سبب قتل الخليفة المتوكِّل على الله رحمه الله تعالى
سبب قتل الخليفة المتوكِّل على الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الخليفة العباسي المتوكل على الله أبو الفضل جعفر ابن المعتصم ابن الرشيد من خيرة الخلفاء العباسيين؛ فقد رفع المحنة عن أهل السنة والجماعة، وقمع دعاة المعتزلة والرافضة، ومكَّن لأئمة الإسلام في رواية الحديث وإظهار السنة ونشر العلم، ومنع الطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشتم السلف الصالح:
قال العلامة المؤرخ المحدث النبيل خليفة بن خيَّاط البصري (ت: 240): «استخْلِفَ المتوكلُ فأظهر السنة، وتُكُلِّمَ بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنة، ونصر أهلها» (سير أعلام النبلاء: 12/31).
وقال الإمام ابن كثير الشافعيُّ في «البداية والنهاية» 14/412: «لمَّا وَلِيَ المتوكِّلُ على الله جعفر ابنُ المعتصم استبشر الناس بولايته، فإنه كان محبًّا للسنة وأهلها، ورَفَعَ المحنةَ عن الناس، وكتب إلى الآفاق أن لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن، ثم كتب إلى نائبه ببغداد ـ وهو إسحاق بن إبراهيم ـ أن يبعث بأحمد بن حنبل إليه، فاستدعى إسحاقُ بالإمام أحمد إليه، فأكرمه إسحاقُ وعظَّمه، لِمَا يعلم من إعظام الخليفة له، وإجلاله إيَّاه».
قلتُ: فلا عجب أن توجَّهت إليه سهام الزنادقة والباطنية المسمومة الحاقدة باتهامه ببغض علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وذريته وآل بيته.
تولَّى المتوكل الخلافة عند وفاة أخيه الواثق في ذي الحجة سنة (232)، واستقام له الأمر إلى أن تمرَّد عليه قادة عسكره فقتلوه في شوال سنة (247)، فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر.
إنَّ الصحيح الثابت في سبب قتل الخليفة المتوكل رحمه الله ما ذكره ابن حزمٍ في «نقط العروس» 2/61 فقال: «وكان المتوكِّل في آخر أمره قد تبنَّى خلع المنتصر، وإقرار المعتَزِّ بالأمر، فعالجه المنتصرُ، فدسَّ عليه من قتَلَه».
قلتُ: وكان قادةُ العسكر التُّركُ قد انحرفوا عن المتوكِّل لكونه ضيَّق عليهم، وصادر وصيفًا وبُغَا، فأوغروا صدر ابنه المنتصر عليه، واتَّفقوا معه على قتل أبيه، وكان المنتصر وَجَدَ على أبيه لما رأى من جفائه له، وتقديم أخيه المعتز عليه؛ هذا خلاصة ما ذكره متقدِّمُو المؤرخين في خبر قتل المتوكِّل، منهم: أحمد بن إسحاق اليعقوبي (ت: بعد 292) في «تاريخه» 2/492، وابن جرير الطبري (ت: 310) 9/222، والمسعودي (ت: 346) ـ وهو شيعيٌّ معتزليٌّ ـ في «التنبيه والإشراف» 1/313، وفي «مروج الذهب» 4/65، والمطهر بن طاهر المقدسي (ت: بعد 355) في «البدء والتاريخ» 6/122، وابن مسكويه (ت: 421) في «تجارب الأمم وتعاقب الهمم» 4/308.
وهكذا صنع من جاء بعدهم من مشاهير مؤرخي الإسلام؛ منهم: الخطيب البغدادي (ت: 463) في «تاريخ بغداد» 8/53 (3565)، وابن العمراني (ت: 580) في «الإنباء في تاريخ الخلفاء» 119، وابن الجوزي (ت: 597) في «المنتظم» 11/355، والذهبي (ت: 748) في «تاريخ الإسلام» 5/1097 (119)، وابن كثير (ت: 774) في «البداية والنهاية» 14/450-456، وغيرهم كثير.
وهذا ابن خِلِّكان (ت: 681) ـ على ما كان فيه من انحراف عن أهل السنة، وميل إلى أهل الزيغ والبدعة ـ لخَّص سبب قتل المتوكل بقوله في «وَفَيَات الأعيان» 1/350 (134): «وكان السبب في قتله ـ على ما حكي ـ أنه قدَّم المعتزَّ على المنتصر، والمنتصر أسنُّ منه، وكان يتوَعَّده ويسبُّه ويسبُّ أمَّه، ويأمر الذين يحضرون مجلسه من أهل السُّخف بسبِّه، فسعى في قتله، ووجد الفرصة في تلك الليلة».
وهكذا فإن أحدًا من المؤرخين الثِّقات أو المشهورين لم يذكر سببًا لقتل المنتصر لأبيه المتوكِّل؛ غير الخلاف بينهما، وغير تمرُّد قادة العسكر، فلم يذكر أحدٌ منهم سببًا دينيًّا أو مذهبيًّا، لكن بعض الحاقدين أراد أن يسوِّغ قتل الابن العاقِّ لأبيه أميرِ المؤمنين؛ فادعى أن السبب الذي استثار المنتصر على أبيه هو بغض المتوكِّل لعليٍّ، وإظهاره لسبِّه والتنقص منه في مجلسه!
أقدم ما وقفت عليه من اتهام المتوكِّل هو قول أحمد بن الخصيب: «إنَّ المنتصرَ ما قتل أباه حتى استفتى الفقهاءَ في قتله، فأفتوه بذلك. وكان يسبُّ عليًّا في المحافل ومجالس الشرب، وأضف إلى ذلك إقدامه على سفك الدماء واستحلال أموال الناس بالمصادرات، وكان أهل البيت في أيامه في محنةٍ عظيمة؛ قطع أرزاقهم، وهدم منازلهم ومشاهدهم، ونفاهم إلى الأقطار».
نقل هذا سبط ابن الجوزي (ت: 654) في «مرآة الزمان» 15/213، ولم أجده عند غيره، وأحمد بن الخصيب كان من وزراء المنتصر ـ وسأذكر بَعْدُ قبحَ حاله ـ؛ فلا عجب أن يختلق الأكاذيب لتسويغ قتل المنتصر لأبيه، فهو وليُّ نعمته، وهو الذي نقله من كاتب صغير، إلى وزير كبير!
وروى أبو الفرج المعافى بن زكريا النهروانيُّ (ت: 390) في «الجليس الصالح الكافي» (المجلس: 35) 263 بإسناده إلى أحمد بن الخصيب، قصة له مع أمِّ المتوكلِّ، يبدو أنه اختلقها ليدسَّ فيها الطعنَ في المتوكل، فتعقَّبه المعافَى أبو الفرج بقوله: «وجدتُ ابنَ الخصيب مخطئًا في نسبة المتوكِّل إلى الانحراف عن أهل البيت، وسأبيِّن فيما يأتي من مجالس هذا الكتاب ما يبطل قولَه إن شاء الله تعالى».
وقال في المجلس (39) 293: «حدَّثني أبو النَّضر العقيلي، قال: أخبرنا أبو الحسن ابن راهويه الكاتب، قال: حكى علي بن الجهم عن المتوكِّل، وقد بلغه أن رجلًا أنكر على رجلٍ ينتمي إلى التشيع قولًا أغرق فيه من مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فغضب المتوكل، وقال: النَّاسِبُ هذا المادح إلى الغلوِّ جاهلٌ، وهو إلى التقصير أقربُ، وهل أحدٌ بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أئمة المسلمين أحقُّ بكل ثناءٍ حسنٍ من عليٍّ؟ وأتى من هذا المعنى بما ذكر ابن راهويه أنه ذهب عنه حفظه».
قال أبو الفرج المعافى: «وكنتُ رويتُ في المجلس الخامس والثلاثين من مجالس كتابنا هذا عن أحمد بن الخصيب خبرًا نسَبَ فيه المتوكِّلَ إلى الانحراف عن أهل البيت، فخَطَّأْتُ الخصيبَ في قوله هذا، ووعدتُ أن آتي فيما أستقبله من المجالس بما يشهد لما قلته، فعثرتُ على هذا الخبر فأوردْتُه. ولعَلِّي آتي بكثيرٍ ممَّا رُويَ معناه إذا وقعتْ عليه، فإنَّ المتوكلَ أفضل من أن لا يعلم أنَّ تعظيمَه أهلَ البيت من أعظم مفاخره ـ بعد تعظيمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ، إذ هو من آله دينًا ونسَبًا. ولو كان المتوكِّل من عامة بني هاشم ـ دون خلفائهم ـ لكان حقيقًا بتعظيمه للإمام العَدْلِ الهاشميِّ، ابنِ الهاشميِّين، أَبي سِبْطَي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: الحسن والحسين».
وذكر المعافى في هذا المجلس قصة أخرى ـ الله أعلم بصحتها ـ، ثم قال 298: «فهذه الحكاية تبيِّن أن المتوكِّل على خلاف ما توهَّمه ابن الخصيب، وبمعزل ممَّا نسَبَه في هذا المعنى إليه، والله تعالى أعلم بالضمائر، وخفيَّات السرائر، وهو المجازي كل محسن ومسيء بعمله».
قلتُ: والمعافى بن زكريا علامة بارع، قال الخطيب في «تاريخ بغداد» 15/308 (7151): «كان يذهب إلى مذهب محمد بن جرير الطبريِّ، وكان من أعلم الناس في وقته بالفقه والنحو واللغة، وأصناف الأدب». ومع هذا؛ فقد قال الخطيب: قال البرقانيُّ: «لكن كان كثير الرواية للأحاديث التي تميل إليها الشيعة». فانتفت عنه شبهة التعصُّب في دفاعه عن المتوكِّل.
أما أحمد بن الخصيب (ت: 265)، فقد ذكر أبو إسحاق الحصريُّ (ت: 453) في «جمع الجواهر في المُلَح والنَّوادر» 211 بعض أخباره وأفعاله، ولخَّص معانيها بقوله: «وكان ابن الخصيب غبيًّا جاهلًا».
وقال الذهبيُّ في «سير أعلام النبلاء» 12/43 ـ في ترجمة المنتصر ابن المتوكل ـ: «ووزر له أحمد بن الخصيب؛ أحدُ الظَّلَمة».
وقال في «تاريخ الإسلام» 5/ 998: «أحمد بن الخصيب الجرجرائي الكاتب، كان الكاتبَ للمنتصر قبل الخلافة، فلما استخلف وزَرَ له، فظهر منه جهلٌ وحُمقٌ وتِيهٌ».
أما المؤرخ ابن الأثير الجَزَريُّ الموصليُّ (ت: 630) فقد فرح بأكاذيب الطَّعن في الخليفة المتوكِّل رحمه الله فذكر في «الكامل» 6/130 أن المتوكل كان: «شديد البغض لعلي بن أبي طالب»! وأنه كان يظهر الطعن فيه في مجالسه، «وكان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب، والبغض لعلي، منهم: عليُّ بن الجهم، الشاعرُ الشَّاميُّ»، وذكر أنهم تنقَّصوا عليًّا رضي الله عنه في بعض مجالسهم، فغضب المنتصر، ونصح والده بالكفِّ عن ذلك، فلم يقبل المتوكِّل النصيحة بل أهانه في المجلس: «فكان هذا من الأسباب التي استحلَّ بها المنتصرُ قتل المتوكِّل».
قلتُ: فهذه الاتهامات التي ذكرها ابن الأثير إنما هي افتراءات شيعية، تلقفها ابن الأثير لما كانت فيه من نزعة شيعية وانحرافٍ عن أئمة السنة.
وردَّد طرفًا منها ابنُ خلدون (ت: 808) في «تاريخه» 3/349؛ فلم يُحسن.
أما الشاعر عليُّ بن الجهم (ت: 249) فقد نفاه المتوكِّلُ إلى خراسان سنة (232) أو (239) ـ كما ذكر المسعودي في «مروج الذهب» 2/491 ـ أي قبل قتله بثمان سنوات على أقل تقديرٍ. وذكر ابن حزم في «الجمهرة» 13 نسب ابن الجهم، وترجم له ابن المعتز في «طبقات الشعراء» 319؛ وذكر بغض الرافضة والمعتزلة له، والخطيب في «تاريخ بغداد» 13/290 (6170) وقال: «له ديوان شعر مشهور، وكان جيد الشعر، عالمًا بفنونه، وله اختصاص بجعفر المتوكل، وكان متدينًا فاضلًا».
ورحم الله الخليفةَ المتوكِّل الذي «لم يصحَّ عنه النَّصب»؛ كما قال الذهبيُّ في «تاريخ الإسلام» 5/1099.
هذا التوثيق والتحرير والتمحيص للسبب الحامل لابن المتوكِّل على المشاركة في قتل أبيه؛ نبَّهني إلى عدم صحة زيادةٍ وردتْ في رسالة «أسماء الخلفاء» لأبي محمد ابن حزم، وهي:
(وقيل: إنَّما قتَلَ والدَه لما كان يراه منه ويسمعه من تنَقُّصِ آل البيت، وما يَسمَعُه من جلسائه، كعليِّ بن الجَهْم، ومن نحا نحوه. وقد كان الرَّشيدُ يميلُ إلى ما يميلُ إليه المتوكِّلُ لكنْ بغير إفراطٍ، فقد مُدِحَ الرَّشيدُ وتُنُقِّصَ أهلُ البيت في أثناءِ مدْحِه بما لا يرضاه فكان سببًا لحرمان ذلك الشَّاعر ولطرده. ولم يكن المتوكِّلُ يكْرَهُ المبالغةَ في تنقصِّ أهلِ البيْتِ).
هكذا جاء هذا النصُّ مقحمًا في النسخة الخطية من كتاب «المرتبة الرابعة»، وقد طبع قديمًا بعنوان: «جوامع السيرة»، عن نسخة هندية منقولة من النسخة الخطية المحفوظة في مكتبة عارف حكمت في المدينة.
وقد انتهيت من تحقيق الكتاب عن ثلاث نسخٍ خطية أخرى، وهي: نسخة مكتبة ابن عاشور في تونس، وهي نسخة موثقة نفيسة، نُسخت عن نسخة كتبها الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي (ت: 744)، ونسخة مكتبة برلين، وهي مقابلة متقنة، ونسخة المسجد النبوي، فلم ترد هذه الزيادة في هذه النسخ الثلاث، وتفردت بها نسخة عارف حكمت، وهي نسخة عريَّة من التوثيق والمقابلة، وقد أجرى الناسخ ـ وكان أحد الورَّاقين بالأجرة ـ قلمه فيها بالزيادة والتصرف، فكان أقبح ذلك اقحامه لهذه الزيادة الباطلة في صلب الكتاب، والله المستعان.
كتبه:
عبد الحق بن ملا حقِّي التركماني
ليستر في الخميس 13 رجب 1445، الموافق: 25 كانون الثاني 2024
- لا يوجد تعليقات بعد