موقع الشيخ عبد الحق التركماني - بابا الفاتيكان واستشهاد غير موفق بابن حزم

/ 28 مارس 2024

للتواصل 00447432020200

بابا الفاتيكان واستشهاد غير موفق بابن حزم

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 1 يوليو 2019 838

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

لم يكن البابا في محاضرته المسيئة إلى الدين الإسلامي عالمًا محقِّقًا وباحثًا حرًّا، بل كان مقلِّدًا لمعلِّقٍ على كتاب؛ فسقط سقطة بالغة، ووقع في خطإٍ بعيدٍ عن المنطق والعقل. ذلك لأن الفكرة التي طرحها البابا تقوم على استحضار بُعدٍ عقليٍّ في محاورة الإمبراطور مانويل الثاني للمثقَّف المسلم الفارسي، نبَّه عليه محقِّقُ كتاب الإمبراطور عالم اللاهوت الألماني ـ اللبناني الأصل ـ: تيودور خوري، وعزا الفضل في ذلك إلى كون الإمبراطور (بيزنطيًّا، تعلَّم من الفلسفة الإغريقيَّة)، ولم يكن بإمكان المحاور المسلم ـ المحروم من الثقافة الإغريقيَّة! ـ فهم هذه المحاجَّة العقليَّة، حيث يستند إلى (العقيدة الإسلامية) وفيها ـ كما قال خوري ـ: (أن الربَّ مشيئته مطلقة، وإرادته ليست مرتبطة بأيٍّ من مقولاتنا أو بالعقل). ويمضي البابا في تقليد خوري في تدعيمه رأيه بالاستشهاد بكلمة للمستشرق الفرنسي روجيه أرنالديز الذي قال: (إن ابن حزم (الفقيه الذي عاش في القرنين العاشر والحادي عشر) ذهبَ في تفسيره إلى حدِّ القول: إن الله ليس لزامًا عليه أن يتمسَّك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه على أن يطلعنا على الحقيقة.) وهكذا يكون خوري قد دعم زعمه بالاستشهاد بابن حزمٍ كنموذج للظاهرة غير العقلانية وغير المنطقية في العقيدة الإسلامية، بمقابل الظاهرة العقلانيَّة في المسيحيَّة التي استفادت من الفلسفة الإغريقيَّة. ووجد البابا في دعوى خوري مبتغاه، فهو من جهة تنطوي على نزعة عنصريَّة تمجِّدُ الثقافة الإغريقيَّة كأساس للتفكير العقلي، وتدعم ـ من جهة أخرى ـ فكرة افتقار العقيدة الإسلامية للبعد العقلي، ذلك الافتقار الذي كان يمكن أن يُسدُّ بالاستفادة من (الفلسفة الإغريقيَّة) ـ وهنا تظهر النزعة العنصريَّة ـ، أو بالفهم التلقائي البديهي ـ وهنا تظهر نزعة الانتقاص والاحتقار ـ. ولست هنا في صدد مناقشة هذه الفكرة من جميع جوانبها، لكنِّي أكتفي بالإشارة إلى خطإِ البابا في تقليد خوري فيما يخصُّ الاستشهاد بالإمام أبي محمد ابن حزم الأندلسي رحمه الله، من خلال النقاط التالية:

1- إنَّ أغلب المستشرقين والمؤرخين الغربيين ـ ومنهم: دوزي، ونيكلسون، وجولد تسيهر، وسانتشت البرنس، وغرسيه غومث مترجم (طوق الحمامة) إلى الإسبانية ـ يعدُّون ابن حزمٍ أوربيَّ النَّسب، وبه يفسِّرون ظاهرة العبقرية والتألق والعالمية في فكره، وهذا وإن لم يكن مسَلَّمًا به ـ بل هو كما أخبر عن نفسه فارسيُّ النَّسب عربيُّ الولاء ـ فإنَّ مما لا شكَّ فيه أنَّه (أوربيٌّ) ليس فقط جغرافيًّا، بل أيضًا بإتقانه للغة اللاتينيَّة، ومعرفته بالفلسفة الإغريقية، تلك المعرفة التي دفعته إلى الإعجاب والانبهار بالمنطق الأرسطي، حتَّى زعم أنَّه معيارٌ للعلوم كلِّها، ومن ثمَّ أجهد نفسه في دراسته وفهمه أولاً، وفي جعله أساسًا لنظرياته وأصوله المعرفية والفكرية ثانيًا، وفي تقريبه لقرَّاء العربية من خلال كتابه: (التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية) ثالثًا، ولهذا يعدُّ بحقِّ أول من أدخل المنطق في علم أصول الفقه. واستخدام ابن حزم للمنطق الإغريقي وتأثره به معروف لدى الدارسين لفكره، وهو ما أكَّده روجيه أرنالديز ـ نفسُه ـ في رسالته الجامعية: (النحو والكلام عند ابن حزم القرطبيِّ) التي نشرت عام 1956م.

2- ولم يقف أخْذُ ابن حزم بالمنطق الأرسطي عند هذا الحدِّ، بل جعله أيضًا معيارًا لعقيدته في الله تعالى، فأخذ بنظرية أرسطو بأنَّ الخالق لا يدخلُ تحتَ جنسٍ ولا حدٍّ، ولا يمكن أن يوصفَ بصفة من الصفات كالحياة والحكمة والسمع والبصر والكلام وغيرها، وردَّد هذا في مواضع من كتابه (التقريب) تأصيلاً وتقعيدًا، واعتمده في كتابه (الفِصَل) عقيدة جازمة أَوَّلَ من أجلها نصوص القرآن والسنة وخالف إجماع الصحابة وأهل السنة والأثر، رغم إقراره واعترافه بأنَّ الحقَّ منحصر فيهم، وأنَّ مَن عداهم فأهل البدع والضلالة. وهذا ما دفع كثيرًا من علماء الإسلام إلى الردِّ على ابن حزمٍ واتِّهامه بأنَّ جهميٌّ (نسبة إلى الجهم بن صفوان) وبموافقة القرامطة، ولم يكن ابن حزم جهميًّا ولا قرمطيًّا، بل كان أثريًّا ظاهريًّا، لكنه التقى هو وجهم بن صفوان على مائدة أرسطو، ففسدت عقيدتُه وخرج عن حدود الشرع والعقل.

3- إذا عُلم ذلك فإن ما ذهب إليه ابن حزمٍ مِنْ (أنَّ الله ليس لزامًا عليه أن يتمسَّك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه على أن يطلعنا على الحقيقة) هو في حقيقته ما يسميه علماء أهل السنة بتعطيل الصفات وإنكار حقائق الأسماء الحسنى، وهو ما اضطرَّ إليه ابن حزم بعد أن ترسَّخ في ذهنه ـ بفضل (الفلسفة الإغريقيَّة)! ـ أن من ضروريات العقل: إثبات حقيقة مجرَّدة للخالق لا تخضع لأي اعتبار عقليٍّ! وأخفق في ذلك إخفاقًا خطيرًا، وإنما هو من ضروريَّات العقيدة الأرسطية، ونتج عن ذلك نفيُه الحكمةَ والتعليل في أفعال الله تعالى، فجعل نفس ما يريده الله تعالى ويفعله حقًّا وخيرًا وصوابًا وحكمةً وعدلاً من غير إثبات هذه المعاني لإرادة الله تعالى وفعله، لأن إثباتها يقتضي جعل الإرادة والفعل تبعًا لها، وهو مما يستلزم إثبات الصفات لله تعالى، وهذا محالٌ في عقيدة أرسطو! ثم قاده هذا الأصل الفاسد إلى نفي الحكمة والتعليل والمقاصد في أحكام الشريعة أيضًا!

4- وهكذا يتبيَّن بجلاء أنَّ الاستشهاد بابن حزم سقطة علمية كبيرة، فما يؤاخذ عليه إنَّما هو من آثار الفلسفة الإغريقية على عقيدته وفكره، فكيف تكون ظاهرة العقلانية عند الإمبراطور من آثار ثقافته الإغريقية، بينما تكون تلك الثقافة نفسها سببًا للاعقلانية ابن حزم!؟

5- وإذا تجاوزنا ابن حزمٍ لنرجع إلى الأصول العالية للعقيدة الإسلامية في الكتاب والسنة من خلال الاعتقاد الذي كان سائدًا في العصور الإسلامية الأولى، نجد السلف الصالح ومن سار على نهجهم من أئمة السنة والحديث موافقين للعقل من حيثُ موافقتهم للنقل، فلم يتثبتوا لله تعالى إرادة مجرَّدة، بل اعتقدوا أنها مرتبطة بالصفات الأخرى له سبحانه، وكلها صفات كمال مطلق، فكلُّ ما يريده الله تعالى ويفعله فبمقتضى عدله المطلق، وحكمته البالغة، ورحمته التامة، وعلمه المحيط بكلِّ شيءٍ. وعقل الإنسان ليس حاكمًا على الله تعالى، لكنَّه قادرٌ على معرفة وإدراك حكمة الله تعالى وعدله من خلال النظر في كتابه الكريم، والتفكر في الآفاق والأنفس، والفهم لحقائق الإرادة الشرعية والإرادة الكونية ومقاصدهما، وعند ذلك يدرك أنَّ كلَّ أمرٍ قبيح وسيِّءٍ فهو قبيحٌ وسيءٌ عند الله؛ لكن الحكم بذلك وما يترتَّبُ عليه متوقفٌ على ورود الوحي المخبر عن الله تعالى. وعلى هذا الأساس السلفي رفع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله شعار: (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول)؛ ليقرِّر بنصوص الكتاب والسنة ـ في عملٍ موسوعيٍّ فريد ـ أن الشرع الذي هو أمر الله لا يمكن أن يخالف العقل الذي هو خلق الله، فالأمر والخلق كلاهما من الله، فلا يمكن أن يتعارضا ويتناقضا: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]؛ وإنما دخلت على المسلمين دعوى التعارض والتناقض من المناهج الفلسفية والبدع الكلاميَّة التي ابتلي المسلمون بها بعد ترجمة (الفلسفة الإغريقية) ودخول (الثقافة اليونانية) و(منطق أرسطو) على مناهجهم في العقيدة والفكر.

هذه جملة النقاط التي أحببتُ الإشارة إليها باختصارٍ حول استشهاد البابا بابن حزم؛ تقليدًا لغيره، وهي كافية لهدم الأساس الذي بنى عليه البابا فكرته حول الإيمان والعقل. وتوثيق هذا البحث والتوسع فيه في كتابَيْ ابن حزم: (التقريب لحدِّ المنطق) و(الدرة فيما يجب اعتقاده)، وكلاهما تحت الطبع بدراستي وتحقيقي، والحمد لله رب العالمين.

كتبه:

عبد الحق التركماني

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد