موقع الشيخ عبد الحق التركماني - درس المتعالم لا يخلو من فائدة!

/ 28 مارس 2024

للتواصل 00447432020200

درس المتعالم لا يخلو من فائدة!

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 1 يوليو 2010 1695

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

في أحد أيام صيف (2002) صليت العصر في مصلًّى صغيرٍ في حيِّنا؛ فإذا بمن تقدَّم للإمامة يعجِّل بالشروع في درسه الأسبوعي حتَّى يُحرج الحضور، ويضطرَّهم إلى حضور درسه، وكنت من ضحاياه، إذ استحييتُ، ولزمت مكاني مكرهًا، فسمعتُ أشياء عجيبة وتذكَّرتُ كتاب «التعالم» للعلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، ووددتُ لو كانت عندي نسخة منه فأهديها لهذا المتعالم المتصدِّر.

بدأ (الغنفشاريُّ) درسه في «الفقه» بالارتجال في مسائله، من غير كتاب ولا أوراق، ليوهم الحضور من العامة البسطاء أنه علامة زمانه، وفقيه أوانه!

ومع أن الدرس كان في غرفة صغيرة، والحضور دون العشرة؛ فقد (خَطَبَ) بدرسه، رافعًا صوته، وقد احمرَّ وجهه، وعلا صوتُه، وانتفختْ أوداجه، كأنَّه منذر جيشٍ، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم. هذا وهو يتكلَّم عن صفة الصلاة!

تكلَّم فقيه آخر الزمان ساعةً ونصف ساعة في مسألة أو مسألتين من مسائل الاستفتاح والقراءة؛ فذكر الأقوال فيها وعزاها لأصحابها وساق أدلَّتهم، مفصلاً القولَ في تخريج الأحاديث وعللها، وهو في كل ذلك يخبط خبط عشواء، يرفع المنصوب، ويخفض المرفوع، ويصحِّف في أسماء الرواة، ومما أذكره من ذلك ضمُّه لامَ: (ابن لَهيعة)!

وذكر الخلاف في عدِّ البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة؛ فزعم أن القول الراجح هو قول الحنفية بأنَّها آية منها ومن سائر السور، وعزا ذلك إلى الزَّيلعي في «نصب الراية»، وأكَّد صحَّته ورجحانه ـ مرارًا وتكرارًا ـ بأنَّ الزيلعيَّ قد صحَّح الحديث الدالَّ عليه. فتعجبتُ من ذلك، لأنَّ هذا مخالف لمذهب الحنفيَّة، والزيلعي حنفيٌّ لا يسلم من التعصب، ويندر أن يخالف مذهبه، فرجعتُ إلى كتابه، فرأيتُه قد اختار القول بأنها: «من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في كل سورة، وكذلك تتلى آية مفردة في أول كل سورة، وأنه لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك.» (نصب الراية: 1/327، دار الحديث، مصر: 1357). فعلمتُ أنَّه لجهله لم يفهم كلام الزيلعيِّ!

خرجتُ من ذلك الدرس وقد استحضرتُ جملة من الفوائد لم أكن لأقف عندها لولا ما سمعته ورأيته من ذلك الجاهل المتعالم:

1- لقد حضرنا مجالس كبار العلماء، وعرفنا منهجهم في التدريس؛ فرأيناهم لا يدرِّسون إلا من كتاب. يقرأ الطالب على شيخه، ثم يعلِّق الشيخ بما يقتضيه المقام، ويلاحظ في ذلك مستوى الطلاب، ومنهج التدريس. إلا أن يكون الدرس على سبيل تفقيه العوام؛ فيذكر الشيخ ما تيسر من حفظه، دون تكلُّف ولا تشدقٍ.

2- ليس من الحكمة والعقل الخوض بالعامة والمبتدئين في بحور المذاهب واختلافاتها، بل يقتصر في تعليمهم على بيان الصحيح الراجح عند المدرِّس، مع ذكر رؤوس الأدلة من الكتاب والسنة لربطهم بالأصلين، وإذا كان الخلاف في المسألة عاليًا قويًّا معتبرًا؛ فلا بأس من تبيين أشهر الأقوال فيها، تربية لهم على عذر المخالف وعدم التعصب لقول ضد سائر الأقوال.

3- رفعُ الصوت في الدرس والصياح والانفعال؛ أمرٌ قبيح، منهك للمتكلِّم، ومزعج للسامع، يدل على جهل صاحبه، وسوء ملكته. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع صوته إلا بقدر ما يُسمع الحاضر، إلا في الخطبة العامة؛ فكان إذا خطب: (احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم) ـ كما في صحيح مسلم ـ. ومقام الدرس غير مقام الخطبة. وأخرج الخطيب في (الجامع) عن عطاء بن أبي مسلم الخراساني قال: ينبغي للعالم أن لا يعدو صوته مجلسه. وعن شريك قال: كان الأعمش لا يرفع صوته بالحديث إلا قدر ما يجوز جلساءه إعظامًا للعلم. وعن عاصم قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده رجل فتكلَّم الرجل فرفع صوته، فقال له عمر: مه، فإنما يكفي الرجل من الكلام أن يسمع جليسه.

4- ترجيحُ فقيه متمذهبٍ لقولٍ موافق لمذهبه من أضعف وجوه الترجيح، ولا يلتفت إليه إلا جاهل بقواعد الاستدلال والاحتجاج، وهذا حال هذا المتعالم الذي قوَّى اختياره لقول الحنفية بترجيح الزيلعي له في (نصب الراية)! وإنما الشأن عند أهل العلم والتحقيق أن يرجِّح فقيه مذهبٍ قولاً مخالفًا لقول أصحابه، فمثل هذا جدير بالإشادة والاستئناس به.

5- أفضل الأعمال بعد التسليم الإتيان بأذكار الصلاة، فتلك (معقِّبات لا يخيب قائلهنَّ أو فاعلهنَّ) ـ كما ورد في الحديث الصحيح ـ، فاستبدالها بدرس أو موعظة يلهي الحضور عن أولى ما يناسب الوقت. وهذه ظاهرة عامة قد ابتلي بها أكثر الأئمة والوعاظ، وبعضهم يستعمل مكبِّر الصوت فيشوش على من يتم من صلاته ما فاته منها. أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا، ويهدينا إلى سواء السبيل.

كتبه:

عبد الحق التركماني

نشر في سنة : 2010

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد