الدرس الأهم من فتنة فتح الله كولن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قبل سنوات قليلة قامت الشخصيات الإعلامية للإسلاميين الحركيين بحملة دعائية كبرى للترويج للداعية التركي فتح الله كولن (غولن)، ـ منهم: سلمان بن فهد العودة وعبد العزيز الفوزان وغيرهما ـ وبإمكان القارئ أن يبحث في أرشيف الانترنت عن ذلك ليجد لهم تزكياتٍ عطرةً، وثناءً جمًّا، وألقابًا فخمة من الإمامة والفقه والإصلاح والتجديد أطلقها أولئك على كولن، وما أن حصلت محاولة الانقلاب الفاشلة حتى انطلقت كتابات وألسنة أولئك في التنديد بها، وإدانة كولن وجماعته، دون أن يكون لديهم أدنى شعور بضرورة الاعتذار لمتابعيهم في العالم العربي عما اقترفوه من جريمة الترويج والدعاية لشيخ ضالٍّ ولكتبه ومجلته ومؤسساته التي بدأت ـ بمباركتهم ـ بتوسيع نشاطاتها في الدول العربية!
هذه الواقعة لا يمكن أن نمرَّ عليها ـ في عالمنا العربي ـ دون أن نأخذ منها الدروس والعبر، فلسنا هنا أمام أخطاء فردية واجتهادات شخصية، بل نحن أمام ظاهرة خطيرة تمسُّ الاعتقاد والدعوة والفكر والإعلام، فلا بدَّ من كشفها، وبيان خطرها وضررها، وتنبيه أهل العلم والرأي والقرار على ضرورة مواجهتها، ولعلي أستطيع الإشارة إلى بعض جوانبها من خلال الفقرات التالية:
1- أن هؤلاء الدعاة على استعداد تام لاستغلال شهرتهم الإعلامية على القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لجعل الباطل حقًّا، والحقِّ باطلًا، والترويج لرؤوس الضلالة والزندقة والتآمر على الأمة؛ كلَّما رأوا في ذلك نصرةً لجماعتهم، أو مصلحةً لحزبهم، أو تقويةً لتيارهم الحركي.
2- أن هؤلاء الدعاة لا ينطلقون في مواقفهم وآرائهم من منطلقات عقيدية حتى في إطار القدر الضروري المشترك بين جميع طوائف الأمة، فقد مدحوا فتح الله كولن وروَّجوا له رغم أن أشهر أقواله المعروفة منذ سنوات طويلة بأن شهادة (لا إله الله إلا الله) دون الإقرار بشهادة (محمد رسول الله) كافية في الدخول في رحمة الله يوم القيامة! صرَّح بهذا في كتابه: (من فصل إلى فصل) بالتركية، وما زال موقعه الرسمي يشيد بكلامه هذا، ويعدُّه من أهم مرتكزات حوار الأديان، لهذا لقي ترحيبًا واهتمامًا عالميًّا واسعًا:
وهذا ناقض صريح من نواقض الإسلام عند جميع الفرق والمذاهب الإسلامية. فإن كان هؤلاء الدعاة زكَّوا كولن وهم يجهلون أشهر أقواله، وأكثرها انتشارًا وإثارةً للجدل، وأشدها حضورًا عند تناول دعوته؛ فقد تكلموا بغير علم، وشهدوا بجهل وظلم، وخانوا الأمانة، وغشَّوا الملايين من عوام المسلمين المخدوعين بهم بسبب شهرتهم الإعلامية. وإن كانوا زكَّوه وهم يعلمون بعقيدته الكفرية هذه؛ فهم شركاء له في الكفر والزندقة.
ومهما يكن؛ فالواجب عليهم التوبة والتصحيح والبيان ـ وليس مجرد الاستنكار لموقف سياسي ـ فالقضية تتعلق بأصل الاعتقاد والديانة، فلا تنفعهم التقلبات السياسية، ونَعِظُهم بقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
3- رغم قسوة الفقرة السابقة؛ فإنني أستدرك هنا فأقول: إنهم لم يمتدحوه لكفره وزندقته، بل لسبب آخر، وهو دقيق وغامض، لكنه الأهم والأخطر لأنه يحكم تفكيرهم وخطابهم ودعوتهم ومواقفهم من الأشخاص والجماعات. ذلك السبب هو (اعتبار منفعة الدين ومنفعة الدعوة) وهو ما يعرف بالتفسير السياسي للإسلام أو التفسير النفعي للإسلام. ذلك أن المنهج الذي تربى عليه أولئك الدعاة وأُشربتْ به قلوبهم يتلخَّص في تضخيم جانب منفعة الدين وثمرته وفائدته الدنيوية المادية حتى يصبح في منزلة غاية الدين الكبرى وهدفه الأعظم، بل تصبح هي الغاية والهدف حقًّا، في التصور والتصرف على حدٍّ سواء.
من هنا: فإنك لو راجعت تزكيات أولئك الدعاة لفتح الله كولن لن تجد فيها تطرقًا إلى: (اعتقاده، ومنهجه، وموقفه من دعوة التوحيد ونفي الشرك، ونشر السنة ومحاربة البدعة)، بل ستجد تأكيدًا وتركيزًا على (منفعة دعوته)، وجعلها أساسًا موجبًا لتزكيته والثناء عليه وتعظيمه، فقد تحدثوا عن (آثار ومنافع دعوته)، ولم يقَيِّموا (دعوته) في نفس الأمر، فتحدثوا عن مدارسه وجامعاته ومشاريعه الخيرية وكثرة أتباعه وسعة نشاطهم وتأثيرهم. هذه الجوانب ـ التي حكمت اهتمامهم، وكوَّنت حُكمهم على الرجل ـ معيارها نفعي ماديٌّ دنيويٌّ؛ مهما أُلبست لباس الديانة والدعوة، وهي تنطبق على كلِّ صاحب دعوة ناجحة مؤثرة ليس من المسلمين فقط، بل حتى من اليهود والنصارى والبوذيين، وكما كان العلامة الألباني رحمه الله يقول فإن النصارى أنشط وأنجح فيما تسمى بالأعمال الإنسانية!
4- لما كانت تزكية الدعاة الحركيين لفتح الله كولن وجماعته بالمعيار (النَّفعي) فقط دون النظر إلى صحة المعتقد وسلامة المنهج؛ فإن ذمهم له ولجماعته بعد محاولة الانقلاب؛ جاء خاضعًا للمعيار النفعي أيضًا. وهو ما صرَّح به أحدهم في تراجعه على (قناة المجد)، فإنه أصرَّ على صحة ما ذكره سابقًا من الأعمال الجليلة والإنجازات الكبيرة للجماعة، أي أنه لم يكتشف حتى الآن انحراف الجماعة وشيخها الأكبر في أصول الاعتقاد وقطعيات الدين، أو اكتشف ذلك لكنه غير ذي بالٍ عنده؛ فيحقُّ لنا أن نردِّدَ:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
5- أنصح الدعاة الحركيين أن يتوبوا إلى الله تعالى، ويكفُّوا عن التربص بدعاة التوحيد والسنة، وعن تصنيفهم وإطلاق الأوصاف الشنيعة عليهم، ويتوجَّهوا بدلًا من ذلك إلى العناية بتصحيح الاعتقاد ونصرة السنة ومحاربة الشرك والبدعة، ودراسة ما في الواقع المعاصر من دعوات وحركات ومنظمات صوفية وعقلانية ومتطرفة وإرهابية، حتى يَحذروها ويُحذِّروا منها، ولا يكونوا (حصان طروادة) لها في اختراق جسد الأمة والكيد لها، ولا يجعلوا أنفسهم ضُحَكةً أمام الناس بكثرة تناقضاتهم وتقلُّباتهم.
6- وأختم هذه الكلمة الموجزة: بنداء إلى علماء الأمة وأصحاب الرأي والسلطة والقرار فيها؛ أناشدهم فيه بضرورة دراسة ظاهرة (التفسير السياسي والنفعي للإسلام) والكشف عن مخاطرها وأضرارها على الدعوة الإسلامية وواقع المسلمين، ومناصحة من تلوث فكرهم بهذا التفسير، والأخذ على أيديهم، والتحذير منهم، ومنعهم من التصدر في المنابر الدعوية والوسائل الإعلامية، فإن ضررهم على الديانة عظيم، وخطرهم على المسلمين ودولهم جدُّ كبير… اللهم هل بلغت؟! اللهم فاشهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين
كتبه
عبد الحق التركماني
ليستر: 25/11/1437هـ
- لا يوجد تعليقات بعد