موقع الشيخ عبد الحق التركماني - الاعتقاد في القرآن العظيم بين تديُّن ابن حزم واستخفاف حاتم العوني

/ 20 أبريل 2024

للتواصل 00447432020200

الاعتقاد في القرآن العظيم بين تديُّن ابن حزم واستخفاف حاتم العوني

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 30 يوليو 2021 3135

الاعتقاد في القرآن العظيم

بين تديُّن ابن حزم واستخفاف حاتم العوني

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، وأشهد أن القرآن كلام الله تعالى لا ريب فيه ولا مِين.

أما بعد: فقد أطلعني بعض طلبة العلم على منشور جديد للدكتور حاتم بن عارف العوني، نشره على صفحته بمنصة (فيسبوك) بتاريخ: 14/7/2021، قال فيه:

«أصول الإيمان في الموقف من القرآن الكريم: ١- الإيمان بأنه منزل من الله تعالى على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم».

ثم ذكر أصولًا في هداية القرآن، وحفظه، وتعظيمه والتعبد بتلاوته، وقال: «وكل طوائف المسلمين تؤمن بذلك كله، ولولا ذلك لما كانوا مسلمين»، ثم قال: «وليس من اعتقد خلق القرآن ناقضًا شيئًا من ذلك، ولذلك لم يكن خلافه خلافًا في أصول العقائد الإيمانية في القرآن الكريم، وإنما في فروعه الظنية. ولولا فتنة خلق القرآن وإكراه الناس فيها، وسوء الظن بالمخالف، وتحريش الشيطان للتفريق بين الأمة = لما كان لهذه المسألة أن تأخذ ذلك الحيز الكبير المعلوم في تراثنا الإسلامي. وكل من ربط بين القول بخلق القرآن ومناقضة أصول الإيمان القرآنية السابقة فإنما يربط ببغيٍ لا يمت للحق والعدل بصلة. ولذلك لم يثبت عن الصحابة (رضي الله عنهم) الخوض في هذه المسألة، في حين أنهم قرروا تلك الأصول الإيمانية التي لا يصح الإيمان بالقرآن إلا بها. وعلى المسلمين: إن أرادوا الاتفاق والوحدة أن يدعوا النزاع في فروع العقائد الظنية، وأن يتمسكوا بأصولها اليقينية التي تجمعهم».

ولما ردَّ عليه بعض طلبة العلم بلطف وأدب؛ كتب العونيُّ ردًّا عليهم بقوله: «بعد أن كتبت المنشور السابق عن أصول الاعتقاد حول القرآن الكريم، وبيَّنت فيها أن مسألة القول بخلق القرآن ليست من أصول الاعتقاد في القرآن، وإنما هي من فروعه. كتب بعض المنتسبين للسلفية المعاصرة كلامًا سطحيًّا جاهلًا في الرد عليَّ، كعادتهم».

هذا هو حاتم العونيُّ؛ لم يستفد من تعقبات بعض طلبة العلم؛ بل قابلها بالتجهيل والتسفيه. لهذا فقد كتبتُ تعليقةً موجزةً نبَّهت فيها طلاب العلم على أن مشكلة العوني أكبر من أن تكون علمية أو اعتقادية، بحيث يمكن مناقشته للوصول إلى الحق. مشكلته أنه «مستخفٌّ»؛ ولا يرى من الدين إلا حدود ما يصلح دنياه. وقد قال أبو محمد ابن حزم: «ثق بالمتدين وإن كان على غير دينك، ولا تثق بالمستخف وإن كان على دينك». ولم يكن حضور سلمان العودة في افتتاح موقع العوني وقطعه (الكيكة) مجرد مشاركة صديق؛ بل اجتماعًا على فكر وعقيدة، ومشروعٍ مشترك في البواعث والأصول، وفي المقاصد والأهداف.

علينا أن نحارب «الفكر المستخفَّ» أو ما نسميه بالتفسير السياسي والنفعي والمادي والمصلحي للدين، وينبغي ألَّا ننشغل بالضلالات التفصيلية ـ وإن كانت في أصول الدين ـ التي يخرج بها علينا العوني وأمثاله يومًا بعد يوم، لأن أئمة السنة قد حسموا القول فيها وأعطوها حقَّها من البيان والتقرير وردِّ الشبهات، ولأن ضلال المستخفين ليس في أصول الدين فحسب، بل في أصل أصول الدين».

فكتب حاتم العوني ردًّا عليَّ قال فيه: «أحدهم ممن له تحقيقات لبعض الكتب ردَّ عليَّ في كلامي عن مسألة القول بخلق القرآن، وأنها ليست من أصول العقائد، بسباب وشتام يليق بمثله، وهذا ليس غريبًا عليهم، ولا هو بالجديد. لكن الذي أضحكني أنه أورد في رده عليَّ كلامًا لابن حزم! ذلك أن ابن حزم عندهم جهمي جلد، كما قال ابن عبد الهادي في الطبقات، والمتساهل منهم يقول: فيه تجهم. كما أن ابن حزم ممن يقول: إن كلام الله هو علمه، وهذا هو الذي ليس بمخلوق. وقد رد عليه ابن القيم في النونية. كما أن ابن حزم يصرح أن كلام الله قديم، ليس بمحدث، خلافًا لابن تيمية. أخيرًا ابن حزم أحد من صرح أن مسألة الخلاف في خلق القرآن من حواشي الكلام ومما لم يحدث في الصدر الأول ولا نصر الوحي فيه قولًا على قول بالقطع فيه. ذكر ابن حزم ذلك في كتابه الأصول والفروع بتحقيق التركماني. فما أشد ضعف من يرد عليَّ بالشتام والسباب، وبكلام من هو عنده جهمي ورأيه في الكلام هو ما سبق».

قال عبد الحق التركماني عفا الله عنه: لم أردَّ على حاتم العوني (بالشتام والسباب) كما زعم، بل الشتام والسباب بالتسفيه والتحقير ورمي محاوره بالجهل والتخريف والانتفاخ وغير ذلك من الألفاظ القادحة؛ سنة ماضية معروفة في ردود حاتم العوني ومناقشاته.

غاية ما هنالك أنني وصفته بما ينطبق على حاله، فقد كثرت شذوذاته، وتتابعت أقواله المنكرة، ونتيجة لهذا فقد استقرَّ في أذهان أهل العلم والإيمان أن العوني صاحب هوًى وجرأة بالغة في الخوض في دين الله بالباطل، وهذا ما عبَّر عنه ابن حزم بوصف: «المستخف».

ولا ينفع العوني تلبيساته وتشغيباته في هذا المقام، لأنني لم أحتجَّ بابن حزم في الاعتقاد، إنما ذكرتُ من كلامه قاعدة ذهبيةً نفيسةً في التفريق بين (المتدين) و(المستخف).

وأزيد المسألة هنا وضوحًا وتحريرًا فأقول:

إن العوني يريد أن يلبِّس على الناس دينهم بكلامه الجديد في القرآن الكريم:

أولًا: قد أخرج الاعتقاد بأن (القرآن كلام الله) مما سماه: (أصول الإيمان في الموقف من القرآن الكريم).

ثم إنَّ الدكتور مختارًا الجباليَّ ـ من جامعة الزيتونة في تونس ـ علَّق على منشور العوني بقوله: «وأين ـ يا شيخ ـ أصل أصول هذه الاعتقادات كلها، وهو: (الإيمان بأن القرآن: كلام الله تعالى)، الذي كان فيصل التفرقة بين أهل السنة وأهل البدع، وبسبب الاختلاف في هذه القضية تأسس (علم الكلام) ؟!». فردَّ عليه العونيُّ بقوله: «تحديد الأصل لا علاقة له بالمعارك العقدية؛ لأن الأصول لا تتحدد بمواقف البشر منها. وإنما تتحدد من جهة قطعية أدلتها وبصلتها بالشهادتين. وتحديد الأصل من الفرع في الدين لا يمكن أن يكون مرجعه غير الوحي أما تسميتها بأصل الأصول فهو خطأ كبير، لا علاقة له بالأصول الإيمانية التي جاء بها الوحي». فأنت ترى أن الشيخ الجباليَّ نبهه على التنصيص على أن القرآن: «كلام الله»، فلم يلتفت إلى تنبيهه، بل أصرَّ وكابر.

ثانيًا: احتج على هذا الإخراج: بالاختلاف (وهو اختلاف غير مسلَّم) في تكفير القائل بخلق القرآن.

وهذا من التدليس والتلبيس الذي يُتقنه حاتم العوني، فمسألة التكفير غير قادحة في الأصل المقرَّر عند عامة المسلمين ـ أهل السنة وأهل البدعة ـ أعني الأصل الاعتقادي: (القرآن كلام الله تعالى). فهذا قدر كليٌّ متَّفق عليه بين أهل الملة والقبلة، ولم يجرُؤْ أحد ممن ينتسب إلى الإسلام على نقضه، لكنهم اختلفوا في حقيقته وتأويله:

1- فأهل السنة والجماعة ـ الذين هم أهل الحق والهدى ـ زادوا ـ إبطالًا لبدع المتكلمين ـ قيدَ: «غير مخلوقٍ».

2- والمعتزلة زادوا بناءً على أصولهم الكلامية الفاسدة قيدَ: «مخلوق».

3- والأشعرية فسَّروا ـ بناء على طريقتهم التوفيقية الباطلة ـ بقيدِ: «وهو الكلام النفسي، غير مخلوق»؛ وأرادوا به: صفة الكلام، وبقيد: «عبارة عن كلام الله» وأرادوا به: القرآن الذي بين أيدينا، ويقولون: إنه مخلوق.

وجاء حاتم العوني بقول خالف فيه الجميعَ ـ جميع أهل القبلة والملَّة ـ، حيث امتنع عن وصف القرآن بأنه «كلام الله»، وأضرب عن ذكر هذا القيد عمدًا، واكتفى بوصفه بأنه: «منزل من الله تعالى»، ولما روجع فيه وذُكِّر أصرَّ ولم يستدرك.

فهذا القول الذي جاء به العونيُّ لا يقول به اليوم على وجه الأرض: سنيٌّ سلفيٌّ، ولا معتزليٌّ، ولا أشعريٌّ، ولا ماتريديٌّ، ولا إباضيٌّ.

ثم إن العوني تعلَّق في رده عليَّ بإنكار ابن حزم للتكفير في مسألة خلق القرآن؛ وكما ذكرتُ فإنني لم أحتجَّ عليه بابن حزم في مسائل الاعتقاد، وردودي على ابن حزم في العقيدة كثيرة ومعروفة، وما أحببتُ ابنَ حزم لما انحرف فيه أو ضلَّ، بل أحببته لأنه كان متدينًا معظمًا للقرآن والحديث وأحكام الشريعة، وقَّافًا عند حدود الله تعالى، وبهذا رفع الله تعالى ذِكْرَهُ في الأمة، وأثنى عليه الأئمة؛ لا بسقطاته وعثراته التي كانت أخطرها بسبب أخذه المنطق عن بعض المتفلسفة. ومن تديُّن ابن حزم وتعظيمه للدِّين أنه لمَّا تعلَّم أحكام الإيمان والإسلام كفَّر أكبر مشايخه في علم المنطق: ثابت بن محمد الجرجاني، ورماه بالإلحاد (انظر: مقدمة تحقيقي لكتاب «التقريب لحد المنطق» 62).

أما القرآن الكريم فقد جزم ابنُ حزم بأنه: «كلام الله غير مخلوق»، وإن ضلَّ في حقيقة ذلك، بل نقل الإجماعَ على ذلك، وأن منكرَه ـ أي منكر وصف القرآن بأنه: كلام الله ـ «كافرٌ»:

أولًا: قال ابن حزم في كتابه «مراتب الإجماع»: «‌‌باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر من خالفه بإجماع»، وذكر أصولًا ثم قال:

«وأنَّ القرآن المتلوَّ الذي في المصاحف بأيدي الناس في شرق الأرض وغربها من أول: {‌الْحَمْدُ ‌لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، إلى آخر: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}؛ هو كلام الله عزَّ وجل ووحيه، أنزله على نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم».

قلتُ: هذا صريح جدًّا أن ابن حزم عدَّ وصف القرآن بقيد: «كلام الله» من الأصول الاعتقادية الإجماعية التي يكفَّر من خالفها.

ثانيًا: وقال ابن حزم في كتابه العظيم: «المحلَّى» (المسألتان: 58 و59):

«مسألةٌ: ‌والقرآن ‌كلام ‌الله وعلمه غير مخلوقٍ. قال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ ‌سَبَقَتْ ‌مِنْ ‌رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 19] فأخبر عزَّ وجلَّ أن كلامه هو علمه، وعلمه تعالى لم يزل غير مخلوق. مسألةٌ: وهو المكتوب في المصاحف والمسموع من القارئ والمحفوظ في الصدور، والذي نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم: كل ذلك كتابُ الله تعالى وكلامُه ‌القرآنُ حقيقةً لا مجازًا، من قال في شيء من هذا أنه ليس هو ‌القرآن، ولا هو ‌كلام ‌الله تعالى فقد كفر، لخلافه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل الإسلام».

ثالثًا: وقال ابن حزم في «الدرة فيما يجب اعتقاده» المسألة: (28)، 356:

«والقرآن كلام الله عز وجلَّ، وهو علم الله تعالى، غير مخلوق»، وقال: «والقرآن كلام الله تعالى فهو غير مخلوق، لأنه علم الله تعالى. ومن قال: إن شيئًا مما ذكرنا مخلوق؛ فقد خرج عن الإسلام».

رابعًا: وقال ابن حزم في «الفصل في الملل والنِّحل» (3/5 ط: الأدبية = 3/13 ط: عميرة):

«وقالت ـ أيضًا ـ هذه الطائفة المنتميةُ إلى الأشعريِّ أن كلام الله تعالى عزَّ وجلَّ لم ينزل به جبريلُ عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نزل عليه بشيء آخر هو عبارة عن كلام الله تعالى، وأن الذي نقرأ في المصاحف ونكتب فيها ليس شيءٌ منه كلام الله عزَّ وجلَّ،... وقالوا: لم يزل الله تعالى قائلًا لجهنم: {‌هَلِ ‌امْتَلَأْتِ}، وقائلًا للكفار: {اخْسَئُوا فِيهَا ‌وَلَا ‌تُكَلِّمُونِ}، وقائلًا للكفار: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ‌فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}، ولم يزل تعالى قائلًا ـ لكل ما أراد تكوينه ـ: {كُنْ}.

قال أبو محمد: وهذا كفر مجرَّد بلا تأويل، وذلك أننا نسألهم عن القرآن: أهو كلام الله أم لا؟ فإن قالوا: «ليس هو كلام الله تعالى» كفروا بإجماع الأمة، وإن قالوا: «هو كلام الله عز وجلَّ» تركوا قولهم الفاسد. ونسألهم ـ أيضًا ـ عن القرآن الذي يُتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور: أهو كلام الله تعالى أم لا؟ فإن قالوا: «لا»؛ كفروا بإجماع الأمة، وإن قالوا: «هو كلام الله تعالى»؛ تركوا قولهم الفاسد، وأقروا أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف، ومسموع من القراء، ومحفوظ في الصدور، كما يقول جميع أهل الإسلام».

قلتُ: فهذا كلام ابن حزم صريحٌ بأن: «القرآن كلام الله»، وأنَّه: «غير مخلوق»، وأن من أنكر أنه «كلام الله فقد كفر»، ومن زعم أنه: «مخلوق فقد خرج عن الإسلام». ثم إن ابن حزم شنَّع على الأشعريَّة وعدَّ مذهبهم في القرآن «كفرًا مجردًا بلا تأويل»، ثم صرَّح بتكفيرهم إن أصروا على قولهم بعد المحاججة والإلزام.

وكلام ابن حزم في هذه الكتب هو المعتمد والحجة؛ أما «المحلى» فهو آخر كتبه، وقد مات دون إتمامه، وأما «الفصل» فهو حصيلة تحقيقاته في الاعتقادات والفرق وقد قُرأ عليه قُبيل وفاته.

لقد غفل العونيُّ عن جميع هذه الكتب الحزمية المحرَّرة المعتمدة، وشغَّب بكلمة لابن حزم في: «الأصول والفروع» وهي قوله (ص: 258، بتحقيقي):

« فَمِمَّا يُرَدُّ به على من كفَّر مسلمًا بخلافٍ في بعض مسائل الاعتقادات، أنْ يقالَ له: هل تركَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من الإسلام، مِمَّا يكفَّر معتقِدُ خلافِهِ إلَّا وقد بيَّنه للنَّاس ودَعَا الأُمَّةَ إليه؛ فهل بلغكم أنه أوجبَ على أحدٍ أنْ لا يَقْبَلَ إسلامَ قريةٍ، أو أهلَ حِصْنٍ، أو نصرانيّ ٍ، أو غيرِه؛ إلَّا بأنْ يَدْعُوَ إلى تَثْبِيتِ الاعتقادِ في خَلْقِ القرآنِ، أو إبطال خَلْقِهِ، أو تحقيق الكلام في الإرادة، والرُّؤية، والاستطاعة، والجَبْر، وغير ذلكَ مِنْ حواشي الكلام، وما لم يَحْدُثْ في الصَّدر الأوَّل؟».

قال التركمانيُّ: قد استعجل العونيُّ إذ فرح بكلام ابن حزم بمجرَّد اطلاعه على هذه الصفحة من الكتاب، وكان عليه أن يدرس الفصلَ كلَّه، ويراجع مقدمتي للكتاب؛ حتى يتبيَّن له حقيقة الأمر. وأرى من المناسب أن ألخِّص للقراء قصة ذلك:

إن الكتاب المسمَّى: «الأصول والفروع» ما هو إلا مسوَّدَةً أوليةً غير محررة ولا محكمة، كان ابن حزم جمع مادتها ليدخلها فيما بعد في كتاب «الفصل»، وقد فعل ذلك بعد تحرير مباحثها، وحذف بعض موادها، وهذه الفقرة من (باب: فيمن يكفر ومن لا يكفر بقول أو فعل)، وقد أدخله ابن حزم في «الفصل» بعد أن طوَّره وعدَّله، وقد نبَّهت على هذا في تعليقي عليه في «الأصول» فقلتُ 257: «تناول ابن حزم هذه المسألة في «الفصل» بتحقيق وتحرير، كما شرحته في المقدمة». وبيَّنتُ في تلك المقدمة 29-30 أن ابن حزم قد تخلَّى عن اشتراط الإجماع في التكفير، وقال في «الفصل» بالتكفير بالنصِّ، لكنَّه اشترط إقامة الحجَّة في تكفير المعيَّن، وأعاد صياغة هذه الفقرة التي ذكرها في «المسوَّدَة» ـ وهي التي فرح بها العونيُّ ـ؛ فقال في «الفصل» 3/251 = 3/295:

«ونقول ‌لمن ‌كفَّر إنسانًا بنفسِ مقالته دونَ أن تقوم عليه الحجةُ فيعانِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ويجدَ في نفسه الحرجَ مما أتى به: أخبرنا هل ترك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من الإسلام الذي يكفُرُ مَن لم يقل به إلَّا وقد بيَّنَه، ودعا إليه النَّاسَ كافَّةً؟! فلا بُدَّ مِنْ «نعم»، ومن أنكر هذا فهو كافرٌ، بلا خلافٍ.

فإذا أقرَّ بذلك؛ سُئلَ: هل جاء قطُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه لم يَقبَل إيمانَ أهل قريةٍ، أو أهل محلَّةٍ، أو إنسانٍ أتاه من حرٍّ أو عبدٍ، أو امرأةٍ؛ إلا حتَّى يُقرَّ أنَّ الاستطاعة قبل الفعل، أو مع الفعل، أو أنَّ القرآنَ مخلوقٌ [كذا قال ابن حزم هنا، فلم يذكر: أو غير مخلوق]، أو أنَّ الله تعالى يُرَى أو لا يُرَى، أو أن له سمعًا أو بصرًا أو حياةً، أو غير ذلك من فضول المتكلمين التي أوقعها الشيطانُ بينهم؛ ليوقع بينهم العداوةَ والبغضاءَ؟! فإن ادَّعى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَدَعْ أحدًا يُسلمُ إلَّا حتى يوقفه على هذه المعاني؛ كان قد كذب بإجماع المسلمين من أهل الأرض، وقال ما يدري أنه فيه كاذبٌ، وادَّعى أن جميع الصحابة رضي الله عنهم تواطؤوا على كتمان ذلك من فعله عليه السلام. وهذا محالٌ، ممتنعٌ في الطبيعة. ثم فيه نسبة الكفر إليهم؛ إذ كتموا ما لا يتمُّ إسلامُ أحدٍ إلَّا به.

وإن قالوا: إنَّه صلى الله عليه وسلم لم يدعُ قطُّ أحدًا إلى شيءٍ من هذا، ولكنَّه مُودَعٌ في القرآنِ، وفي كلامه صلى الله عليه وسلم؟! قيل له: صدقتَ، وقد صحَّ بهذا أنه لو كان جهْلُ شيءٍ من هذا كلِّه كفرًا لما ضيَّع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيانَ ذلك للحرِّ والعبد، والحرَّة والأَمَة. ومن جوَّز هذا فقد قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُبلِّغ كما أُمرَ. وهذا كفرٌ مجرَّدٌ ممن أجازه. فصحَّ ـ ضرورةً ـ أنَّ الجهل بكلِّ ذلك لا يضرُّ شيئًا.

وإنما يلزمُ الكلام فيها إذا خاض فيها الناسُ، فيلزم ـ حينئذٍ ـ بيانُ الحقِّ من القرآن والسنة لقول الله عزَّ وجلَّ: {‌كُونُوا ‌قَوَّامِينَ ‌لِلَّهِ ‌شُهَدَاءَ ‌بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]، ولقول الله عزَّ جلَّ: {‌لَتُبَيِّنُنَّهُ ‌لِلنَّاسِ ‌وَلَا ‌تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]؛ فمَنْ عَنَدَ ـ حينئذٍ ـ بعدَ بيان الحقِّ؛ فهو كافرٌ، لأنَّه لم يُحكِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا سلَّم لما قضَى به».

قال عبد الحق التركماني: هذه لوحة حزمية بديعة، احتوت على تحقيق نفيس جدًّا، وهو مبطل لما في «المسوَّدة = الأصول والفروع»، مبيِّنٌ لمذهبه الأخير  بما لا لبس فيه، وسألخصه في خاتمة هذا المقال.

إذن؛ ابن حزم متديِّنٌ، معظِّمٌ لما يعلمه ويعتقده، يجزم بما يعتقده جزمًا قاطعًا، ويكفِّر مخالفه. وهكذا حال كل متدين من أهل السنة ومن أهل البدعة.

لهذا فإني أنصحُ الدكتور حاتم بن عارف العونيَّ بشيئين:

الأول: أن يضيف إلى ما سماه: (أصول الإيمان في الموقف من القرآن الكريم)، هذا القيد، فيقول:

(١- الإيمان بأنه كلام الله تعالى منزل من الله تعالى على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم).

وهذا هو القيد الضروري عند جميع فرق أهل الملَّة والقبلة.

فإن هداه الله تعالى إلى الحق والهدَى؛ فليكتبْ:

(١- الإيمان بأنه كلام الله تعالى غير مخلوق منزل من الله تعالى على خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم).

فهذا هو القيد الضروري عند أهل السنة والجماعة، أهل الحديث والأثر، وهم الفرقة الناجية، والطائفة الظاهرة المنصورة؛ أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أتباع أرسطو وجهم بن صفوان. وقد وافق ابن حزم أهل السنة موافقة ظاهرية، وخالفهم في حقيقته، وظنَّ أنه موافق في قوله لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

الثاني: أن يكفَّ عن الكلام في أصول الاعتقاد ومسائله، لأنه لا يُحكِم العلم بها، فيقع في أخطاء شنيعة، وتأتيه ردود كثيرة من أهل العلم؛ فيتعجب: «لماذا يردون عليَّ؟ ويشنِّعون؟ إنهم متحاملون وحاقدون». والحقيقة أنهم غاضبون نصرةً لدين الله تعالى في مسائل لا يسع فيها الخلاف، وناصحون لك فيما بلغهم من سقطاتك وشذوذاتك، ومشفقون عليك من عنادك واستكبارك.

ثم أخبرني أحد طلابي بأن انحراف العوني في هذه المسألة واستخفافه بهذا الأصل الاعتقادي العظيم قديمٌ؛ يرجع إلى سنة (2008)، كما هو منشور في (منتديات الألوكة)، لكنه أثار المسألة مجددًا بمنشوره الأخير.

الخلاصة: أنه ولأول مرة في تاريخ الإسلام وتاريخ فرق أهل الملة والقبلة جعل حاتم العوني أصل الإيمان بالقرآن العظيم بدون قيد: «كلام الله». فهذا الاستخفاف لم يجرُؤْ عليه أحد من أهل البدعة والضلالة قبله.

ثم استخفافه الثاني: أنه جعل قيد: «غير مخلوق»؛ من الفروع الظنية الجزئية.

أما حبيبُنا أبو محمدٍ ابنُ حزمٍ؛ فقد صرَّح في المحلى والفصل والدُّرَّة ومراتب الإجماع بأنَّ القرآن الكريم:

(1) كلام الله تعالى.

(2) غير مخلوق.

(3) وبأن إنكار هذين القيدين أو أحدهما كفرٌ مجرَّدٌ، مخرج من الإسلام.

(4) وبأنه لا يُمتحن الناسُ في العقائد إن كانوا في سلامة من البدع والمقولات الباطلة.

(5) فإن ظهرت البدعُ وانتشرت الأقوال المخالفة لمفصَّل العقيدة المودَعة في القرآن والسنة؛ فلا بدَّ من تقرير الحقِّ وبيانه: «فمَنْ عَنَدَ بعدَ بيان الحقِّ؛ فهو كافرٌ».

هذا هو ابن حزم «المتديِّنُ»، والله تعالى يغفر له ويتجاوز عن عثرته وظنِّه أنه موافق ـ في إرجاعه حقيقة الكلام إلى صفة العلم ـ لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله.

ولا نامت أعينُ المستخفِّين!

كتبه:

عبد الحق بن ملا حقي التركماني

ليستر في الجمعة 20 ذو الحجة 1442، الموافق: 30 تموز 2021

شاركنا بتعليق

  • ياسر الصالح

    31 يوليو 2021

    لا فض فوك وأحسن الله إليك.