موقع الشيخ عبد الحق التركماني - أثر التفسير السياسي للإسلام في تحريف مفهوم الجهاد

/ 19 أبريل 2024

للتواصل 00447432020200

أثر التفسير السياسي للإسلام في تحريف مفهوم الجهاد

نشرت بواسطة : إدارة الموقع / 23 مارس 2015 1320

أثر التفسير السياسي للإسلام في تحريف مفهوم الجهاد

كلمة للشيخ عبد الحق التركماني في مؤتمر الإسلام ومحاربة الإرهاب

الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة: 3-6 جمادى الأولى 1436هـ

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

معاليَ الشيخ رئيس الجلسة رعاه الله.

الحضورَ الكرام وفقنا الله وإياكم لمرضاته.

بما أنَّ هذه الكلمة موجزة وستعقبها مداخلاتٌ ومناقشات، فإنِّي أودُّ الإشارة إلى نقطة محدَّدة تحتاج إلى الاهتمام والإبراز عند الحديث عن مفهوم الجهاد؛ وأحرص على بيان جوانب لها صلة قوية بالواقع الذي نعيشه كما ظهر لي من خلال الدراسة، أو من خلال الحوارات والمناقشات اليومية مع الشباب الذين أبتلوا بالخوض في قضايا الجهاد.

أحسب أن مسألة وقوع التحريف والتشويه الكبير في مفهوم الجهاد في هذا العصر وممارسته عند كثير من العاملين للإسلام؛ أحسب أن هذا أمر لا مراء فيه، إنما الجدل الأكبر في جذوره وأسبابه، والكشف عن هذا الجانب أول خطوة في طريق التصحيح والتقويم؛ إن شاء الله تعالى.

إن الانحراف المعاصر في مفهوم الجهاد والذي انتهى أخيرًا إلى ممارسات داعش الإرهابية الهمجية، ترجع جذوره إلى تراكمات قرنٍ من الزمان من الخطاب الحركي السياسي الذي شوَّه كثيرًا من المفاهيم الدينية، مرتكزًا في ذلك إلى نظرية التفسير السياسي للإسلام.

هذه النظرية ـ نظرية التفسير السياسي للإسلام ـ التي تجعل الغاية من النبوة والرسالة والشريعة هي: «إقامة عدل الدنيا» من خلال الانقلاب السياسي على أنظمة الحكم، كما قال أحد أبرز منظري هذا الفكر الأستاذ المودودي رحمه الله: « إن الله قد أراد ببَعْثِهم» أي: الرسل «أن يقيم في العالم نظام العدالة الاجتماعية Social Justice على أساس ما أنزله عليهم من البيِّنات، وما أنعم عليهم في كتابه من الميزان، أي: نظامَ الحياة الإنسانية العادلَ». انتهى كلامه من كتابه «نظرية الإسلام السياسية» ( ص:40).

وهنا يحسن بي أن أذكر أنه قبل نحو ثلاثة عقودٍ من الزمان، ومن على نفس هذا المنبر، في مؤتمر «الدعوة والدعاة» الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في شهر صفر 1408هـ، أطلقَ العلامة الراحل الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى صرخته في الأمة، من خلال حديثه عما سماه: «جبهات الدعوة الحاسمة، ومجالاتها الرئيسية المقررة لمصير العالم الإسلامي فضلًا عن مسيرة الدعوة»، ثم قال: «وأُركِّزَ على النقاط المختارة العلمية ـ في ضوء دراساتي القاصرة، وفي ضوء الواقع وتجارب الماضي ـ؛ لحماية الأقطار الإسلامية من التحدِّيات والفتن». ثم ذكر رحمه الله إحدى عشرة نقطة في غاية الأهمية، فكان أولها:

«تحريك الإيمان في نفوس الشعوب والجماهير المسلمة، وإثارة الشعور الديني فيها،… وتصحيح العقيدة وإخلاص الدين لله، والابتعاد عن كلِّ أنواع الشرك، والعقائد الفاسدة، والعادات الجاهلية،..».

وكان ثانيها: «صيانة الحقائق الدينية، والمفاهيم الإسلامية من التحريف، ومن إخضاعها للتصورات العصرية الغربية، أو المصطلحات السياسية والاقتصادية، والتجنُّب عن تفسير الإسلام تفسيرًا سياسيًّا بحتًا، والمغالاة في تنظير الإسلام، ووضعه على مستوى الفلسفات العصرية، والنظم الإنسانية، لأن الحقائق الدينية هي أساس للإسلام الدائم، والأصل الذي منه البداية وإليه النهاية، وإليها كانت دعوة الأنبياء، وفي سبيلها كان جهادهم وجهودهم، وبها نزلت الكتب السماويَّة. والحذر من كلِّ ما يقلِّلُ من قيمة الصلة بين الله والعبد والإيمان بالآخرة وأهميتها، ويُضعف في المسلم عاطفةَ امتثال أمر الله وطلب رضاه، والإيمانَ والاحتسابَ والقربَ عند الله تعالى، وهذا التحوُّل يُفقدُ هذه الأمة شخصيتها وقوتها، وقيمتها عند الله، وكذلك الحذرُ من كلِّ ما يُقلِّلُ من شناعة الوثنية العقائدية، والشرك الجليِّ والعادات والعبادات الجاهليَّة، والاكتفاء بمحاربة النظم والتشريعات والحكومات غير الإسلامية، فإنَّ ذلك يتَّجه بهذا الدين عن منهجه القديم السماويِّ إلى المنهج الجديد السياسي» (محاضرة «الدعوة الإسلامية في العصر الحاضر: جبهاتها الحاسمة، ومجالاتها الرئيسية» ضمن «الدعوة والدعاة مسؤولية وتاريخ» للشيخ أبي الحسن الندوي، سلسلة كتاب دعوة الحق، رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، السنة السابعة، العدد (80)، ذو القعدة 1408هـ/ يوليو 1988م، ص: 10-12).

فلله درُّه من ناصحٍ بصير، حذَّر في وقتٍ مبكِّرٍ من التفسير السياسي للإسلام الذي نتجرَّعُ اليومَ شرورَه وسُمومه في هذا الحريق والخراب العربي، الذي سمي زورًا وبهتانًا بالربيع العربي.

يمكن الإشارة بإيجازٍ إلى بعض الآثار السيئة للتفسير السياسي للإسلام في تشويه مفهوم الجهاد ـ وهو المقصود من هذه الكلمة ـ بما يلي:

أولًا: الانحراف في أصل الغاية من الجهاد التي أبانها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا فهو في سبيل الله»، فزعموا أن الغاية منه الحرية، والحقوق الدنيوية، والمغالبة على السلطة والدولة، لهذا لم يلتفتوا إلى الخسائر والمفاسد المترتبة على الدِّين بسبب المواجهة والقتال، بينما نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل عندما كان القتال مَظِنَّةً لإعزاز الدِّين، وترك القتال وصالح المشركين المعتدين الظالمين، وقَبِلَ بالخسائر المادية من أجل المكاسب الدينية والدعوية.

وفي خصوص علاقة المسلمين مع حكامهم الظلمة الجائرين المفسدين: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الخروج على من ذلك صفتهم، وقال: «ما أقاموا الصلاةَ فيكم»، أي: أن الغاية من وجودكم متحقِّقةٌ بإقامة الصلاة، فيجب عليكم المحافظةُ على نعمة الأمن في الدِّين لإقامة وظيفتكم في هذه الحياة، والصبر على ما عدا ذلك من المظالم حفاظًا على هذه المصلحة الكبرى، لهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أدُّوا الذي عليكم، واسألوا الله ما لكم» ـ كما أخرجه البخاريُّ ـ كأنَّه يقول: هذه الحياة الفانية، والدنيا الزائلة، لا تستحق أن تُهلكوا أنفسكم من أجلها.

ثانيًا: إن هذا المفهوم المحرَّف للجهاد هو الذي حمل أصحابَه على نقله للقتال الواقع بين المسلمين أنفسهم، لهذا رأينا الخطابات والفتاوى في إسقاط أحكام الجهاد وفضائله على الثورات العربية، حتى وصفوا المنتحر سخطًا على الله بسبب الفقر والظلم؛ وصَفُوه بالشهادة، وسَمَّوا ساحات المظاهرات والاعتصامات بساحات الرِّباط، وزعموا أن الاعتكاف فيها في رمضان خيرٌ من العمرة والاعتكاف في المسجد الحرام.

ثالثًا: محاربة الرؤية الشرعية المنضبطة لأحكام الجهاد، بالتشغيب عليها والطعن في العلماء الربانيين القائلين بها، كما حصل مع فتوى إمام العصر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، عندما أفتى بجواز الصلح مع دولة اليهود، ولا شك أن تلك الحملة الشرسة ضد الشيخ واتهامه بشتى الاتهامات ساهمتْ في انصراف الشباب عن الأخذ عن العلماء الربانيين في قضايا السياسة الشرعية.

ثم رابعًا وأخيرًا: جعل قضية الجهاد من قضايا العامة، أو كما يسمى اليوم من «قضايا الشأن العام» فربوا الناس عليها، وتناولوها في وسائل الإعلام، وجرؤوا الشبابَ على الخوض فيها، مع أن قضية الجهاد من قضايا الخاصة، بل خاصة الخاصة من أُولي الأَمر من العلماء والحكام كما قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].

والحمد لله رب العالمين.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد