المفهوم الجمعي للأمة وفقه أحاديث الفتنة والخروج
المفهوم الجمعي للأمة وفقه أحاديث الفتنة والخروج
وأثر جماعات وأحزاب التفسير السياسي للإسلام في تمزيق الأمة
(مجموع تغريدات)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1- قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ . وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ . فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 92-94].
2- الأمة (في سياق هذه الآية) هي: الدِّين, والملة, والمخاطبون هم أتباع الدين وأبناء الملَّة, حيث يُكوِّنون بمجموعهم نسيجًا واحدًا، مجتمعًا على ملَّة واحدة، وبقدر اختلافهم فيها يكون تفرقهم؛ لهذا أمرنا الله تعالى بالأمرين معًا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
3- وهذه الأمة فيها الصالح والطالح، والسني والبدعي، والمحسن والمسيء، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32], وكذلك فيهم العادل والظالم ـ سواء كان حاكمًا أو محكومًا ـ فلا بد أن يتعايشوا جميعًا في إطار: (الأمة)، وإن تظالموا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
4- هذا المفهوم الجمعي هو المقصود بحديث: «إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ», فأجاب الله تعالى دعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم بأن لا يسلِّط على هذه الأمة عدوًا يقضي على كيانها، ولكن يبتليها بالفتن الداخلية: «حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا» [أخرجه مسلم].
5- وللمحافظة على هذا الكيان تواترت الأحاديثُ بالنهي عن القتال بين المسلمين، وبالأمر باعتزال الفتن ولزوم البيوت، واختيار أن يكون المسلمُ مقتولًا لا قاتلًا. كما تواترت الأحاديثُ بالصبر على ظلم الحكام وجورهم، والنهي عن الثورة والخروج عليهم؛ مهما انحرفوا وظلموا، إلَّا في حالة واحدة هي: الكفر البواح, ومنع الصلاة.
6- وظلم الحكام وفسادهم يكون في إطار التظالم بين أبناء الأمة؛ أما الكفر البواح فيهدد هوية الأمة بالمفهوم الجمعي لها؛ فلا بدَّ من الثورة العارمة ضدَّه.
7- وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكفرَ البواح بالمنع من الصَّلاة، وكان لا يغزو قريةً يؤذَّن فيها بالصلاة، فالمقصود بهذا القيد: الضروريَّات الدِّينية المكوِّنة لهوية الأمة وصبغتها. وليس المقصود بالكفر البواح: تعطيل الحدود ومخالفة قليل أو كثير من أحكام الشريعة، وإن كان هذا منكرًا عظيمًا وفسقًا وظلمًا أو كفرًا ـ إما أصغر أو أكبر ـ غير بواح.
8- ينظر الماديون وطلاب الدنيا إلى أحاديث الأمر باعتزال الفتن بأنها تصنع إنسانًا جبانًا، يتَّخذ موقفًا سلبيًّا من الحوادث! فيسخرون من تلك الأحاديث أو يخفونها ويتجاهلونها، لجهلهم بالمقصد النبويِّ الذي لا يفهمه أولئك الحمقى. وقد قال لي مستشرق سويديٌّ: إن فقهاءكم يسمون الثورة: (فتنة)؛ ليحافظوا بذلك على كيانهم.
أقول: نعم؛ إنه المحافظة على كيان الأمة بمنع المغالبة على الدنيا، والمسارعة إلى المكاسب المادية، وعدم الصراع من أجل مصالح شخص أو حزب أو جماعة.
9- ينبغي علينا في مواجهة التيارات الحركية البدعية: أن لا نكتفي بذكر أحاديث النهي عن الفتنة والخروج، بل لا بدَّ أن نبيِّن فقهها وارتباطها بالمفاهيم الكلية التي تحافظ على مصالح الأمة. فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم ترك لنا دينًا هاديًا، جامعًا لمصالح الدنيا والآخرة، موافقًا للعقول السليمة والفطر السوية.
10- ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إشارات حكيمة في هذا المجال، وطبقها في دعوته، فواجه جميع الانحرافات في الأمة، لكنه لم يواجه حكَّام زمانه، بل اتَّخذ منهم موقفًا حكيمًا يراعي المصلحة العامة, وأكثر من التأكيد على المنع من الثورة والخروج، لهذا يطعن فيه: المستشرقون, والرافضة, والصوفية, ويتهمونه بالتحالف مع السلطة لبث أفكاره، والحقيقة أنه لم يواجه السلطة وتعامل معها بحكمة بالغة لغايةِ جمعِ قوى الأمة في مواجهة التيارات المهدِّدة لكيانها كالتتار, والرافضة, والنصيرية, وغيرهم.
11- لقد ظنَّ بعض الصالحين والمغرَّر بهم أننا رفضنا شعار رابعة بغضًا للإخوان, أو حبًّا في السيسي! فلا هذا ولا ذاك، بل تجنبنا التحريض ودعونا للمصالحة إشفاقًا على الأمة أن تزداد تمزقًا.
12- ولو كان الإخوان محكومين بالانتماء للأمة بالمفهوم الجمعي؛ لما هدَّدوا بحرق مصر إن لم يرجع مرسي. إنهم لم يكفوا حتى اليوم عن المطالبة بالشرعية, وكأن الشرعية لا تتمثل إلا في حقوقهم ومظالمهم، وإنْ أدَّى ذلك إلى سفك الدماء وتخريب البلاد، واستمرار الصراع من غير مصلحة للإسلام والمسلمين. لهذا فتأييد استقرار مصر في ظل السيسي يأتي في سياق التأييد لمبارك ومرسي للغاية نفسها, لهذا قال السلف: لو كانت لنا دعوة صالحة لجعلناها في السلطان.
13- الحزبية البغيضة تربِّي أبناءها على تقزيم مفهوم الانتماء للأمة, وتغليب مصلحة الحزب والجماعة، وعن هذه التربية نشأت تيارات التكفير والتفجير. لقد صرح حسن البنا في: (رسائله) بأن دعوته معيار للحق والولاء والبراء، ثم جاء سيد قطب فكفر المسلمين وألغى وجود الأمة المسلمة (الظلال 2/1057). فماذا بقي إذن من مفهوم الانتماء إلى الأمة, والمحافظة على كياناتها, والدفاع عن دولها ـ بغضِّ النظر إن كان حكامها صالحين أو طالحين ـ؟! وما تسارع الحركيون إلى تأييد الحريق العربي وتدمير كيانات الأمة إلا لتضييعهم لهذا المفهوم، وما محنة اليمن اليوم إلا نتيجة من نتائجه.
14- لقد عمل الحركيون على تدمير الانتماء للوطن, ووصفوه بالوثن، فظن البعض أنه بسبب حملهم لفكر الانتماء للأمة, والحقيقة أنهم منشَقُّون عن الاثنين معًا، فكلُّ وطنٍ مسلمٍ هو جزء من الأمة، فالمحافظة عليه والنظرة الأولوية له؛ إنما هو صيانةٌ لجزء من كيان الأمة، فلا منافاة بين مفهوم الانتماء لكلٍّ منهما.
15- لقد عبَّر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن هذا المفهوم, فلم يطلب الملْكَ لنفسه, بل رجع إلى كيان قائمٍ: (إمارة الدرعية)، فكان الإصلاح من الجزء إلى الكلِّ, وليس بتدمير الكلِّ لمصلحة الجزء، وهذا ما لا يفهمه حركيٌّ حزبيٌّ مثل: حاكم المطيري؛ الذي رأى هذا الذي تميَّز به الإمامُ رحمه الله نقصًا وخللًا في دعوته!
والله المستعان، وعليه التكلان، وله الحمد في الأولى والآخرة.
عبد الحق التركماني
الثلاثاء 6 ذو الحجة 1435هـ الموافق 30 سبتمبر 2014م
- لا يوجد تعليقات بعد