موقع الشيخ عبد الحق التركماني - بابٌ: من تفنَّن في الغشِّ والخداع في الحجِّ والعمرة

/ 16 تموز 2024

للتواصل 00447432020200

بابٌ: من تفنَّن في الغشِّ والخداع في الحجِّ والعمرة

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 19 أيار 2024 1456

بابٌ: من تفنَّن في الغشِّ والخداع في الحجِّ والعمرة

قبل سنوات كتبتُ مقالًا بعنوان: «بابٌ: مَنْ ترَكَ صلاة الفجر يومَ الحجِّ الأكبر عند المسجد الحرام وهو محرِمٌ بالحجِّ!»؛ بُحْتُ فيه عن تعجُّبي ودهشتي ممَّا رأيتُه في حجِّ عام (1438) من استخفاف بعض الحجَّاج بأمر الصلاة، خاصةً أن من رأيتهم أضاعوا صلاةَ الفجر في ذلك اليوم المعظَّم عشراتٌ من حملة الشهادات العليا في الشريعة وأئمة مساجد وطلبة علم ودعاة!

وقد رأيت من المناسب أن ألحق ذلك المقال بهذا المقال، لما فيه من التعجب والدهشة من الإساءة حيث يُطلب الإحسان، ومن الاعوجاج حيث تجب الاستقامة، ومن غلبة الجهل والهوى في مقام يُحكِمُه العلم بحدود الله وتعظيم شعائر الله تعالى.

كان تنظيم العمرة والحج سابقًا يقضي بمنع تأشيرات العمرة بعد رمضان حتى يغادر المعتمرون كلُّهم، وتبدأ قوافل الحجيج بالقدوم في أواخر شوال، لكن الحكومة السعودية أطلقتْ في السنوات الأخيرة تأشيرات العمرة على مدار العام كله إلا في أيام الحجِّ، ويسَّرت الحصول عليها من خلال التأشيرات الإلكترونية لكثير من الدول. ولا شكَّ أن هذه الإجراءات قد سهَّلت لملايين المسلمين أداءَ العمرة على مدار السنة؛ حسب ما يناسب أحوالهم وأعمالهم والعطل الرسمية والمدرسية في بلادهم.

والعمرة بعد رمضان فعل مشروع، وكانت عُمَرُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ـ كلُّها ـ في شهر ذي القعدة، وآخرها عمرته التي قرنها مع حجَّته ـ حجَّة الوداع ـ أهَلَّ بهما في ذي القَعْدَة، وأتَّمهما في ذي الحِجَّة.

أما الحجُّ فله شأن آخر؛ لأن شعائره مقيَّدة بزمان معيَّن ومكان معيَّن لجميع الحجاج، فلا بدَّ من تنظيمٍ خاصٍّ له، يُحقِّق مقصودَ إقامة أكثر من مليوني حاجٍّ الركنَ الخامس من أركان الإسلام في آنٍ واحدٍ؛ في أمنٍ وأمانٍ، وسلامةٍ واطمئنانٍ، ويلزم من هذا توفير جميع الخدمات، ومن أهمها: المسكن، والنقل، والطعام والشراب، والمياه والكهرباء، والرعاية الصحية، ووسائل الوقاية من الحوادث والكوارث كالحرائق والأوبئة، ومن الفوضى واضطراب الأحوال والإخلال بالأمن والسَّلامة.

كلُّ هذه الأمور ـ وأكثرها ضروريَّات، مع ما يلحق بها من الحاجيات، ومع ما يُجَمِّلها من التحسينات والكماليات ـ تقوم الدولة السعودية على توفيرها على أحسن وجه، وتُسخِّر لذلك كل إمكانياتها، ببذلٍ وسخاءٍ لا مثيلَ له في العالم، وتستنفر وزاراتٌ كاملةٌ كلَّ طاقاتها للنزول إلى ميدان خدمة حجاج بيت الله الحرام؛ منها: وزارة الحج والعمرة، ووزارة الداخلية، ووزارة الدفاع، ووزارة الصحة، ووزارة الشؤون الإسلامية، وغيرها من الوزارات، إضافة إلى عشرات الهيئات والمؤسسات.

بعد هذا كله يأتي «الأخ المعتمر» ليُخلَّ بهذا التنظيم العظيم، ويُربِكَ كل ما فيه من الخطط والحسابات والدراسات العلمية والميدانية والوقائية والاستشرافية؛ لأنَّه: «يرغب» أن يحجَّ هذه السنة!

وقد قلت لأحدهم: هل الحج عبادةٌ خالصةٌ لله تعالى أم شهوةٌ غالبةٌ؟ لأني أتفهَّم ـ من باب الأسباب لا الأعذار ـ أن تغلب المهرِّبين وتجار المخدِّرات شهوةُ الطَّمع في المال وما يجلبه من الملذَّات العاجلة؛ فيغامرون ويخاطرون بأنفسهم في مخالفة القوانين ومنازلة رجال الشرطة... لكن ما هي الشهوة الغالبة على المسلم في الحج بغير تصريح، وهو يعلم أن في ذلك ضررًا على نفسه وعلى غيره؟

إنَّ الحجَّ تكليف إلهي غير مطلوب أصلًا إلَّا بشرط: {مَنِ ‌اسْتَطَاعَ ‌إِلَيْهِ سَبِيلًا} من غير ضررٍ ولا مفسدةٍ.

أما الشوق الإيماني، والمحبة القلبية، والباعث الدينيُّ، الذي في قلب كل مؤمنٍ لشدِّ الرحال إلى الحج والعمرة؛ فشيء آخر غير الشهوة الغريزية، والرغبة النفسية، لهذا فهو محكوم باتباع الشرع والوقوف عند حدود الله تعالى.

إن هذا الباعث الإيمانيَّ من استجابة الله تعالى لدعاء الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ‌تَهْوِي إِلَيْهِمْ}. قال إسماعيل السُّدِّي رحمه الله: «فلذلك ليس مِن مؤمنٍ إلا وقلبه مُعَلَّق بحُبِّ الكعبة».

وقد سمعتُ بفنون من الكذب والغش والخداع يرتكبها عدد غير قليلٍ من المعتمرين، واطلعت على بعضها بحكم استفتاء بعض الإخوة عن حكم فعلها لأنهم رأوا غيرهم يفعلها!

من ذلك: أن تنظيم العمرة يقضي بمنع الطواف في الصحن لغير المعتمرين؛ فيقضي بعض المعتمرين عمرته، ثم يبقى في ثوب إحرامه مدَّة إقامته في مكة، فكلَّما دخل المسجد الحرام ظنَّه الشرطيُّ قادمًا لأداء العمرة؛ فيسمح له بدخول الصحن. ثم الغالب على هذا الصنف أنه يستغل تفرغه في ذلك المكان المقدَّس فيفتح البثَّ المباشر على إحدى وسائل العبث الاجتماعي!

وبعضهم حريص على أن يكون آخر عهده بالبيت، لكنه يستثقل الطواف في أدوار المسجد، فيلبس ثوب الإحرام حتى يطوف في الصحن فيوفر الجهد والوقت!

وأحدهم إمام مسجد في بلده؛ فوجد من أبواب التجارة أن يفتي طلابه ومعارفه بجواز الحج بلا تصريح، ويشجعهم على ذلك بترتيب السكن والتنقل لهم في مكة والمشاعر من خلال علاقاته هناك. فيجمع بين الحج غير المبرور والسعي غير المشكور والكسب غير المشروع!

ويصطاد بعض الانتهازيين في مكة من المعتمرين من يشتهي البقاء إلى الحج، فيتعهدون لهم بتوفير المسكن وتأمين التنقل، ويأخذون منهم مبالغ كبيرة، فإذا بهم يتورطون في الإقامة أسابيع طويلة في مساكن غير نظيفة ولا آمنة، ثم إنهم لا يستطيعون الشكوى ولا تغيير مكانهم.

وبعض الحجاج يمنح وثائق الإذن له بالحج ـ أو يبيعها! ـ إلى بعض المعتمرين ليحجَّ بها، ويُبرزَها للمسؤولين حال سؤالهم إياه عن تصريح الحج، ويدَّعي الأولُ أن وثائقه قد ضاعت، ثم إن الغالب أنه لا يُسأَلُ عنها لأنه يتنقل مع الحملة الرسمية التي أتت به. فيجمع بين الكذب والغشِّ والاحتيال!

وسألني أحدهم عن حكم من نوى بعمرته في شوال التمتع إلى الحج، وترك زوجته وأولاده في مسكن سريٍّ في مكة، وعاد هو إلى بلده، لأنه لا يستطيع الغياب عن وظيفته تلك المدة الطويلة، وفي أول ذي الحجة يرجع إلى مكة، فيدخلها بملابسه العادية من غير إحرام؛ فهل يقطع هذا تمتُّعه؟ فتذكرت ما أخرجه البخاري (5994) عن ابن أبي نعم قال: كنت شاهدًا لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وسأله رجلٌ عن دم البعوض! فقال: ممَّن أنت؟ فقال من أهل العراق! قال: انظروا إلى هذا! يسألني عن دم البعوضِ وقد قتلوا ابنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟!

وقد عدَّ الشيخُ العلامةُ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله استعمالَ مثل هذه الحِيَل في الحجِّ من «اتِّخاذ آيات الله هُزُوًا»؛ فقد سُئل: «ما حكم حج من ذهب إلى الحج ولم يأخذ تصريحًا، ثم إني سمعت عن بعض الأشخاص أنه يقول: ادخل بدون إحرام ثم اذبح فديةً!». فأجاب الشيخ رحمه الله: «أن نقول: ادخل ‌بلباسك ‌العادي واذبح فديةً! هذا من اتخاذ آيات الله هزوًا؛ فرض الله عليك إذا أحرمت ألا تلبس القميص ولا السراويل ولا غيرها، وأنت تبارز الله بهذه المعصية، وتدَّعي أنك متقرِّبٌ إليه، لا سيما إذا كان الحج نفلًا. سبحان الله! أتقرب إلى الله بمعصية الله! وإن كان هذا معصية في عبادة؛ لكن هذا خطأ عظيم. وحيلةٌ على مَنْ؟! على الله عزَّ وجلَّ. كيف تتحيَّل على الله بهذا وأنت تريد أن تفعل السنة؟! يا أخي! إذا كنت تفعل السنةَ ابْقَ في بلادك وأعِنْ من يريد الحجَّ على حجِّه ويحصل لك الأجرُ» (لقاء الباب المفتوح: 199).

إن تحديد عدد الحجاج، وتقييدهم بتصريح الحج؛ تنظيمٌ معمول به منذ عقود طويلة، وقد أقرت مشروعيته المجامعُ الفقهية وكبارُ علماء العصر، أما اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله باستثناء حجَّة الإسلام خاصَّةً؛ فقد خالفه فيه سائر العلماء، لأن علَّة المنع واحدة، وهي وقوع الضرر والحرج على جميع الحجاج، لا فرق بين من حجَّ لفريضة أو نافلة. ويكفي في بطلان هذا الاستثناء: أن يتصوَّر الإنسانُ ما يحصل في مكَّة والمشاعر لو استثني كلُّ من لم يحجَّ حجة الإسلام عن شرط أخذ التصريح؛ فبيقينٍ ندري: أنه سيحجُّ في الموسم الواحد ملايين لا يعلم عددهم إلا الله، ويحصل في مكة والمشاعر من الزحام والتدافع والفوضى والكوارث والأوبئة والأضرار ـ وما ينتج عن ذلك من مقتلة عظيمة وهلاك نفوس كثيرة ـ؛ ما سيسجِّله التاريخ، وتتحدث بأهواله الأجيال!

وفي هذه الأيام جدَّدت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في بيانٍ مفصَّل التأكيد على مشروعيته وأهميته ووجوب الالتزام به. وجاء هذا البيان لمعالجة مشكلة واقعية وذلك بعد أن: «‏اطلعت هيئة كبار العلماء على ما عرضه مندوبو: وزارة الداخلية، ووزارة الحج والعمرة، والهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، من تحديات ومخاطر عند عدم الالتزام باستخراج التصريح» كما جاء في نصِّ البيان، لهذا قال علماء الهيئة: «إزاء ذلك توضح الهيئة الأمور الآتية:

أولًا: أن الإلزام باستخراج تصريح الحج مستند إلى ما تقرره الشريعة الإسلامية من التيسير ‏على العباد في القيام بعبادتهم وشعائرهم ورفع الحرج عنهم قال الله تعالى: {‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌بِكُمُ ‌الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ ‌يُخَفِّفَ ‌عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}. وقال أهل العلم: «أي: يريد الله أن يخفف عنكم في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم». وقال تعالى: {وَمَا ‌جَعَلَ ‌عَلَيْكُمْ ‌فِي ‌الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني من ضيق. والإلزام باستخراج تصريح الحج إنما جاء بقصد تنظيم عدد الحجَّاج بما يُمَكِّنُ هذه الجموعَ الكبيرةَ من أداء هذه الشعيرة بسكينة وسلامة. وهذا مقصِد شرعيٌّ صحيحٌ، تقرره أدله الشريعة وقواعدها.

 ‏ثانيًا: الالتزام باستخراج تصريح الحج والتزام قاصدي المشاعر المقدسة بذلك يتَّفق والمصلحة المطلوبة شرعًا، والشريعة جاءت بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ‏ذلك أن الجهات الحكومية المعنية بتنظيم الحج ترسم خطة موسم الحج بجوانبها المتعددة، الأمنية، والصحية، والإيواء والإعاشة، والخدمات الأخرى، وفق الأعداد المصرح لها وكلَّما كان عدد الحجاج متوافقًا مع المصرح لهم كان ذلك محققًا لجودة الخدمات التي تقدم للحجاج، وهذا مقصود شرعًا، قال الله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ ‌مَثَابَةً ‌لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. فالتزام مريدي الحجِّ بالتصريح يحقق مصالح جمَّةً من جودة الخدمات المقدمة للحجاج في أمنهم وسلامتهم، وسكنهم وإعاشتهم، ويدفع مفاسد عظيمة من الافتراش في الطرقات الذي يعيق تنقلاتهم وتفويجهم، وتقليل مخاطر الازدحام والتدافع المؤدية إلى التهلكة.

 ‏ثالثًا: أن الالتزام باستخراج التصريح للحج هو من طاعة ولي الأمر في المعروف قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ‌وَأَطِيعُوا ‌الرَّسُولَ ‌وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكَ السَّمْعَ والطَّاعةَ في عُسْركَ ويُسْركَ، ومَنْشَطِكَ ومَكْرَهِكَ، وأَثَرَةٍ عليك». أخرجه مسلم.

وعنه رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني». متفق عليه.

والنصوص في ذلك كثيرة، كلُّها تؤكد على وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف، وحرمة مخالفة أمره. والالتزامُ باستخراج التصريح من الطاعة في المعروف، يثاب من التزم به، ويأثم من خالفه، ويستحق العقوبةَ المقرَّرةَ من وليِّ الأمر.

 رابعًا: اطَّلعت الهيئةُ على الأضرار الكبيرة، والمخاطر المتعددة، حالَ عدم الالتزام باستخراج التصريح، ما يؤثر على سلامة الحجاج وصحَّتهم، وعلى جودة الخدمات المقدمة للحجاج، وعلى خطط تنقلاتهم وتفويجهم بين المشاعر، وعلى غير ذلك ممَّا يتصل بمنظومة الخدمات المقدمة للحجاج، وذلك يوضِّح: أنَّ الحج بلا تصريحٍ لا يقتصر الضرر المترتب عليه على الحاج نفسه، وإنما يتعدَّى ضرره إلى غيره من الحجاج الذين التزموا بالنظام. ومن المقرَّر شرعًا أنَّ الضررَ المتعدي أعظم إثمًا من الضرر القاصر، وفي الحديث المتَّفَق عليه عنه صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده». وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار». رواه أحمد وابن ماجة.

 ‏وبناءً على ما سبق إيضاحُه: فإنه لا يجوز الذهاب إلى الحجِّ دون أخذ تصريحٍ، ويأثم فاعله، لما فيه من مخالفة أمر ولي الأمر الذي ما صدر إلَّا تحقيقًا للمصلحة العامة؛ ولا سيَّما دفعَ الإِضْرار بعموم الحجاج.

وإن كان الحجُّ حجَّ فريضةٍ، ولم يتمكَّن المكلَّف من استخراج تصريح الحجِّ؛ فإنَّه في حكم عدم المستطيع قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُمْ}، وقال سبحانه: {وَلِلَّهِ ‌عَلَى ‌النَّاسِ ‌حِجُّ ‌الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

‏ونُوصي جميعَ المسلمين بتقوى الله تعالى، والوصية كذلك لمريدي حجِّ بيت الله الحرام أن يتَّقوا الله عند أداء هذه الشعيرة العظيمة؛ بأن يصونوا حجَّهم عمَّا حرَّم الله عليهم من الرَّفَث والفسوق، وأن يستقيموا على طاعة الله، ويتعاونوا على البر والتقوى، حتى يكون حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا. والحجُّ المبرور هو الذي سلم من الرفث والفسوق والجدال بغير الحقِّ؛ كما قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ‌فَلَا ‌رَفَثَ ‌وَلَا ‌فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. ولا شكَّ أن التزام الحاجِّ بالأنظمة والتعليمات التي صدرتْ للتمكين من أداء هذه الشعيرة بأمنٍ ويُسْرٍ وسكينةٍ داخلٌ في تقوى الله في أداء نسك الحج، وفي تعظيم حَرَم الله وحُرُماته ومشاعره؛ قال الله تعالى: {‌ذَلِكَ ‌وَمَنْ ‌يُعَظِّمْ ‌حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، وقال سبحانه: {‌ذَلِكَ ‌وَمَنْ ‌يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}». انتهى النقل من بيان «هيئة كبار العلماء» المؤرخ في: 17 شوال 1445، الموافق 26 نيسان 2024.

بقيت قضية في غاية الأهمية يجب أن يعيها كلُّ مسلمٍ؛ وهي أن إقامة شعيرة الحجِّ كلَّ عامٍّ، بهذه الصفة الرائعة التي تقوم الدولة السعودية على تنظيمها وتهيئة أسباب النجاح لها ـ والتوفيق من الله وحده ـ؛ إنما هو عزٌّ للإسلام، وظهورٌ للدِّين، وإعلاء لشعائر الله ودينه في الأرض، ومفخرة عالمية للمسلمين. ولا شكَّ أن هذا ممَّا يُغيض أعداء الله تعالى، ويسعون لإفساده والتشغيب عليه بكل سبيل، لهذا كان من أهداف ثورة الخميني منذ بدايتها (1979) إفساد مواسم الحجِّ بالمظاهرات والاضطرابات بدعوى «إعلان البراءة»، وفي موسم (1406) أحبط الأمن السعودي تهريب الحجاج الإيرانيين أكثر من 50 كم من المواد شديدة الانفجار. وفي موسم (1407) قامت تجمعات منظمة من الحجاج الإيرانيين بتشكيل مسيرة غوغائية أشاعت الفوضى والاضطراب، واعتدوا على حجاج بيت الله الحرام وعلى رجال الأمن، مما أدى إلى مواجهات واشتباكات قُتل فيها (402) شخصً، وهم: (275) من الخمينيين المجرمين، و(42) من الحجاج القادمين من مختلف البلاد، و(85) شهيدًا من قوات الأمن. ولولا حفظ الله وتوفيقه ثم يقظة حراس بيت الله الحرام لارتكب الباطنية الزنادقة هذه الجرائم في كل موسم. وهذا هو شيطانهم الأعلى علي خامنئي يدعو إلى تعميم (منطق البراءة القرآني) في حجَّ هذا العام (1445)، وقال في كلمة له بتاريخ 6/5/2024: «الحجُّ هذا العام هو حجُّ البراءة. طبعًا البراءة كانت حاضرة منذ بدايات الثورة الإسلاميَّة. منذ بداية الثورة والبراءة حاضرة في الحجِّ، كانت ويجب أن تبقى وتستمرَّ، لكنَّ هذا العام بالخصوص الحجَّ فيه حجَّ البراءة». وهذه دعوة صريحة، ورسالة واضحة إلى أتباعه بالسعي للإفساد والفوضى في الحجِّ، لكن الله تعالى مبطل كيدهم، وقد سخَّر سبحانه لحرمه المقدَّس رجالًا أشاوس من أهل التوحيد والسنة هم أهلٌ لحمايته والسَّهر على أمن قاصديه وسلامتهم.

أما الإسلاميون الحركيون فهم متلونون لعَّابون لا دين لهم ولا عهد ولا أمانة، وقد رأينا رؤوسهم ـ محمد الحسن الددو، وعلي القره داغي وغيرهم ـ لمَّا رأوا الإقبال الكبير من المسلمين على أداء العمرة؛ دعوا إلى «مقاطعة العمرة»، وأفتوا بأن الواجب صرف تكاليف العمرة في وجوه أخرى. وأحد كبارهم يفتي صراحةً بمقاطعة الحج والعمرة نكاية بالحكومة السعودية! وهؤلاء أنفسهم يفتون بمخالفة الأنظمة والتعليمات المنظمة للحج ويعدُّونها من الصدِّ عن سبيل الله!

لهذا فإن كلَّ مخالفة لتنظيمات الحجِّ يصبُّ في صالح أولئك المتربصين بالمسلمين شرًّا، ويقرُّ أعينهم، والحج بلا تصريح من هذا السبيل؛ لأنه يخل بالنظام، ويربك السُّلطات، ويفتح الباب لاختراق الصفوف وإشاعة الفوضى.

وقد نشرت مرةً في يوم عرفة تدوينةً حمدت الله تعالى فيها على اجتماع الحجاج في صعيد عرفة في أمن وأمان، وأبديت سعادتي بذلك؛ فما كان من أحد ذيول إيران، ومن مَوَالي عدو الدين والملة عزمي بشارة؛ إلَّا أن علَّق على كلامي بالشتيمة والسبِّ، واتهمني بالعمالة للمخابرات والدعاية للحكومة السعودية... وما تعجبتُ من ردِّه هذا، لأن أصحاب هذه النفوس الخبيثة تستفزهم إقامة شعائر الله تعالى بهذا التوفيق والنجاح الذي لا مثيل له؛ فتفضح ما في نفوسهم من الحقد وإرادة الشرِّ بالإسلام والمسلمين: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ ‌مِنْ ‌أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}، {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ ‌مُوتُوا ‌بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}، {لَهُ الْحَمْدُ ‌فِي ‌الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.

كتبه:

عبد الحق بن ملا حقي التركماني

ليستر: يوم الأحد 11 ذو القعدة 1445، الموافق: 19 أيَّار 2024

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد