الحركيون والترويج للحكم العطائية
الحركيون والترويج للحكم العطائية
نشر الدكتور عبد الله بن عمر البكري كلمةً كشف فيها عن عناية واهتمام المهندس عبد الله العجيري بالحكم العطائية وأنه قرأ أربعة شروح للحكم العطائية، وأنه بدا له أن يشرحها لولا...! ثم قال البكري: وقد شجعني إقبال العجيري على حكم ابن عطاء الله على قراءة أحد شروحها المختصرة!
وقد أنكر عليهما كثيرٌ من الأفاضل هذه الدعاية والترويج للشيخ الضالِّ ابن عطاء السكندري وحِكَمه المزعومة، وبيَّنوا حاله، وما في كلماته من مخالفة لمعتقد أهل السنة والجماعة، فجزاهم الله خيرًا وسدَّدهم وبارك فيهم.
وأرى من المهم تكملة تلك الردود بالتنبيه على أصل الموضوع، خاصة أن البكري وأمثاله يصورون المسألة كأنها خلاف حول كتاب وكاتبه فحسب!
إن هذا الموضوع يجب أن يُفهم في سياقه الاعتقادي والمعرفي من خلال ربطه بالأصل الكلي للمعتقد، وما ينتج عنه من تصور وتصرف، فلا يجوز تقزيمه في جزئية الخلاف في رأيٍ أو موقفٍ أو كتابٍ أو شخصٍ.
إن العجيري على اطلاع تامٍّ على تقريرات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم العلمية والاعتقادية، ومفصَّل استدلالهما بالقرآن والسنة. ويعلم جيدًا أن شيخ الإسلام كان صاحب دعوة واضحة أهم معالهما: إخلاص العبودية لله تعالى، وتجريد الاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ويعلم العجيري ـ أيضًا ـ أن مخالفة ابن عطاء لشيخ الإسلام لم تكن في مسألة اجتهادية، ولا فتوى مذهبية، ولا في موقف جزئيٍّ.
كان خلاف ابن عطاء مع ابن تيمية في الأصل الكلي للتوحيد والعقيدة والنبوة والرسالة، وهو: إفراد الله تعالى بالدعاء والاستغاثة، تحقيقًا لقول المسلمين في كلِّ صلاة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
ولم يكن إخلال ابن عطاء بهذا الأصل موقفًا جزئيًّا، أو خطأً في التعبير، أو زلَّةً عابرة، كما وقع من بعض متأخري «علماء الشريعة».
كان موقف ابن عطاء اعتقادًا جازمًا، ومنهجًا راسخًا، ومبدأ علميًّا وفكريًّا. وهو اعتقاد ومنهج ومبدأ يمثِّل النسقَ المعرفيَّ والمنظومةَ الفكرية التي ينتمي إليها ـ وهي التصوف والطُّرقية ـ؛ مما أنتج عنده تصرفًا حازمًا، ومبادرة إلى الفعل والعمل، حتى لو كان في ذلك فتنة بين المسلمين، أو جناية على ابن تيمية بالبغي والظلم. فالأصل الاعتقادي الكلي لا يمكن التنازل عنه. لهذا قام ابن عطاء بتحريض الغوغاء وجمع نحو خمس مئة نفر من الصوفية والعوام، وذهبوا إلى نائب السلطان لشكوى ابن تيمية، وقالوا: إن ابن تيمية يتكلم في حق مشايخ الطريقة وإنه يقول: لا يُسْتغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم. ولفَّق ابن عطاء التهم ضدَّ ابن تيمية وافترى عليه؛ أو بتعبير البرزاليِّ: «ادَّعى عليه ابن عطاء بأشياء، فلم يثبت عليه منها شيء؛ لكنه قال: لا يُسْتَغَاثُ إلا بالله!» (البداية والنهاية: 18/74). وانتهت مكائد ابن عطاء ومن معه إلى سجن شيخ الإسلام ابن تيمية سنة: (707).
إذن؛ الجريمة التي ارتكبها ابن تيمية ـ حسب عقيدة ابن عطاء وحُكْمه ـ هي أن ابن تيمية قرَّر الأصل الكلي الذي خلق الله من أجله الجنَّ والإنس، وأرسل به رسله، وأنزل كتبه، وأقام له سوق الجنة والنار، وبعث به خاتم أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وأنزل القرآن لتقريره في مجمله ومفصَّله، وأوله وآخره، وهو: إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له؛ فلا ندعو إلا الله، ولا نستغيث إلا بالله، ولا نستعين ونتوكل إلا عليه. كما قال الحقُّ سبحانه: ﴿وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [الأعراف: 29]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)﴾ [يونس]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)﴾ [الأحقاف].
لقد انتفض ابن عطاء، واستثار الغوغاء، وجمع الجهلة والسفهاء؛ لقطع اللسان الذي نطق بتلك الكلمة المستفزَّة له، البغيضة إليه: «لا يستغاث إلا بالله»!
ولقد صدق الحقُّ سبحانه: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)﴾ [الزُّمر].
وقال عزَّ وجلَّ: ﴿ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (١٤)﴾ [غافر].
ورغم هذا كلِّه: يريد منَّا العجيريُّ ـ وأمثالُه من الحركيين، بنائيين كانوا أم سرورية قطبيين! ـ أن نصدِّق بأن ابن عطاء شيخٌ صالحٌ، وعالمٌ فاضلٌ، ناصحٌ للأمة؟!
ويريدون منَّا أن نعتقد بأنَّ تلك النفسَ الغضبيَّة الخبيثة التي نصبت العداوة للدعوة إلى مجرَّد إفراد الله بالاستغاثة؛ قد نطقتْ بالحِكَم التي فيها هداية للعقول، وتزكية للنفوس، وتهذيب للأخلاق والسلوك؟!
إنَّهم يريدون أن نُصاب بمرض «انفصام الشخصية في الإيمان والمعتقد والعمل والسلوك»!
اللهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، ونستغيث بك ـ ولا نستغيث بغيرك ـ أن تعصمنا من الزَّلل والخلل، وتحفظنا من المَلَل والعِلَل! آمين!
إنَّ علمَنا بمفصَّل كلام الحقِّ سبحانه في كتابه العظيم في التوحيد وحقيقته ومكانته وأهميته وتعلقه بأصل العلم والاعتقاد به سبحانه وبحقِّه وتعظيمه، وفي الشرك وقبحه وشروره وآفاته، وعلمنا بمفصَّل دعوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسنَّته وسيرته وجهاده؛ يحكم علينا ـ بالضرورة الإيمانية الشرعية التي لا محيد لنا عنها ـ أن نعتقد في رسالة «الحكم العطائية» أَنَّها «وحيٌ» نزلتْ به الشياطينُ على قلب ابن عطاء، ليصوغها بقالب البلاغة والفصاحة والحكمة، حتَّى يبثَّ من خلالها في الأمَّة ما ينقضُ أصل التوحيد، ويبطل رسالة القرآن؛ بتقرير وحدة الوجود، والخلط والتلبيس والإضلال في الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، بطريقة خبيثة ماكرة، تضلُّ قارئها عن الحقِّ والهدى، بينما هو يتراقص طربًا ببلاغة العبارات، وسحر الجمل والتراكيب، كما قال الحقُّ سبحانه: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢)﴾ [الشعراء].
ومن أعظم الإفك: اعتقادُ جواز الاستغاثة بغير الله تعالى.
ومن أعظم الإثم: العداوة والبغي والعدوان على من دعا إلى إفراد الله تعالى بالاستغاثة.
أما «الحكم العطائية»؛ فإليكم بعض الكلمات الخبيثة الضالة التي نزل بها وحيُ الشياطين على قلب ابن عطاء ليكون من المضلِّين:
1- قال في تقرير وحدة الوجود: «ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهم موجود معه».
2- وقال في تقرير إبطال الديانة والشريعة: «سؤالك منه اتهام له».
3- وقال: «من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع عنه ورود العقوبة منه، فما قام بحق أوصافه».
4- وقال: «لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج».
5- وقال: «ربما دلهم الأدب إلى ترك الطلب».
6- وقال: «إنما يذكر من يجوز عليه الإغفال، وإنما ينبَّه من يمكن منه الإهمال».
7- وقال: «كيف تطلب العوض على عمل هو متصدق به عليك؟ أم كيف تطلب الجزاء على صدق هو مهديه إليك».
8- وقال في إبطال الأخذ بالأسباب والسعي لعمارة الأرض ـ التي هي غاية الخلق عند الحركيين ـ: «أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك، لا تقم به لنفسك».
ومدار هذه العبارات وأمثالها على أمرين كليَّين:
الأول: تقرير وحدة الوجود.
والثاني: التلبيس والتضليل في معرفة الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، والتمييز بينهما، للتدرج بذلك إلى إبطال الديانة والشريعة، وإفساد الأخلاق والسلوك.
لهذا جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أصول دعوته الإصلاحية التجديدية:
1- محاربة القول بوحدة الوجود.
2- تقرير الاعتقاد الصحيح في الإرادتَيْن، والتمييز بينهما، وما يجب على المسلم إزاءهما من العلم والعمل، والكشف عن المفاسد العظيمة والآثار الخطيرة للانحراف في فهمها، أو إبطال أحدهما، أو الخلط بينهما.
لهذا أقول: كيف غفل المهندس عبد الله العجيري عن هذه الحقائق الجلية الواضحة، وهو معروف باهتمامه بتراث ابن تيمية، ويذكر عن نفسه أنه قرأ كتب ابن القيم كلها؟!
إن السبب ليس في قلة المعلومات، ولا ضعف التحصيل، ولا الجهل بحال ابن عطاء، لكنه في الخلل الاعتقادي والمنهجي عند العجيري وأمثاله من الحركيين الذين تربوا على المنهج الحركي ومقولاته وتفسيراته لحقائق الدين ومقاصده وكلياته، فاضطربت لديهم الأصول، واختلطت المفاهيم، وتحول الاعتقاد والتدين عندهم إلى معرفة وثقافة عامة. لهذا لم يجد العجيري تناقضًا في أن يعظِّم ابن تيمية ويعظِّم ابن عطاء، ويهتم بتراث كلٍّ منهما. فالشغف الثقافي يتسع لكل هذا. أمَّا أنَّ ابن تيمية كان يقول: «لا يستغاث إلا بالله»، وأن ابن عطاء كان يعتقد عكس هذا ويطالب بسجن قائل هذه الكلمة؛ فمجرد اختلاف في الثقافة والفكر. وقلب «الحركيِّ» يتسع لذلك كلِّه!
نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
كتبه:
عبد الحق التركماني
ليستر: الأربعاء 11 المحرم 1446، الموافق: 17 تموز 2024
- لا يوجد تعليقات بعد