موقع الشيخ عبد الحق التركماني - الإجمال سلاح المبتدعة

/ 25 أبريل 2024

للتواصل 00447432020200

الإجمال سلاح المبتدعة

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 1 يوليو 2007 817

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

المنهج الرباني قائم على البيان والتفصيل، وقد مدح الله كتابه المجيد بأنه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، وامتنَّ على عباده بذلك فقال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52]، فهذا من رحمة الله تعالى بعباده، فإن فيه حكماً عظيمة، وفوائد جمة، منها: إقامة الحجة بينةً واضحةً لا لبس فيها ولا غموض، فيسفر وجه الحق، ويتعرّى الباطل، وتنكشف حقيقته، فلا ينخدع ببهرجه أحد، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55]. ومنها: أن التفصيل من أعظم أسباب ثبات الإيمان في القلوب، وتجلّي الحقائق في العقول، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 3]، قال العلامة السعدي رحمه الله: “وينزل الكتب الإلهية على رسله، ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع، والأوامر والنواهي، ويفصِّلها غاية التفصيل، ببيانها، وإيضاحها وتمييزها، لعلكم بسبب ما أخرج لكم من الآيات الأُفقيَّة، والآيات القرآنية: {بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها، من أسباب حصول اليقين، في جميع الأمور الإلهية، خصوصًا في العقائد الكبار، كالبعث والنشور والإخراج من القبور” انتهى.

ولهذا كان من منهج أهل السنة والجماعة التفصيل، والعناية بتحرير الألفاظ، وشرح المُشْكِل، وبسط الأدلة والحجج، والبعد عن الغموض والإجمال، خاصة في مواطن الخلاف، أما أهل الزيغ والضلال، من أهل الملل، ومن مبتدعة الإسلام، فمن معالم منهجهم إعتماد: “الإجمال”، ولهم في ذلك طريقتان:

الأولى: التشبث بالألفاظ المجملة الواردة في بعض نصوص الكتاب والسنة، وفي أقوال العلماء والأئمة، فيتعلّقون بها، ويفسرونها بما تهوى أنفسهم، متغافلين عن النصوص الأخرى التي فصَّلتْ وبيَّنت المراد بما أجمل في تلك المواضع. وقد ذمّ الله تعالى صنيعهم هذا فقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، قال العلامة السعدي رحمه الله: “إن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين الذي لا يشتبه بغيره، ومنه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها حتى تضم إلى المحكم، فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف لسوء قصدهم يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة، وآرائهم الزائفة، طلبًا للفتنة وتحريفًا لكتابه، وتأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم، ليضلوا ويضلوا. أما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم فأثمر لهم العمل والمعارف، فيعلمون أن القرآن كله من عند الله، وأنه كله حقٌّ، محكمه ومتشابهه، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف، فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان، يردُّون إليها المشتبه إلى المحكم، فيعود كله محكمًا، ويقولون {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ} للأمور النافعة، والعلوم الصائبة إلا {أُولُو الْأَلْبَابِ} أي: أهل العقول الرزينة، ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب، وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة، والعقول الواهية، والقصود السيئة. وقوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، وما تنتهي إليه وتؤول تعيَّن الوقوف على {إِلَّا اللَّهُ} حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى. وإن أريد بالتأويل معنى التفسير، ومعرفة معنى الكلام، كان العطف أولى، فيكون هذا مدحًا للراسخين في العلم أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة محكمها ومتشابهها” انتهى.

قلت: وهذه الطريقة ـ أعني: استعمال الإجمال ـ أمثلتها كثيرة، فقد سلكها جميع المنحرفين عن منهج السلف، كالخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وغيرهم، وسلكها أيضاً ـ ولكن على عكس غرض هؤلاء ـ المستشرقون، فأخذوا بعض النصوص مبتورة، مبتوتة عن سياقها ومناسبتها، وبنوا عليها مفاهيم خاطئة بل سيئة لتشويه صورة الإسلام، ومن هذا ـ أيضاً ـ ما نقرأه في مجلات “شهود يهوه” من الاستدلال ببعض الآيات القرآنية على صحة بعض أباطيلهم، وفي ذلك تلبيس وتضليل لعوام المسلمين يجب الحذر والتحذير منه.

أما التعلق بالمجمل من كلام العلماء: فتجده عند الحركيِّين من شراذم الجماعات المفرِّقة للصف الإسلامي، فإن ما هم عليه من الخواء الفكري والعلمي يدفعهم إلى استنفار بعض العبارات المجملة لبعض العلماء ـ خاصة من كان منهم صاحب لسان صدقٍ، وموضع قبول على مستوى الأمة، كشيخ الإسلام رحمه الله من السابقين، والمفتي الإمام ابن باز، والعلامة المحدّث الألباني رحمهما الله تعالى وغيرهم من الأئمة المعاصرين ـ وذلك إمَّا لتأييد بدعهم، ورفع الرأس بهم، وإيهام البسطاء أن دعوتهم دعوة علمٍ وهدىً[1]، وإما ابتغاء الفتنة، بالطعن في فتاويهم، وإثارة الشبهات حول علمهم ومنزلتهم. وأمثلة هذا وذاك مشاهدة معروفة، لا تخفى على من لديه شيء من “فقه الواقع”!

الثانية: استعمالهم الألفاظ المجملة في أبواب العلم، والمنهج، والدعوة، والتربية.

ومن هذا صنيع أهل الكلام في المسائل العلمية الخبرية، مثل مباحث الأسماء والصفات، فإنهم استعملوا ألفاظاً مجملة في حقِّه ـ نفياً وإثباتاً ـ منها: لفظ الجسم، وحلول الحوادث، ونفي الجهة، وغير ذلك من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة والتي يمكن حملها على معانٍ صحيحة وأخرى فاسدة، إنما أرادوا بهذا إحراج أهل الحديث المتمسكين بالنصوص الشرعية ودلالاتها، فاستعمل الأئمة دواء التفصيل السلفي الناجع لداء الإجمال الخلفي، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فهنا يستفصلُ السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة ؟ فإن أراد بها حقًّا وباطلاً، قُبِلَ الحقُّ ورد الباطل مثل أن يقول: أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه، وقيام الصفات به، ونفي كونه مركبًّا. فنقول: هو قائم بنفسه، وله صفات قائمة به، وأنت سميت هذا تجسيمًا لم يجز أن أدع الحقَّ الذي دلَّ عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا”[2].

وقال رحمه الله في موضع آخر: “إن الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله إما العقلي، وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالة القرآن على هذا وهذا، وتجعل أقوال الناس التي قد توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحاب هذه الألفاظ‏:‏ يحتمل كذا وكذا، ويحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رُدَّ‏.‏ وهذا مثل لفظ ‏المركَّب‏،‏ و‏الجسم‏،‏ و‏المتحيِّز‏،‏ و‏الجوهر‏‏‏،‏ و‏العرض‏، فإن هذه الألفاظ، لا توجد في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة ـ أيضًا ـ، بل هم يختصون بالتعبير بها على معان لم يعبر غيرهم عن تلك المعاني بهذه الألفاظ، فيفسر تلك المعاني بعبارات أخرى، ويبطل ما دل عليه القرآن بالأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل، وعرف وجه الكلام على أدلتهم، فإنَّها ملفقة من مقدمات مشتركة، يأخذون اللفظ المشترك في إحدى المقدمتين بمعنًى، وفي المقدمة الأخرى بمعنًى آخر، فهو في صورة اللفظ دليل، وفي المعنى ليس بدليل”[3].

أما استعمالهم الإجمال في المنهج: فما نراه عند كثير من الجماعات الإسلامية في غموض مناهجها، بل تميُّعها في هلاميةٍ عجيبةٍ، من ذلك أن معظمها تنص في أدبياتها على أنَّها: “على اعتقاد أهل السنة والجماعة” وتكتفي بذلك، ولا تلتزم بالبيان المفصَّل لاعتقاد أهل السنة والجماعة ومنهاجهم، فلا تحصل بالدعوى المجملة فائدة، فإنَّ الأشاعرة والماتريدية وجميع المتصوفة يزعمون ـ أيضاً ـ أنهم من أهل السنة والجماعة، فالواجب على هذه الجماعات ـ إن كانت حريصة بصدق على تكوين أجيال مسلمة قوية البناء بعيداً عن الغثائية وأسباب التآكل الذاتي ـ أن تضع النقاط على الحروف بشجاعة واعنزاز، فتبيِّن لأتباعها أن المقصود بهذا المصطلح: علم وعمل وفهم الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الهدى، ثم لا تكتفي بذلك حتى تجعل تفاصيل عقيدتهم ومفاهيمهم مناهج دراسية مكثفة تلزم به أتباعها.

ومن عجائب الاستخفاف بعقول الشباب المسلم ـ مما يحسن ذكره هنا ـ أني قرأتُ بحثاً لبعض المعاصرين يردُّ فيه على بعض المشايخ الفضلاء في ردِّه على بعض الجماعات الإسلامية، فذكر في انتصاره لتلك الجماعات أنها كلها تتبع الكتاب والسنة، وتتحاكم إليها، ولا ترضى عنها بديلاً، واستدل على ذلك بنصوص كثيرة نقلها من أدبيات تلك الجماعات المختلفة المتصارعة فيما بينها. وهكذا ضلَّل هذا الباحث الألمعي ـ بهذا الإجمال ـ قرَّاءه عن حقيقة الخلاف بين الجماعات الإسلامية[4]، فإن مما يخفى على صعاليك طلبة العلم أن مبتدعة الإسلام ـ ممن هم في دائرته ـ لم يتنكروا للكتاب والسنة، ولا استنكفوا من التحاكم إليها، بل تتابعوا على إعلان التمسك بها، وعلى رأسهم الخوارج الذين قاتلهم الصحابة، وإنما أصل الخلاف في الفهم والمنهج، فالمتبدعة حكَّموا فهُومُهَمُ القاصرة، وعقولهم الناقصة، وأقيستهم الفاسدة، فضلّوا وتفرّقوا. ووفق الله سبحانه أهل السنة إلى اتباع السلف الصالح، فاهتدوا ورشدوا.

أما استعمالهم الإجمال في الدعوة والتربية: فإن معظم منتسبي هذه الجماعات يقضون السنين الطوال في أحضانها ثم لا يرجعون منها بعلمٍ تفصيلي يعرِّفهم بدين الله، ويحصِّنهم من سبل الشيطان، فغاية ما يتعلمونه منها ـ بعد شدِّ الرِّحال إلى المؤتمرات والندوات والمخيمات، والعكوف على المجلات والنشرات ـ أهمية الإيمان في الحياة، وأن الإسلام حضارة، وأن المستقبل للإسلام، وغير ذلك من المفاهيم المجملة.

وهذه الطريقة في الدعوة والتربية ـ وإن كانت لها خلفيات فكرية ـ فإن لها بعداً سياسياً، فإن التربية على الإسلام المفصَّل كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، تكوِّن شخصية إيمانية واضحة، والشخصية الواضحة لا تستطيع التكيُّف مع التلوِّن السياسي، مما تسبِّب إحراجاً حقيقياً لتلك الجماعات في مراهناتها وتقلّباتها السياسية، لهذا فإنها تتجنب، بل تخاف من إنضاج عقول شبابها في أفران العلوم الشرعية، لتبقى طيِّعة ليِّنة تتلاعب بها كما شاءت.

وقبل سنوات دفعتْ بعض الجماعات الثمن غالياً نتيجة منهجها هذا وذلك عندما خرجت مجاميع من أفرادها إلى ساحة مفتوحة للأفكار والاتجاهات المتناقضة، فاذهلهم التناول الدَّقيق لتفاصيل الدين، وسرعان ما وقعوا في أوحال التكفير والغلو، وإذا كانت الجماعة قد عالجت الأمر بطريقة: “الدعوة تطرح خبثها” فإن الأمة الإسلامية ما زالت تعاني من خبث أعمالهم. ولهذا حذِّر العلماء من الألفاظ المجملة، والمعاني المتشابهة المحتملة أشدَّ التحذير، حتى قال الإمام ابن القيم إنه: “منشأ ضلال من ضلَّ من الأمم قبلنا، وهو منشأ البدع كلها”[5]. والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

كتبه:

عبد الحق التركماني

نشر في سنة : 2007


[1]وأعرف سياسياً لا صلة له بالعلم الشرعي أصلاً، لا بدراسته النظامية، ولا باهتمامه الشخصي، يحفظ سطوراً من كلام شيخ الإسلام رحمه الله، ويردّدها في محاضراته السياسية، وهدفه من ذلك لا يخفى على اللبيب !!.

[2]درء تعارض العقل والنقل: 1/239.

[3]مجموع الفتاوى: 13/145-146.

[4]ولا أدري إن كان هذا الأسلوب عنده من الثوابت أم من المتغيّرات؟

[5]الصواعق المرسلة: 3/925 – 928، في كلامٍ طويل ونفيس فراجعه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد