موقع الشيخ عبد الحق التركماني - القذافي والسلفية … ضدَّان لا يجتمعان

/ 28 مارس 2024

للتواصل 00447432020200

القذافي والسلفية … ضدَّان لا يجتمعان

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 22 مارس 2011 1653

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ}

(القصص: 17)

السلفية هي الإسلام الحق كما أنزله الله تعالى؛ فهي الاعتصام بالكتاب العزيز وصحيح السنة النبوية، والتمسك بمنهاج الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان وفهمهم في الاعتقاد والقول والعمل والتزكية والسلوك، بتحقيق التوحيد لله عز وجل، وتجريد الاتباع لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وموالاة أهل العلم والإيمان، والبراءة من الشرك وأهله، واجتناب البدع والمحدثات في الدين، والدعوة إلى ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن.

وهذه الأصول ثقيلة على النفوس لمخالفتها لأهوائها، لهذا لا يقبل الدعوة السلفية ولا يلتزم بها إلا من حقَّق القبول والإذعان للشهادتين؛ فرضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً على الوجه الأكمل، والمنهج الأقوم.

ولهذا أيضًا: فإن خصوم هذه الدعوة كثيرون، فهم جميع أهل الشرك والإلحاد والنفاق والزندقة، وجميع أهل البدع والأهواء والأغراض والأحزاب، يتَّفقون ـ رغم شدة الاختلاف والتفرق بينهم ـ على منابذة الدعوة السلفية ومحاربتها، لأنهم يرون فيها ثبات دين الإسلام وحفظه وصيانته من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وكثير منهم يرضى بالإسلام المؤوَّل، والإسلام المحرَّف، والإسلام المبدَّل، أما الإسلام المنزَّل فلا يطيقونه ولا يرضون به!

هذه مقدمة ضرورية يمكننا من خلالها أن نفهم سبب عداء العقيد معمَّر القذَّافي للدعوة السلفية على وجه الخصوص، فهو لم يعلن نبذ الإسلام بالكليَّة، بل اختار الانتساب لإسلام محرَّف مبدَّل؛ أبطل فيه حجيَّة السنة النبوية، وخاض في كتاب الله بتفسيراته الضالة، وسخر واستهزأ بحجاج بيت الله الحرام وبتوجههم إلى الله تعالى بالدعاء وطلب المغفرة ووصف ما شرعه الله تعالى لهم في ذلك بالسذاجة والأنانية، وأنكر المعلوم من الدين بالضرورة ـ كتعدد الزوجات وفريضة الحجاب على المرأة المسلمة وثبوت الاختلاف بين الرجل والمرأة في بعض الخصائص والأحكام، واختصاص شريعة الحجِّ خاصة بالمسلمين ـ إلى غير ذلك من كفرياته المنشورة المشهورة. وقد وجد القذافيُّ السلفيَّةَ هي القلعة الحصينة للإسلام المنزَّل في وجه إسلامه المبدَّل؛ فجاهر بعدائها، وبالغ في ذمِّها والاستخفاف بها، وأمر أجهزته الأمنية بملاحقة أتباعها في ليبيا بالقتل والسجن والتعذيب والتشريد، وقد اعترف ابنه الساعدي في لقاء قناة العربية به ـ قبل أيام قليلة ـ بأن الدعوة السلفية كان مضيَّقًا عليها!

ويرجع قصة ذلك إلى تصدي العلماء الربانيين السلفيين لكفرياته وتجاوزاته أول ظهورها منه واشتهارها عنه، فبادروا إلى إنكارها والتحذير منها، ومن أبرزهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله تعالى ـ وهو كما وصفه العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه (علماء الحنابلة) (4235): (إمام العصر)، فهو إمام أهل السنة والجماعة، وإمام الدعوة السلفية في هذا العصر ـ، وقد توَّجوا جهودهم بإرسال وفد إلى ليبيا لنصحه واستتابته من إنكاره للسنة المطهرة برئاسة سماحة الشيخ صالح اللحيدان، عام (1399هـ/1979م)، لكنَّه أصرَّ على ضلاله ولم يُظهر التراجع، ولعله شعر بالإهانة، وأراد أن يرمي وزره على الآخرين، فبادر في خطبة عيد الأضحى المبارك التي ألقاها في بلدة زويلة (1400هـ/1980م) إلى ادعاء أن: (مكة الآن والكعبة الشريفة والمدينة المنورة وقبر الرسول وجبل عرفات يقعون الآن تحت طائلة الاحتلال الأمريكي)، وقال: (إن الإسلام قد أُهين، وإن المسلمين قد أذلوا، وإن بيت الله قد أُحتلَّ)! وهذه طريقة معروفة عن الماركسيين واليساريين، كلما جوبهوا بحقيقة ما هم عليه من الكفر والانسلاخ عن الإسلام؛ اتَّهموا أهل التوحيد والسنة بالولاء لأمريكا، لأنهم لا يرضون بمناهجهم الاشتراكية والماركسية. ولم يكتف القذافي بكذبه هذا، بل بدأ بالطعن في دين الله، فكان مما قاله: (أن تُطأطئ رأسكَ في جبل عرفات وفي بقية الشعائر وتدعو الله بأن يدخلك الجنة فهذه سذاجة مرفوضة من المسلم الحقيقي)، وقال: (إننا نقول ذلك لا لكي نتوجه كبقية السذج والجهلة في مؤتمراتهم الإسلامية بالدعاء الساذج الأناني).

وقد نبَّهتْ تلك الخطبة أولئك العلماء إلى ضرورة التصدِّي له مجدَّدًا، فأصدروا عدة بيانات، منها بيان من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة بتاريخ 11/12/1400هـ، وبيان من الأمانة العامة للمجلس الأعلى العالمي للمساجد بمكة المكرمة أيضًا، وبيان من مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وقد جُمعتْ هذه البيانات وغيرها في وثيقة مهمة طبعتها رابطة العالم الإسلامي بعنوان: (الرد الشافي على مفتريات القذافي)، وفي آخرها بيان من مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بدورته (19) بتاريخ (22/5/1402هـ)، بتوقيع رئيس الدورة الشيخ محمد بن علي الحركان، وبعضوية خمسة عشر عالمًا، منهم: عبد الله خياط، وعبد العزيز بن عبد الله بن باز، وعبد الله بن محمد بن حميد، وعبد الرزاق عفيفي، وعبد الله بن غديان، وصالح اللحيدان، ومما جاء فيه قولهم ـ جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ـ:

(استعرض المجلس الاتجاهات العدائية التي تقوم بها صحائف منحرفة في اتجاهاتها وعقائدها، يحدوها الحقد والحسد، ويسيِّرُ اتجاهاتها الآثمة المنحرفة: عناصرُ ذات مشارب متشابهة في عداء [في المطبوع: رداء] الإسلام والمسلمين، ترى في هذه البلاد ما يعوق مخططاتها الأثيمة في اعتبار هذه البلاد القاعدة الكبرى للإسلام والمسلمين، وفي طليعة هذه الطوائف المنحرفة والموجهة: طاغية ليبيا معمَّر القذافي، ذلك الرجل الذي نذر نفسه لخدمة الشرِّ وإشاعة الفوضى وإثارة الشغب والتشكيك في الإسلام).

ثم قال أولئك العلماء الأجلاء أثابهم الله: (إن مجلس هيئة كبار العلماء وهو يستنكر تمادي هذا الدعي على الإسلام والمسلمين؛ ليُقرِّرُ ويؤكِّدُ أنه بإنكاره لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخفافه [في المطبوع: واستفتاءه] بالحجِّ، واستهانته ببعض التعاليم الإسلامية، واتجاهاته الآثمة الباطلة؛ يعتبرُ بذلك: كافرًا، وضالاًّ مضلاًّ، فضلاً عن ظلمه وطغيانه وإجرامه،…).

أقول: إن هذا التكفير الصريح لشخص معمَّر القذافي لم يُقدِم عليه أولئك العلماء الثقات الأجلاء إلا بعد بحث ودراسة متأنية، وبعد إرسال وفد من العلماء إليه لإقامة الحجة عليه، واستتابته، لكنه أصرَّ وتمادى في كفره، ومنذ ذلك التاريخ (1402هـ/1982م) وحتى يوم الناس هذا؛ لم يصدر من هذا الطاغية المرتدِّ ما يدلُّ على توبته وأوبته، بل صدر منه خلال هذه السنوات الطويلة، في أوقات مختلفة، ومناسبات عديدة؛ ما يدلُّ على إصراره على كفره، فقبل سنوات قليلة ـ دون الخمس ـ تكلَّم بمناسبة عيد الأَضحى المبارك وجدَّد كلامه القديم في أن الطواف بالكعبة المشرفة والتزامها وثنية، وزعم أن منع غير المسلمين من الحجِّ عنصرية وتمييز اخترعه المسلمون، فيحقُّ للناس جميعًا أن يحجوا، واستدل على زعمه بقول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96]؛ ولم يقل للمسلمين! وقال في حديثه أمام البرلمان التونسي بتاريخ (16/12/1988): إن فرض الحجاب على المرأة من عمل الشيطان، وأن المرأة العارية إن كانت عاملة ومنتجة فهي المحجبة! وبعد سقوط أخيه بنعلي أشاد بإنجازات العلمانية التونسية في تحرير المرأة من قيود الدين، وزعم أن الإسلاميين يريدون العودة بها إلى الوراء، وصدر منه استهزاء صريح بالقرآن العظيم، [وكل هذا منشور بالصوت والصورة في موقع يوتيوب] وغير ذلك كثير!

ورغم تمادي القذافي في كفره واستكباره وغروره، فإنه كان يلاحظ خلال تلك السنوات الطويلة سقوط المشاريع القومية والماركسية والاشتراكية في العالم كله، ويتابع بغيظ وقلق العودة المحمودة إلى الدين، وانتشار الدعوة السلفية في مشارق الأرض ومغاربها، ولم تكن نفسيته المتعالية الخبيثة أن تسمح له بالرجوع إلى الحق والتوبة الصادقة إلى الله عز وجلَّ، فكلَّف ابنه الشقي (الساعدي) بأن يتعامل مع الواقع الجديد الذي عُرف بالصحوة الإسلامية؛ بأن يلبس لباس السلفية، ويدور على علمائها ودعاتها، لعلَّ جماهير المسلمين يذهلون عن: (كُفر الأب)، عندما يفتنون بـ: (سلفية الابن)! وقد كان يمكن أن نحسِّن الظنَّ بابن القذافي لو كان في سيرته ما يدل على تديِّن واستقامة، بل كل ما فيها يدل على أنه على سيرة والده في الزيغ والضلال والفجور والتلون كالحرباء، فلم يعد خافيًا فضائحه مع عاهرات أوربا وإغداقه الأموال عليهن بالملايين، ولا الملايين التي أنفقها بسخاء على نوادي كرة القدم في إيطاليا لعلهم يحققون حلمه في أن يكون لاعبًا ولو بالاحتياط، وانتهى أمره بالطرد منها، ثم أقبل على المغامرة في مملكة الفجور (هوليوود)، ففي سنة (2009) أصبح الساعدي المستثمر الأكبر في شركة إنتاج الأفلام: “ناتشرال سيليكشن” بقيمة استثمار بلغت (100) مليون دولار أميركي، ليحتفظ بعد ذلك مؤسس الشركة ماتي بيكيرمان بمنصب المدير التنفيذي، وهو يهودي من ولاية نيوجيرسي الأميركية! وقد صرَّح الساعدي بعد الاتفاق بقوله: “باعتباري من غلاة هواة الأفلام، فإنني شديد الاهتمام بهذا المشروع، وبالعمل مع ماتي بيكرمان في صناعة أحفظ لها مكانة في قلبي، ودومًا أجد في نفسي هوًى قويًّا تجاه صناعة الأفلام، وأشعر بسعادة بالغة لأنني استطيع الآن دعمها بدخولي في هذا المجال”! [هنا رابط الخبر]

يا له من (سلفيٍّ) من صناعة (القذافي)! ولولا أننا لا ننكر حقائق الأشياء لقلنا: إنك أنت ووالدك وبقية العائلة من صناعة هوليوود!

واليوم بعد أن أذن الله عزَّ وجلَّ بعجائب قدرته، وبحكمته البالغة في تصرفه في خلقه؛ بهدم بنيان القذافي، وإبطال كيده ومكره، وإلحاق الخزي والعار به وبأبنائه في الدنيا ـ قبل عذاب الآخرة إن لم يتوبوا ـ والتعجيل بخذلانه وإزالة سلطانه، وقطع دابره ـ إن شاء سبحانه ـ؛ فما زال القذافيُّ وأبناؤه الأشقياء في استعلائهم وغرورهم، حتَّى بلغ بهم ظنُّ السوء أن تعلقهم في أيامهم الأخيرة بالدعوة السلفية، وتشبثهم بها سيدفع عنهم دائرة السوء التي دارت عليهم فأحاطت بهم من كل جانب بما كسبت أيديهم من الكفر والظلم والبغي والفساد في الأرض!

لقد تابعتُ خلال الأيام الماضية قناة (الشبابية) الليبية؛ فإذا هي تخصِّصُ وقتًا طويلاً من برامجها لبثِّ محاضرات ودروس وفتاوى لعلماء سلفيين في التحذير من الفتن ووجوب السمع والطاعة للحاكم المسلم والتحذير من الخروج عليه. كما شاهدت بعض الشباب الليبيين يشاركون في برامج مباشرة لتقرير تلك المعاني. ثم علمتُ من بعض الإخوة الليبيين أن أولئك الشباب قد أكرهوا على المشاركة في تلك البرامج، وهذا محتمل جدًّا، ومن المحتمل أيضًا أنهم شاركوا بمحض إرادتهم لجهلهم وسذاجتهم. أما محاضرات العلماء وفتاويهم التي تبثها تلك القناة؛ فلا لوم على أصحابها، فإن بعضهم قد مضى على وفاته أكثر من عقد من الزمان كالعلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى، وآخرون منهم لم يُستأذنوا كسماحة الشيخ المفتي عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله، وكلامهم حقٌّ في نفسه لا شكَّ فيه، لكن لا تعلق له بما يجري في ليبيا لا من قريبٍ ولا من بعيد. وإنَّما يقعُ اللوم والعتب على بعض طلبة العلم الفضلاء الذين استجابوا لإلحاح ابن هوليوود (الساعدي) للمشاركة في تلك القناة والكلام فيها عن السمع والطاعة ولزوم الجماعة! وقد استغلَّ ذلك بعض أهل البدع والأهواء فسارعوا ـ من خلال مواقعهم ومنتدياتهم ـ إلى الطعن والتشهير والاتهام الباطل للسلفية وعلمائها، ولو أنَّهم التزموا بالحق والعدل والإنصاف لذكروا ما سبق من تصدِّي أئمة الدعوة السلفية في هذا العصر لمعمَّر القذافي، وتكفيرهم له، وأن ذلك التكفير قائمٌ حتى الآن، إذ لم يصدر من القذافي ما يوجب انتفاءه، وأن العلامة السلفي سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان ـ رئيس مجلس القضاء الأعلى سابقًا، وعضو هيئة كبار العلماء حاليًّا ـ، الذي كان على رأس وفد النصيحة والاستتابة للقذافي في سنة (1399/1979)؛ قد أمدَّ الله في عمره، وبارك له فيه، ليشهدَ بداية نهاية القذافي، ويصدرَ فيه فتوى جديدة، سارت بها الركبان، جدَّد فيها الحكم السابق بتكفيره، وصرَّح بوجوب إزاحته والتخلص منه، فقال في مكالمة هاتفية يوم السبت 23/3/1432هـ، الموافق: 26/2/2011م ما نصه:

(فيما يتعلق بهذه الفتنة التي تعيشها ليبيا هي في الحقيقة فتنة خطيرة ينبغي لليبيين أن يسعوا لإخمادها، إن أمكن أن تُخمد بتراجع من السلطة والمتظاهرين بغير سفك دماء فحسن وجميل، مع الذي أحب أن أوضحه أنني لا أرى أن الحكومة حكومة إسلامية،…)

وقال: (هو حقيقة ثورة فاتح، لكنه فاتح على باب الشرِّ، وليس على باب الخير، لأنه تنكّر للمعارف الدينية، أنكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بداية الأمر ينكره جملةً وتفصيلاً، ويقول : يكفينا القرآن،..).

وقال: (لكن أيضًا ينبغي أن يحرص الليبيون على تجنب سفك الدماء، ومحاولة إنهاء هذه الفتنة بأقصى ما يمكن من حقن الدماء، والتخلص من هذا الرجل: أرى أنه من المهمات، فهو كما كنا نسمع ينفي كلمة: {قل} ويقول هذه للنبيِّ فقط، وإن أنكرها عندما قابلناه، لكن قبل أن نقابله بلغنا من عدد من الليبيين في مكة أنه يقول: لا تقولوا {قل يا أيها الكافرون} فإن هذه للنبي، بل قولوا: {يا أيها الكافرون}، {أعوذ برب الناس}، {أعوذ رب الفلق}، {هو الله أحد}، ينكر ما أجمع عليه الصحابة والتابعون والمسلمون، ويدعي أنه حاكم مسلم! لكنني أنصح مرة ثالثة ورابعة: احرصوا على ما يمكن من حقن الدماء، وحل المشاكل، وما كان تحت أيدي الإخوان: احرصوا على حفظ الأمن حفظًا تامًّا حتى لا ينفر الناس منكم. وأما هذا الرجل وأعوانه فاحرصوا على إزاحتهم إذا أمكن شيء منه دون القتل فهو الأفضل، ينبغي أن تصان الدماء بكل ما يمكن من وسيلة، وإن كان هو فيما أعتقد لا أراه مسلمًا في الحقيقة، لأنَّ من ينكر سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم جملةً وتفصيلاً، ولما جادلناه وبيَّنا له أنه لا يعرف عدد الركعات في الصلاة إلا عن طريق السنة، ولا يعرف مقادير الزكاة إلا عن طريق السنَّة، ولا يعرف النصاب إلا عن طريق السنة, قال: أنا لا أنكر الحديث العملي، وإنما أنكر القولي.. إلى غير ذلك، بما في ذلك مما كان يعترض عليه الرجل الزاني المحصن. اجتهدوا في كل ما يمكنكم أن تصلوا إلى إبعاده مع حقن الدماء، ومع صيانة الممتلكات الحكومية وأفراد الناس).

ثم قال أثابه الله: (هذا مجمل ما حرصت أن أقوله في هذه العجالة، وأكررُ: أسأل الله لكم التوفيق والسداد، وإخماد الفتنة بأي وسيلة تمكن، ويمكن فيها حقن الدماء، والله المستعان).

وقال السائلُ: طيب يا شيخ ـ الله يحفظكم ـ الآن يستعمل هذا الرجل وأتباعه مكيدة حيث جاؤوا ببعض من يتكلم باسم السلفية ليقرروا للناس أن هذا ولي أمر المسلمين! وأن من قاتله من الخوارج! بل غالى بعضهم وقال: إن من قتل على يد هؤلاء فلا يغسل؟! فأجاب الشيخ اللحيدان: (الحقيقةُ: هذا لا يصحُّ أبدًا). وقال الشيخ حفظه الله: (إن بدؤوكم بإطلاق النار فردوا عليهم, وأما أنتم فلا تبدؤونهم).

أقول: فهذا رأي من تكلَّم في هذه المسألة من العلماء الربانيِّين، ومن لم يتكلم فيها فلا ينسب إليه قول، ولا يلزم أن يتكلم في كل واقعةٍ كلُّ واحدٍ من العلماء، وقد يختلف بعض العلماء مع الشيخ اللحيدان في بعض التفاصيل، ولكن لا يمكن أن يخالفه أحدٌ منهم في وجوب البراءة من جرائم القذافي وظلمه وبغيه.

وأرى من الضروري أن أختم هذا المقال بقولٍ محرَّرٍ، واضحٍ وصريحٍ في المسائل المتعلقة بهذه النازلة، يدفع كل لبس وإشكال، ويقطع الطريق على من يريد استغلاله على غير وجهه، وبخلاف مراد كاتبه، فأقول ـ وبالله تعالى التوفيق ـ:

1. يجب التنبيه على أنَّ العلماء الذين اتفقوا على تكفير القذافي؛ لم يفتوا بوجوب الخروج عليه، ولم يحرِّضوا الشعب الليبي على ذلك. لأنه كما يحرم الخروج على الحاكم المسلم بإطلاق، فإنه لا يجبُ ولا يجوز الخروج على الحاكم الكافر بإطلاق؛ بل إنَّ للخروج ـ حتى إن كان الحاكم كافرًا ـ شروطًا وضوابط ترجع إلى القدرة وتحقيق المصالح الراجحة على المفاسد وفتوى العلماء وأهل الخبرة، إلى غير ذلك مما هو مبسوط في كتب أهل العلم.

2. إن سماحة الشيخ صالح اللحيدان حفظه الله؛ معروف بأقواله وفتاويه الكثيرة في منع الخروج والثورة، وفي تحريم المظاهرات، وأنها ليست من سنة المسلمين، ومن أحدثها قوله في درسه في الرياض بتاريخ 18/3/1432 جوابًا على سؤال عن الفتنة الليبية على وجه الخصوص: (هذه المظاهرات من الفتن، وأنها غير محمودة شرعًا، وأن أول مظاهرة في الإسلام قتل فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد، عندما حاصره المحاصرون. ولم يعرف عن أحد من أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة أن أحدًا منهم يحث الناس عند الاستنكار أن يقوموا بمظاهرة ومغالبة).

3. لهذا فإن كلام الشيخ اللحيدان جاء باعتبار ما وقعَ من الخروج على القذافي، وهو أمرٌ لم يُستفتَ فيه العلماءُ، ولو أنهم استفتوا لأفتوا بالمنع وإن اعتقدوا كفر القذافي، لما في الخروج عليه من مفاسد عظيمة، ومخاطر جسيمة، وقد رأينا ذلك بما جرى خلال هذا الشهر حتى بلغ الأمر إلى التدخل الدولي، والله أعلم بما ستنتهي إليه الأمور من سفك الدماء وانتشار الفوضى وحرب قد تطول شهورًا، فنسأل الله عز وجل أن يعجل بهلاك الطاغية وأبنائه وأعوانه.

4. فليس في كلام العلامة صالح اللحيدان تراجع عن فتاويه في منع المظاهرات والثورات والخروج، فقد جاءت في وقت واحدٍ، وليس بينها تناقض ولا تعارض، بل لكل مقام مقال، ولكل واقعة حكمها، وقد عامل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأعرابيَّ الذي بال في المسجد بالرفق وحسن التعليم ـ وقصته في (الصحيحين) ـ، ولو أنه استأذنه قبل أن يبول لبالغ صلى الله عليه وسلم في نهيه وزجره، ولقد كان من فقه حَبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ما أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) (28326) بإسناد صحيح أنَّ رجلاً جاءه فقال: لمَنْ قتل مؤمنًا توبةٌ؟ قال ابن عباس: لا، إلا النارُ! فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنتَ تُفتينا، كنتَ تُفتينا: أنَّ لمن قتل مؤمنًا توبة مقبولة، فما بال اليوم؟ قال: إني أحسبه رجلاً مغضَبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك.

والمقصود: أن الفقيه يراعي واقع الناس، ويأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة بالرفق والحكمة، فهذه الثورة قد وقعتْ، فإما أن يتمُّ التوافق والمصالحة لحقن الدماء ودفع الشرور، وإما أن يتنحى الطاغية بنفسه ويكف شره عن المسلمين، وإما أن يُنحَّى بأقل ما يمكن من المفسدة، مع ضرورة حقن الدماء، وعدم المبادرة إلى القتال إلا دفاعًا عن النفس، لهذا أكَّد الشيخ ـ مرارًا وتكرارًا ـ على ضرورة: (إخماد الفتنة بأي وسيلة تمكن، ويمكن فيها حقن الدماء، وحل المشاكل).

5. أما وقد وقع المحذور؛ فليس لأهل العلم والإيمان إلا أن ينحازوا إلى صفِّ المسلمين، ويتبرؤوا من صفِّ الظالمين، حتى من لا يرى كفر القذافي؛ فيكفيه ما صدر منه من الظلم والبغي والفساد، فليحذر أن يكون له معينًا أو نصيرًا ولو بكلمة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون أمراء، يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم؛ فليس منَّا ولست منه، ولا يَرِدُ عليَّ الحوضَ. ومن لم يصدِّقهم بكذبهم, ولم يعنهم على ظلمهم؛ فهو منِّي وأنا منه، وسيرد علي الحوضَ) [حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن غير واحدٍ من الصحابة، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (2242-2246)]. فلم يأمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروج عليهم لكنَّه أمر باعتزالهم، ومجانبة كذبهم وظلمهم.

6. لهذا فإنني أخشى أن يكون من شارك في إعلام الطاغية الليبي ممَّن صدَّقه بكذبه وأعانه على ظلمه؛ والعياذ بالله تعالى. والواجب على من يريد نصيحة الثوار بما فيه إخماد الفتنة وحقن الدماء: أن يتوجه إليهم بالنصيحة من خلال وسائل الإعلام التي لا صلة لها بنظام القذافي، فيسلم من الوعيد المذكور في الحديث، ويكون كلامه أبلغ تأثيرًا، وأحسن عاقبة، وأجدر بالقبول.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يفرِّج عن إخواننا في ليبيا كربتَهم، ويكشف غمتهم، ويحقن دماءهم، ويقيهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويعجِّل بهلاك القذافي وأبنائه وأعوانه… آمين، آمين.

وكتبه:

عبد الحق التركماني

رئيس مركز البحوث الإسلامية في السويد

22/3/2011م

– تذييل مهم:

بعد كتابة هذا المقال، نبهني أحد الفضلاء من أهل العلم إلى كلام للعلامة السلفي الشيخ عبد المحسن العبَّاد حفظه الله موافق لما ذكرته في هذا المقال، فحمدت الله تعالى على حسن توفيقه، وهذا نص كلامه أثابه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

تعقيب عبد المحسن بن حمد العباد البدر على ما نُشر عنه حول القذافي وأحداث ليبيا

تعقيباً على ما بثته بعض القنوات عني حول القذافي وأحداث ليبيا أقول:

لا أعلم في الشرع ما يدل على جواز المظاهرات التي استوردها كثير من المسلمين من بلاد الغرب وقلدوهم فيها، وأما القذافي المتسلط في ليبيا فأقول: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين، وإن الفرح برحيله عن ولاية ليبيا شديد، وذلك لما ابتلي به من استكبار وإيذاء للشعب الليبي، ولا أدل على ذلك وعلى سفاهته وغطرسته من خطابه الذي ألقاه قريباً بمناسبة هذه الأحداث، وأسأل الله عز وجل أن يعجل بخلاص الليبيين من ولايته وأن يهيئ لهم بعده من يحكمهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يوفقهم للاعتصام بحبل الله والاستقامة على أمره والتعاون على البر والتقوى، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.

عبد المحسن بن حمد العباد البدر

24/3/1432

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد