضوع، فأقول:

إن من أهم خصائص «علماء الشريعة» أنهم ينطلقون في أقوالهم وفتاويهم من علمهم بمفصَّل أحكام الشريعة التي أخذوها عن مشايخهم، وتفرغوا لدراستها والتخصص فيها، وتأملوا دقائقها بطول معاينتها ومدارستها وتدريسها، وأنهم يقصدون بذلك إبراء ذمتهم أمام الله تعالى. هذا وصف ينطبق عليهم في الجملة، وإن كانوا متفاوتين في درجات العلم والصدق والإخلاص والتجرد للحق. كذلك؛ فإن هذا لا يعني تزكيتهم في موافقة العقيدة السلفية والسنة الصحيحة مطلقًا، بل المقصود أنهم يتدينون لله بعلمهم، وإن اختلفت عقائدهم ومناهجهم ومذاهبهم. ولا يعيبهم ـ بعد هذا ـ أن يكون فيمن ينتسب إليهم من فيه نوع نفاق أو رقَّة دين أو ضعف أمام إغراءات الدنيا، فيفتي بالأقوال الشاذة والباطلة إرضاء لأهواء الناس ورغبة فيما عندهم أو رهبة من سخطهم وإيذائهم؛ فإن أمثال هؤلاء قليل جدًّا في علماء الشريعة المحمدية، وقد ألبسهم الله خزي الدنيا وهوانها وذلها، وأبى أن يجعل لهم لسان صدق في الأمة.

ومن أهم خصائص «علماء الشريعة» أنهم يشعرون أنهم جزء من أمتهم ومجتمعهم ووطنهم، فواجبهم تجاههم البيان والنصيحة والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم جزء ممن حولهم، وليسوا في حال صراع ومغالبة ضدَّهم. هذا الموقف المبدئي والشعور الراسخ يمنحهم الصدق والاحتساب والنصح والإشفاق، كذلك يجعلهم في حال سكينة وثبات وتمادٍ على طريقةٍ واحدةٍ.

إذا انتقلنا إلى أصحاب «الخطاب الحركي» نجد أن من أهم خصائصهم خصيصتان يفترقون بهما عن «علماء الشريعة»:

الأول: أنهم لا ينطلقون في فتاويهم وآرائهم ومواقفهم الدينية عن علم شرعيٍّ راسخٍ ومفصَّل، بل يغلب عليهم الفكرُ والعقلُ والنظرُ إلى الوقائع والمصالح والمنافع، لا إلى تحقيق مراد الله تعالى في نفس الأمر.

والثاني: أن آراءهم ومواقفهم ليست مبنية على العلم المجرَّد، بل له اعتبارات أخرى؛ أهمها على الإطلاق ما يحكمهم من نظرية «التفسير السياسي للدين»؛ حيث يشعرون أنهم في حال صراع مع مجتمعهم، وفي حال مغالبة ومدافعة ضدَّ سائر المسلمين، لهذا فإن كل الفتاوى والمواقف والآراء يجب أن توظف لهذا الصراع والمغالبة. هنا يفقد «العلم الشرعي المجرَّد» سلطته، كما يغيب «التدين الحق لله تعالى» ليحل محلَّه «التدين المغشوش».

دعونا الآن نطبق هذه المنهجية على هذه الواقعة المعينة: استعمال مكبرات الصوت في غير الأذان والإقامة:

أما «علماء الشريعة»: فقد قالوا كلمتهم بباعث ما ذكرته أعلاه: أداء أمانة العلم، والنصح للأمة. وفيهم علماء كبار لهم لسان صدق في الأمة، كإمام أهل السنة في هذا العصر بلا منازعٍ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفقيه العصر العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ومحدِّث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني، رحمهم الله تعالى جميعًا.

لقد خالف هؤلاء الأئمة الثلاثة بفتواهم منع بث غير الأذان والإقامة من مكبرات الصوت؛ خالفوا ما شاع في مجتمعهم، واعتاد عليه كثير من الصالحين واستحسنوه، كما خالفوا الجهات الإدارية المسؤولية عن الأمر. ثم إن الشيخ ابن باز لما شرح له بعض المشايخ وجهة نظرهم في أنه لا مفسدة في استعمال مكبرات الصوت للصلوات؛ رجع إلى قولهم، لأن المسألة عنده علمية شرعية، يبتغي بها وجه الله تعالى، فلم يجد حرجًا في تغيير رأيه وفتواه، أما الشيخ العثيمين فقد بقي على قوله بالمنع، وتكلم بذلك في مجالس مختلفة وفي أوقات متباعدة، واحتجَّ على المنع بالحديث الصحيح الصريح: «ألا إنَّ كُلَّكم مُناجٍ ربَّه، فلا يُؤذِيَنَّ بعضُكم بعضًا، ولا يَرْفَعْ بعضُكم ‌على ‌بعضٍ ‌في ‌القراءة» (أخرجه أحمد وأبو داود وابن خزيمة من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه). وقال: إن الذين يستعملون مكبرات الصوت للصلاة هم إلى الإثم أقرب. وأقسَمَ بربِّ البيت ـ في درسه بالحرم المكي ـ بأنهم مخالفون للسنة ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا هو حال الفقيه والعالم الرباني؛ يقول بما يعلمه ويعتقده، لا يبتغي بذلك موافقة المسؤولين، ولا يهمه مخالفة المجتمع والعامة ـ ومثل هذه المخالفة تحتاج إلى شجاعة وتجرد وإخلاص، يتفرد بها خواصُّ الرجال من ذوي الهمم العالية، والنفوس الشريفة ـ، ولا يستعمل علمه للتحريض والتشويش، بل يبين الحق، ويسعى في تبرئة ذمته أمام الله تعالى.

أما «الداعية الحركي» فالشأن عنده مختلف تمامًا؛ فهو يرى نفسه في صراع مع مجتمعه المسلم ووطنه المسلم، وبالتالي فإنه يرى في إطلاق مكبرات الصوت «رمزيَّة الصراع» أو «الصراع الرمزي The symbolic conflict»، وهو صراع مغالبة ومدافعة، لا بد أن يدوم، وتحشد له العواطف، وتبث بين العامة، وتوظف فيها المنصات الإعلامية. إنه صراع إثبات الوجود والقوة والتأثير والفاعلية في المجتمع.

هذه الخصيصة يشارك فيها «الحركيَّ»: «الليبراليُّ والعلمانيُّ» أيضًا؛ لأن هذا الصنف في حال صراع مع مجتمعه أيضًا، لهذا يرى أنَّ في منع مكبرات الصوت «رمزيةً» لانتصاره على المجتمع ومحاربته للتدين والالتزام.

إن الإسلاميَّ الحركيَّ والليبراليَّ محكومان ـ معًا ـ بعقدة نفسية واحدة، وهي أنهما يوظفان مشكلات المجتمع لخدمة توجهاتهما الفكرية ومقاصدهما في التأثير والتحكم فيه. والحقيقة أن هذه المشكلة لا علاقة لها بتلك «العقدة النفسية» الصراعية والانفصالية. ففي هذه القضية ـ على سبيل المثال ـ؛ يتمثل دين المجتمع المسلم وهويته وخصوصيته في رفع صوت الأذان على المنائر وفتح أبواب المساجد وإقامة الجمعة والجماعات. هذا هو القدر الثابت شرعًا، والمطلوب شرعًا، وهو القدر الذي جعله الشارع الحكيم من شعائر الإسلام القطعية الظاهرة، ومن مميزات هوية المجتمع المسلم، وجعل منعه والصدَّ عنه هدمًا لمعالم الدين، ونقضًا لعراه. أما الزيادة على ذلك ببث قراءة الإمام في الصلاة أو بث خطبة الجمعة ومحاضراته من خلال مكبرات الصوت؛ فهي ـ باتِّفاق الجميع ـ أمرٌ محدثٌ وغير مطلوب شرعًا وليس من شعائر الإسلام؛ فذهب أكثر العلماء إلى تحريمه أو كراهته، وذهب بعض العلماء إلى إقراره ترجيحًا لمظنَّة الفائدة والنفع.

من هنا؛ فإن الاقتصار على «القدر المطلوب شرعًا» سيكون محرجًا للطائفتين معًا:

- طائفة الإسلاميين الحركيين؛ لأنهم سيفقدون «مشكلةً» يستطيعون من خلالها البروز إلى السطح، واستثارة عواطف العامة، وتوظيفها في ألاعيب أهدافهم السياسية ومناكفاتهم مع السلطة الحاكمة وأجهزتها التنفيذية. ومن أراد معرفة مصداق هذا في الواقع فليتتبع تعليقات رموز الإسلاميين الحركيين على القرار السعودي؛ سيجدها تفيض بالغيرة على الدين وتعظيم شعائر الله تعالى، رغم أنك تجد ـ لو بحثتَ وتتبعتَ ـ لدى أعيان أولئك من الانحراف الاعتقادي والمخالفات العملية لأحكام الشريعة ـ التي تدل على رقة دينهم واستخفافهم ـ أمثلة كثيرة. وأذكر هنا أحد المرتزقة؛ كتب تغريدةً يستفزُّ بها مشاعر المسلمين، مع أنه ملتبس بمنكرات ظاهرة في سلوكه، وأقل ما يقال في انحرافه العقدي أنه لا يكفر الكفَّار الأصليين من اليهود والنصارى! فهو ممن اتخذ دينه لهوًا ولعبًا، فمن كان بهذه الحالة فلا يُظنُّ فيه أنه يقيم لدين الله وزنًا، ولا ينخدع المسلمُ النبيهُ بتباكيه على الدين واستثارته لعاطفة من يقرأ له، أو يستمع إليه، فليست انتفاضته إلا من ألاعيب الحركيين ومناكفاتهم.

- طائفة العلمانيين والليبراليين؛ لأنهم سيفقدون «ظاهرةً» يستغلونها في محاربة الدِّين والتشنيع على المتدينين وتقبيح ظهور الشعائر الإسلامية وتمكينها في المجتمع. والأسوأ من هذا ـ بالنسبة لهم ـ هو أن إرجاع الأمور إلى «وضعها الطبيعي» وإلى «نصابها الصحيح» سيقطع ألسنتهم؛ فإنهم إن تكلموا ـ بعد ذلك ـ علم الجميعُ أن عداءهم إنما هو ضدَّ: «صوت الأذان» الذي هو من أهم شعائر دار الإسلام، ومن أهم خصائص الهوية الإسلامية للمجتمع المسلم. ومن المعلوم من النصوص الشرعية والسيرة النبوية أن قطع ألسنة المنافقين، وسد ذرائع تشنيعهم على المسلمين؛ من المقاصد الشرعية المعتبرة.

أيها الشاب الغيور على دينه، ثبتك الله على الحق والهدى: قد كشفتُ لك ـ بعون الله ـ حقائق الأمور، ومحَّصتُ لك النصيحة؛ فالزم طريقة العلماء، فإنهم أهل التدين والتجرد، وأهل التوسط والاعتدال، واحذر من «ألاعيب» السياسيين و«مناكفات» الحركيين، ولا عليك بتشنيعات «الليبراليين» و«العلمانيين»؛ فإن الله تعالى ناصر دينه. واعلم أنَّ الحالة الراتبة المستقرة من التدين لله تعالى وإقامة دينه هي التي ستبقى في الأرض ما شاء الله سبحانه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}، والحمد لله رب العالمين.

كتبه:

عبد الحق التركماني

ليستر: الخميس 22 شوال 1442، الموافق: 3 حزيران 2021

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد