موقع الشيخ عبد الحق التركماني - بواعث الشرك في العبادة في وثيقة سريانية

/ 24 أبريل 2024

للتواصل 00447432020200

بواعث الشرك في العبادة في وثيقة سريانية

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 20 أكتوبر 2021 2119

في مكتبة الكاتدرائية الكلدانية في ماردين مخطوطة سريانية فيها نصوص متفرقة، منها: «مناظرة بين مسلم وراهب سرياني». والرجلان مجهولان، لكن وُصف المسلم بأنه من رجالات القائد الأُموي العظيم مَسلمةَ بن عبد الملك بن مروان (ت: 121/739) رحمهم الله تعالى، وقد وقعت المناظرة ـ على الأرجح ـ في دَيْرٍ شمال نينوى، إبَّان ولاية مسلمةَ على تلك الجهات، أي قبل سنة: (114/733)([1]). وكاتب المناظرة هو الراهب السريانيُّ ـ نفسه ـ الذي قام بتدوينها لاحقًا، واجتهد في إبراز وجهة نظره، ولم يذكر حجج خصمه المسلم؛ فظهر موقفه ضعيفًا جدًّا. والذي يهمنا منها ـ في هذا المبحث ـ ما يتعلق ببواعث الشرك في العبادة([2]):

«قال المسلمُ: أطلب منك أن تخبرني لماذا تعبدون عظام الشهداء، لأني أعلم على وجه اليقين، أنه على الرغم من أن الشهداء هم أبرار؛ فلا عونَ من خلالهم بمجرد خروج الروح عن الجسد؟

قال الراهب: هذه الأشياء سنوضحها لك أيضًا، قدر استطاعتنا. نحن نعلم أن الله في كل مكان([3])، لكنه غير مقيَّد في مكان؛ ومثل الأسماك أينما ذهبتْ تكون محاطةً بالماء، كذلك فإن الخليقة كلها محصورة من قبل الله، لكن الله ليس مقيَّدًا بخلقه، بل مرتبطٌ بالجميع، ويسكنُ في الجميع، ولا سيما في هؤلاء الذين يخافونه وفي الذين يطيعون أمره. لأننا نعلم ونشهد أن الله الكلمة قال لهم: «من يكرمكم يكرمني. والشخص الذي يكرمني يكرم من أرسلني»([4]). فخدمتنا أمام الشهداء لا تذهب سُدًى، فعبادتنا لله ربِّ الجميع، ونقدِّس الشهداء لأن الله جعلهم ينبوع عونٍ في كنائسه، لعلَّهم يقدِّمون الشفاءَ لكل المرضى، ويُلجَأُ إليهم. والذي يسكن فيهم ويصنع المعجزات والآيات من خلال عظامهم فهو الذي نعبده. نحن وأنت أيضًا ـ يا ابن إسماعيل! ـ نتوقَّعُ أنه اليوم من خلال قوَّة صلاة الشهداء تُمنحُ الصحةَ، إكرامًا لهم. ومثلما يفعل العقلاء والحكماء وذوو الفطنة عندما يرغبون في الدخول على ملكٍ أرضيٍّ، لا يدخلون عشوائيًّا، كما يرغبون، دون شفاعة من صديق للملك أو من حارس الباب، على الرغم من أن الملك من نفس طبيعتهم. لكن الحكماء يقتربون من عبيده ومستشاري الملك ويحثونهم على تقديم الطلب للملك نيابةً عنهم. وعندما يفعلون ذلك، يدخلون بسهولة ويتلقون كلَّ ما يطلبونه. لكن إذا تقدموا بطلب بدون إذن، فلن يتلقوا أي فائدة، بل سيواجهون خسارة أيضًا، وأضرارًا تلحق بشخصهم. لذلك أيضًا: أولئك الحكماء في بيت الله، عندما يرغبون في أن تدخل طلباتهم وصلواتهم أمام الله، فلن يُقدِموا هم على الله بتسرُّعٍ أو بطريقة غير مهذبة، ولكنهم يلتمسون أولًا مستشاري الملك السماوي ـ وهم الأنبياء والرسل والشهداء المباركون ـ. وخلاصة القول: أن كل عبادتنا ـ سواء كانت موجهة نحو الأيقونة، أو نحو الصليب، أو باللجوء إلى الشهداء الذين نتمسك بهم ـ؛ فإنما هو المسيحُ ـ ربُّهم جميعًا ـ الذي نعبدُه، ومن خلال التوسُّل إلى أولياء الله نقدِّم قرابيننا».

قلتُ: هذه الوثيقة التاريخية المهمة تظهر أن علماء الإسلام في الصدر الأول لم يغفلوا عمَّا وقع فيه النصارى من الشرك في العبادة؛ وإن كانوا أهل كتاب، وأن جواب أولئك النصارى في تسويغ شركهم هو نفس جواب المشركين الأولين الذي حكاه الله تعالى عنهم في كتابه، فقال في أول سورة الزُّمر:

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ‌مَا ‌نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤)}.

دلَّت هذه الآياتُ على الغاية من إنزال الكتاب، وهي إخلاص العبودية لله تعالى، وأن الذين يخلُّون به باتخاذ الشفعاء والوسطاء يزعمون أن مقصودهم التقرُّب بهم إلى الله تعالى، ثم نزَّه نفسَه المقدَّسة عن اتخاذ الولد، وفي هذا إشارة إلى اشتراك المشركين وأهل الكتاب في عبادة من يعتقدون فيهم الكرامة والتقديس. فجواب الراهب السرياني موافق لجواب المشركين، والردُّ القرآني مبطلٌ لجواب الفريقين، وهو مبطلٌ ـ كذلك ـ لجواب متأخري المشركين من عُبَّاد القبور.

والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

 

كتبه:

عبد الحق التركماني

ليستر: الأربعاء 14 ربيع الأول 1443، الموافق: 20 تشرين الأول 2021.


([1]) وَلِيَ مسلمةُ بن عبد الملك إمرة الجزيرة وأرمينيا وأذربيجان (91-98/710-716) في خلافة أخويه: الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك، وولي إمرة أرمينيا وأذربيجان مرتين، الأولى: (107-111/726-730)، والثانية: (112-114/731-733)، وكلتاهما في خلافة أخيه: هشام بن عبد الملك. يُراجع: «الأمير مسلمة بن عبد الملك بن مروان» للدكتور عواد مجيد الأعظمي (ت: 1406) رحمه الله.

([2]) ترجمْتُه من الإنكليزية، حيث حقَّق المستشرق ديفيد تايلور ـ من معهد الدراسات الشرقية، بجامعة أكسفورد ـ النصَّ وهو باللغة السريانية، وترجمه إلى اللغة الإنكليزية، 2015، الفقرتان: (49) و(50):

Taylor, David G.K., ''The Disputation between a Muslim and a Monk of Bēt Ḥālē: Syriac Text and Annotated English Translation'', Pages 187-242 in Christsein in der islamischen Welt: Festschrift für Martin Tamcke zum 60. Geburtstag. Edited by Griffith, Sidney Harrison and Grebenstein, Sven. Wiesbaden: Harrassowitz Verlag, 2015.

وأشكر أخي الباحث حسين سليمان ستار على إفادتي بهذا النص وحرصه على الاستفادة منه، جزاه الله خيرًا.

([3]) قد يكون هذا الراهب من أتباع «الغنوصية» لهذا ادَّعى أن (الله في كل مكان)؛ ولم يذكر لنا جواب المسلم على دعواه هذه. والأصل في أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام هو اعتقاد العلو المطلق لله تعالى، وفي الصلاة الرَّبيَّة المعتمدة في جميع الكنائس النصرانية حول العالم إثبات العلو للربِّ القدير، وهي التي جاءت في «إنجيل لوقا» 11:2: «فقال لهم: متى صلَّيتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدَّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك في الأرض،...». أما في الإسلام؛ فإنَّ اعتقادَ العلوِّ المطلق لربِّ العالمين من قطعيَّات عقيدة القرآن والسنة، وهو معلوم ـ أيضًا ـ بالفطر السليمة والعقول المستقيمة، اضطرارًا وتسليمًا.

([4]) إشارة إلى ما في «إنجيل متَّى»، الإصحاح (10)، الفقرة (40)، «إنجيل مرقس» الإصحاح (9)، الفقرة: (37)، «إنجيل لوقا» الإصحاح (9)، الفقرة: (48)، «إنجيل يوحنا» الإصحاح (13)، الفقرة: (20).

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد