موقع الشيخ عبد الحق التركماني - العقيدة الفطرية للمسلمين الجُدد في الصفات الإلهية

/ 21 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

العقيدة الفطرية للمسلمين الجُدد في الصفات الإلهية

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 29 أيار 2021 1872

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ Ÿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ Ÿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ Ÿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ}.

أما بعد: فإن من أهمِّ الشبهات التي يوردها أهل الكلام ـ من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ـ على نصوص القرآن الكريم وصحيح الأحاديث النبوية التي جاءت بالإثبات الصَّريح المفصَّل لأسماء الله الحسنى وصفاته العُليا؛ زعمهم أن إنكار ظواهر تلك النصوص، والمصير إلى تأويلها بمعانٍ أخرى، أو تفويض معناها، وتفريغها من مدلولها؛ ضرورةٌ عقليَّةٌ، فإن من لم يهربْ من ظواهرها إلى التأويل والتفويض؛ يقع في التشبيه والتمثيل، ويُثبت لله تعالى ما تحيله الفطر السليمة، والعقول القويمة. وبناء على هذه الشبهة ـ وهي أصل من أصول اعتقادهم ـ صرَّح بعض أئمتهم بأنَّ: «الأخذ بظواهر القرآن والسنة من أصول الكُفر»، كما قال السنوسي (ت: 885) في «شرح أم البراهين» 217، والصاوي في «حاشية تفسير الجلالين» (سورة الكهف: 23).

وهذه الجرأة والوقاحة في حقِّ كلام الله تعالى ـ الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ـ من لوازم عقيدة المتكلمين أجمعهم، متقدميهم ومتأخريهم، وإذا كان هذا اللفظ الشنيع لا يجرأ عليه إلا متأخر مثل السنوسي والصاوي، فإن معناه متقرر عند أئمتهم السابقين، مسلَّمٌ به:

قال أبو المعالي الجويني (ت: 478) في «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد» (مكتبة الخانجي، القاهرة: 1369/1950، 155 - 158): «ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفاتٌ ثابتةٌ للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل». ثم ذكر الجوينيُّ مخالفته لهم، فصحَّح تأويلها، ثم قال: «ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات؛ ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات، تمسكًا بالظواهر»، ثم قال: «وكنا على الإضراب عن الكلام على الظواهر، فإذْ عرَضَ؛ فسنشير إلى جمل منها في الكتاب والسنة، وقد صرَّح بالاسترواح إليها: الحشويةُ، الرَّعاعُ، المجسِّمة».

وذكر أبو الحسن الآمدي (ت: 631) ـ أحد أئمة الأشعرية ـ في «غاية المرام في علم الكلام» 136 - 138 من صفات الله تعالى: الوجه، واليدين، والعينين، والنور، والجنب، والساق، والقدم، والنزول، والاستواء، وذكر نصوصها من القرآن والأحاديث، واستخفَّ بها بقوله: «فالمستند فيها ليس إلا المسموع المنقول، دون قضيات العقول»، ثم قال: «واعلم أن هذه الظواهر ـ وإن وقع الاغترار بها بحيث يقال بمدلولاتها، ظاهر من جهة الوضع اللغوي والعرف الاصطلاحي ـ؛ فذلك لا محالة انخراط في سلك نظام التجسيم، ودخول في طرف دائرة التشبيه، وسنبين ما في ذلك من الضلال، وفي طيِّه من المحال إن شاء الله».

قال عبد الحق التركمانيُّ عفا الله عنه: إن أصل المتكلمين هذا يقضي بالحكم الصريح ـ الذي لا نحتاج معه إلى الإلزام بلوازم القول ولا بالاحتمالات البعيدة ـ بأربعة أصولٍ كليَّةٍ لا مفرَّ منها:

الأصل الأول: أن إثبات صفات الله تعالى الذاتية والفعلية، كما جاءت في صريح القرآن وصحيح السنة؛ أصل من أصول الكفر، لا يُستثنى من هذا إلا الصفات التي أثبتها المتكلمون بعقولهم، كالصفات السبع عند الأشاعرة.

الأصل الثاني: أن هذا الإثبات مخالف لحكم العقل مخالفةً قطعيةً.

الأصل الثالث: وبناء على الأصلين السابقين فإن هذا الإثبات لا يقول به إلا: «الحشويةُ، الرَّعاعُ، المجسِّمة»، والرَّعاع هم الجهلة الأرذال، قال في «تاج العروس»: «رَعاع الناس: غَوغاؤهُم وسُقَّاطهُم وأَخلاطهم».

الأصل الرابع: أن إثبات الصفات الإلهية لما كان أصلًا من أصول الكفر، ومخالفًا للعقل، ولا يُقرُّ إلا جاهل سفيه؛ فإن الإخبار عنها، والعلم بها، والإقرار بحقيقتها، وتعليمها؛ لا يزيد الإنسانَ إلا كفرًا وضلالًا، وبُعدًا عن الحقِّ والهدى، فيكون في غاية قلق النفس واضطراب العقل وضيق الصدر.

لست هنا في صدد ردِّ هذه الأصول الباطلة، وبيان فسادها على وجه التفصيل، فقد استوفى أئمة السنة ـ من السلف والخلف ـ البحث في ذلك، فكفوا ووفوا، ومنهم: العلامة محمد الأمين الشنقيطيُّ (ت: 1393) في «أضواء البيان» [سورة محمد: 24]؛ فقد نقل كلام الصاوي، ثم ردَّ عليه ردًّا قويًّا مُبينًا، أجاد فيه وأفاد ـ رحمه الله تعالى وأحسن مثوبته ـ، ولولا طوله لنقلته برمته، فليراجعه طالب الحقِّ في هذه المسألة العظيمة، لكني أكتفي بمقابلة هذه الأصول الباطلة بأصول الحقِّ على وجه الإيجاز:

الأصل الأول: آمنا بأن القرآن كلام ربنا، أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بلغناه كما نزل عليه، وحفظه الله من التحريف والتبديل؛ فحاشى أن يكون ربُّنا وخالقنا ومولانا قد خاطبنا بكلام ظاهره الكفر، ومقتضاه الزيغ والضلال لا الهدَى والرشاد، ثم حاشى أن يكون الصادق المصدوق والناصح الأمين صلى الله عليه وسلم قد علَّمنا وأخبرنا بما هو أصل من أصول الكفر، دون أن يبيِّن لنا وجه الكفر فيه، ولا أن يحذرنا منه.

الأصل الثاني: لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم هم أطهر فطرةً، وأصح عقولًا، وأفصح ألسنةً، وأشدُّ ذكاء من هؤلاء المتكلمين؛ فآمنوا به، وصدقوه فيما أخبرهم به من أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، دون معارضة ولا استشكال، ثم إنهم نقلوه إلينا كما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن ينبهونا على ما فيه من مخالفة العقل واستهجان العقلاء!

الأصل الثالث: أن الذين اعتقدوا إثبات صفات الله تعالى حقيقةً هم خير الناس وأفضلهم ـ بعد الأنبياء والمرسلين ـ: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين زكاهم الله في كتابه فقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، ثم تبعهم على ذلك أئمة الهدى ومصابيح الدجى من أئمة التابعين وأتباعهم وأتباع أتباعهم، وأئمة العلم بالقرآن والحديث والفقه في كل عصر ومصر. فهم من علماء المسلمين لا من جهالهم، ومن أشرافهم لا من سفهائهم.
وما أحسنَ ما قالَه الإمام الفقيه شريك بن عبد الله النخعيُّ الكوفي (ت: 177) رحمه الله تعالى؛ فقد أخرج عبد الله ابن الإمام أحمد في «السنة» (509)، والدارقطني في «الصفات» (65) عن عباد بن العوام الواسطي قال: قدم علينا شريك بن عبد الله فقلتُ له: يا أبا عبد الله، إنَّ عندنا قومًا ‌من ‌المعتزلة ‌ينكرون ‌هذه ‌الأحاديث: «إن الله عزَّ وجلَّ ينزل إلى سماء الدنيا»، و«إنَّ أهل الجنة يرون ربَّهم»؛ فحدثني شريكٌ بنحو من عشرة أحاديث في هذا، وقال: «أما نحن فقد أخذنا ديننا عن أبناء التابعين، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم عمَّن أخذوا».

الأصل الرابع: أن الله تعالى قال في صفة كتابه: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)}، وقال في صفة رسوله صلى الله عيله وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)}، وقد أخبرنا الله تعالى عن ثمرة التفصيل في كتابه، وثمرة دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم، بما فيهما من الإخبار بصفات الله تعالى وأفعاله؛ أنها لا تزيد الناس إلا هدًى ورشادًا، ولا تزيد المؤمنين إلا إيمانًا ويقينًا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)}، وقال سبحانه: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}، وقال عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}.

ومن المسلَّم به عند جميع المسلمين أن تلاوة كتاب الله، وتعلُّم أخباره وأحكامه، والتدبر في معانيه ومقاصده؛ من أعظم أسباب زيادة الإيمان واليقين والثبات، وانشراح الصدر، وسعادة النفس؛ رغم أنه لا تخلو صفحة من صفحاته من ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الذاتية والفعلية.

قال عبد الحق التركماني عفا الله عنه: لقد تأملت هذه الأصول الأربعة عند أهل الأهواء والبدع، وتأملت ما يقابلها عند أهل الإيمان والسنة؛ فهداني الله تعالى إلى مجال عظيم من مجالات البحث فيها، يكون إضافة عصرية مهمة إلى ما سبقنا إليه أئمة العلم والسنة في تقريره وبيانه ورد باطل أهل الفلسفة والكلام، وذلك بأن نطبِّق هذه الأصول على «المسلمين الجدد» وندرس آثارها في إيمانهم واعتقادهم، ونسجِّل مواقفهم وتجاربهم.

أقصِد بالمسلمين الجدد: الرجال والنساء الذين نشئوا في بيوتٍ ومجتمعاتٍ كافرةٍ، سواء كانوا من أهل الكتاب من اليهود أو النصارى، أو من الوثنيين، أو من الملاحدة اللادينيين، ثم هداهم الله تعالى إلى الإسلام، سواء كان سبب إسلامهم بحثهم الذاتي عن الدين الحق، أو تأثرهم بحدثٍ أو موقف معيَّن في حياتهم، أو استجابتهم لمن دعاهم إلى الإسلام من المسلمين. فهؤلاء ـ جميعًا ـ كانوا لا يعرفون عن العقيدة الإسلامية شيئًا، فصار فهمهم لها مبنيًّا على التلقي الأولي المباشر، بخلاف من ولد في بيتٍ مسلم أو نشأ في مجتمع مسلم، فإنه لا بدَّ قد تلقى شيئًا من العقائد والمفاهيم الإسلامية بالسماع والمخالطة والتلقين، ولن يخلو ذلك من التأثر بتقريرات العقائد لدى علماء المسلمين؛ سواء كانت سلفية سُنِّية، أو خلفية كلامية بدعية.

إنَّ الأصل في «المسلمين الجدد» أنهم يتلقون مبادئ العقيدة الإسلامية ـ في أول تعرفهم على الإسلام ـ بصورتها الأصلية العامة، حيث يحرص الدعاة من مختلف الفرق والجماعات على تقديم تعريف عامٍّ بأصول الإيمان وأركان الإسلام، دون الخوض في تفاصيل الاختلافات والتأويلات.

كذلك؛ فإن أكثر من وفقهم الله إلى الإسلام يحرصون على دراسة الدين الجديد من خلال كتابه المقدَّس «القرآن الكريم»، وعامة ترجمات معاني القرآن المتداولة في اللغات الأجنبية ـ وعلى الأخص في اللغة الإنكليزية ـ تعتمد الترجمة الحرفية دون التدخل في تحريف النص بما يوافق المذهب الاعتقادي للمترجم. وأضرب على هذا بعض الأمثلة من خلال النظر في (12) ترجمة متداولة بالإنكليزية (يوسف علي، محسن خان، صحيح انترناشيونال، محمد حجاب، الرواد، بكتال، د. غالي، تقي عثماني، عبد الحليم، معارف، جسور، مصطفى خطَّاب):

1- قوله تعالى في سورة المائدة (64): {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}؛ اتفقت جميع الترجمات ـ عدا مصطفى خطَّاب ـ على الترجمة الحرفية: «كلتا يديه ممدودتان».

2- قوله تعالى في سورة الرحمن (27): {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}؛ اتفقت جميع الترجمات على الترجمة الحرفية: «وجه ربك»، عدا مصطفى خطاب الحريص على التأويل الأشعري، فترجم الوجه بالنفس: «ربك نفسه»، لكنه قال في الهامش: «المعنى الحرفي: وجه ربك».

3- أما الصفات الإلهية الفعلية الاختيارية، التي تكررت في مواضع كثيرة من القرآن العظيم، كالرحمة والمحبة والرضا والغضب والكره والسخط وغيرها، في مثل قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، و{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، و{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}، و{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ}، و{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، في آيات أخرى كثيرةٍ جدًّا، هي من أشدِّ آيات الصفات إيلامًا للجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، فإنهم يزعمون أن إثباتها في حقِّ الله تعالى من أعظم المحالات، فلا بدَّ أن تؤوَّل بإرادته وفعله، ولا تضاف صفةً إلى نفسه المقدَّسة، ومن أضافها إلى الله تعالى ـ اتباعًا لصريح القرآن ـ فهو مِنَ: «الحشوية، الرَّعاع، المجسِّمة» وَفق تعبير الجوينيِّ!

والمقصود: أن هذه الصفات الإلهية ـ كالرحمة والمحبة والرضا والغضب والكره والسخط ـ قد أطبق مترجمو معاني القرآن إلى اللغة الإنكليزية على ترجمتها ترجمةً حرفيَّةً، حيث ذكروا ما يقابل هذه المعاني في الإنكليزية فأضافوها إلى الله تعالى، ولم يتطرقوا إلى تحريفها وتأويلها، ولا حذَّروا قرَّاءهم من أخذها بظاهرها واعتقاد إثباتها لله تعالى.

لقد كانت نتيجة فعلهم هذا: أن كل من يقرأ ترجمتهم ـ سواء كان القارئ مؤمنًا به أو كافرًا ـ يتعلَّم أن الله تعالى متَّصفٌ ـ وفق النص القرآني ـ بهذه الصفات في ذاته وأفعاله، ويرسخ في ذهنه هذا المفهوم بضرورة دلالة اللغة والعقل، ولا يمكن أن يخالفه إلا أن يبتلى بتعليمٍ مدرسيٍّ من قبل مسلم متكلِّم يشرح له مبادئ تحريف النصوص باسم علم الكلام والتأويل، لهذا قلتُ في أول كلامي: «إنَّ الأصل في المسلمين الجدد»؛ لأني أعلم أنه قد طرأ على هذا «الأصل» عند بعض من هداهم الله تعالى إلى الإسلام انحرافٌ كلاميٌّ، إما لأنهم عرفوا الإسلام ابتداءً بتأويلات المتكلمين ـ وهذا قليل ـ، وإما لأنهم التحقوا بعد إسلامهم بالدراسة في مدارس أهل الكلام والتصوف أو معاهدهم وجامعاتهم؛ فتلقوا عنهم العقائد الكلامية، وفي الغرب اليوم بعض الدعاة من هذا الصِّنف.

قال عبد الحق التركماني عفا الله عنه: لقد أجريت دراسة مبدئية على هذه القضية المهمة، وتباحثت مع بعض «المسلمين الجدد»، ممن مضى عليهم إسلامهم سنوات طويلة، وحسن إسلامهم، وتعلموا كثيرًا من مسائل العقيدة والشريعة، وبعضهم طلب العلم حتى بزَّ فيه؛ فتوصلت من خلال تلك الدراسة والمباحثة إلى نتائج أولية مهمة جدًّا، أعرضها في ضوء الأصول الأربعة التي ذكرتها آنفًا:

الأصل الأول: لقد اتفق الجميع على أنهم فهموا من نصوص القرآن والأحاديث ومن الكتب الدعوية التي اطلعوا عليها قبل إسلامهم؛ أن العقيدة الإسلامية تثبت الصفات الإلهية لله تعالى، فله سبحانه وجه وعينان ويدان حقيقةً، وهو متصف بالمحبة والرحمة والرضا والغضب والسخط حقيقةً، لهذا فهو يحب ويرضى ويغضب ويسخط حقيقةً. ولم يخطر ببالهم أن هذه العقائد محل خلاف بين المسلمين أنفسهم إلا بعد أن اطلعوا على تلك الخلافات بعد سنوات من إسلامهم.

الأصل الثاني: أن هذا الإثبات مخالف لحكم العقل مخالفةً قطعيةً؛ قالوا: لا، بل إثبات الصفات الإلهية الذاتية والفعلية وافقَ فطرنا البريئة، وعقولنا الخالية من الفلسفات والمذاهب الكلامية، فانشرحت صدورنا للإثبات، فآمنَّا وصدَّقنا، من غير أن تكون هذه المسألة محل حيرة أو اعتراض أو استشكال فطري أو عقلي.

الأصل الثالث: أن إثبات الصفات الإلهية كلها كما وردت في القرآن والأحاديث لا يقول به إلا: «الحشويةُ، الرَّعاعُ، المجسِّمة»؛ قالوا: نربأ بكم أن تتهمونا بالضلالة والجهالة والسفاهة، وقد تلقينا كتاب الله تعالى وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم بالتسليم والقبول والإيمان المطلق، ولقينا بسبب ذلك مشقة بالغة، سواء من جهة طلب الحق ومخالفة الشيطان والنفس والهوى، أو من جهة تركنا لما نشأنا عليه ومفارقتنا لوالدينا وإخواننا وبني جلدتنا، وتحملنا الأذى المعنوي والمادي في سبيل الله تعالى، إيمانًا واحتسابًا لما آمنا به بمحض اختيارنا وإرادتنا ـ بعد توفيق الله وهدايته ـ مع كثرة دواعي البقاء على الكفر.

الأصل الرابع: أن إثبات الصفات الإلهية على وجه التفصيل الذي جاء به القرآن والحديث من أعظم أسباب الكفر والضلال، والمفترض فيه أن يكون منفرًّا من الإسلام لأنه يصوره بصورة الدين الوثني الذي يعتقد في الخالق التشبيه والتمثيل؛ قالوا: سبحانك هذا بهتان عظيم، بل إن ما وجدناه في كتاب الله تعالى من التفصيل والإطناب والتكرار وتنويع العبارة في الإخبار عن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا؛ كان من أعظم أسباب إقبالنا على الله تعالى واطمئنان نفوسنا وانشراح صدورنا إلى أن هذا الكتاب هو كلام الله حقًّا، فإنَّ ربنا وخالقنا وسيدنا ومولانا عرَّفنا بنفسه المقدسة وبأسمائه وصفاته. لقد جعلنا هذا نستحضر صفاته؛ فنسعى في محبته ورضاه، ونخاف من غضبه وسخطه. فالحقيقة أن باب الأسماء الحسنى والصفات العليا أعظم أبواب الدخول في الإسلام، ورسوخ الإيمان، وليس من أسباب النفور والإعراض عن دين الإسلام.

قال عبد الحق التركماني عفا الله عنه: هذه النبذة كافية في بيان فكرة هذا البحث وأهميته ومحاوره ومقاصده ونتائجه، وليس غرضي أن أحجزه فأدعي العمل فيه حالًا، فإني مشغول الآن بغيره، ولا أظن أنني أتفرغ له قريبًا، لهذا فإني أسأل الله تعالى أن يوفق إلى الاشتغال به بعض من هو أهلٌ لذلك من طلبة العلم والباحثين، وأقترح هاهنا ثلاث خطط للتنفيذ:

الأول: أن تعتمد إحدى الجامعات الإسلامية هذا الموضوع لأطروحة دكتوراه، بشرط أن يكون الباحث متقنًا لعددٍ من اللغات، أو على الأقل: اللغة الإنكليزية، ويُلزم بإجراء لقاءات واستبيانات علمية مع ألف شخص من المسلمين الجدد.

الثاني: أن تتولى إحدى الجهات الإعلامية إنتاج برنامج تلفزيوني حول هذا الموضوع، يشتمل على لقاءات شخصية مع مئات من الذين هداهم الله تعالى إلى الإسلام.

الثالث: أن يتولى أحد المراكز البحثية مشروع هذا البحث، ويفرغ له مجموعة من الباحثين الأكْفاء، ويجعل على رأسهم لجنة علمية من أفاضل العلماء المتخصصين في العقيدة، يضعون خطة علمية محكمة لإجراء المقابلات والاستبيانات، ثم تصاغ النتائج في بحث علمي محكَّم.

يجب الالتزام في هذه الخطط ـ كلها ـ بموضوع البحث بشكل دقيق، بحيث يكون الحديث معهم مركزًا ومباشرًا في المحاور المذكورة، وليس في قصص إسلامهم وحياتهم وتجاربهم في المجالات الأخرى المتعلقة بإسلامهم. ولا بأس من إضافة محاور تقع في صُلب الموضوع، أو تتصل به اتصالًا قويًّا؛ مثل: المقارنة بين العقيدة الإسلامية والعقائد التي كانوا عليها، فالتشبيه والتمثيل موجود عند أهل الكتاب والوثنيين؛ فهل تبادر إلى ذهنهم أن إثبات الصفات في الإسلام مشابه ومقارب للإثبات في تلك العقائد الباطلة؟

إن أهمية هذا الموضوع، وتعلقه بأصل الدين، وثمرته العظيمة في إبطال تشغيبات أهل الفلسفة والكلام ـ الذين رفعوا عقيرتهم في هذه الأيام ـ ليستحق أن تجمع هذه الخطط الثلاث كلها عملًا وتنفيذًا ونشرًا.

هذه فكرة رأيت أن ألقيها إلى الناس اليوم، لعلها تتحول إلى مشروع، ثم إلى ثمرة ناضجة نافعة؛ إن شاء الله تعالى، ومن أحب من أهل العلم وطلابه أن يتصل بي لمناقشتها وتطويرها؛ فحياه الله وبياه.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}.

كتبه:

عبد الحق التركماني

ليستر: ليلة السبت 17 شوال 1442، الموافق: 29 أيَّار 2021.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد