موقع الشيخ عبد الحق التركماني - المعيار لفكر حسن البنَّا

/ 21 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

المعيار لفكر حسن البنَّا

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 15 تشرين الأول 2016 2016

المعيار لفكر حسن البنَّا

مقال بحثي في نظرية التفسير السياسي للإسلام عند حسن البنا

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحقُّ المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الهادي الأمين، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فلعلَّه قد أصبح المرادُ بمصطلح التفسير السياسي للإسلام واضحًا جليًّا من خلال ما كتبتُه ونشرتُه حتى الآن، وخلاصة ذلك: أنه نظرية في تفسير الدِّين تجعل غايته العليا ومقصده الأسمى في إقامة نظام اجتماعيٍّ دنيويٍّ، وتجعل جميع عباداته وتشريعاته وسيلةً لتحقيق تلك الغاية، وبلوغ ذلك المقصِد. لقد كانت هذه النظرية صريحةً فاضحةً لدى غلاة الفلاسفة كالفارابي وابن سينا، ثم تسربتْ أخيرًا إلى الفكر الإسلامي الحركي منذ جمال الدين الأفغانيِّ وحتى يوم الناس هذا، لكن بطريقة خفيَّة، وصورة غامضة، مع صحَّة الإقرار بفرائض الإسلام وأحكامه، والإيمان بالبعث والنشور، والعمل للآخرة وطلب النَّجاة فيها، إلَّا أنَّ هذه الأمور ـ كلَّها ـ صارت ـ بحكم هذه النظرية الحاكمة والفكرة المركزية للإسلاميين الحركيين ـ «وسائلَ» يُراد بها صلاحُ دنيا النَّاس، بإقامة الحكومة الإلهية والنظام الاجتماعي العادل.

غموض هذه النظرية وخفاؤها أدَّى إلى عدم الانتباه إليها، وعدم رصدها في كلام منظِّري الحركة الإسلامية، لهذا اقتضى المنهج العلميُّ بذل الجهد ـ أولًا ـ في كشف الغطاء عنها، والتعريف المفصَّل بها، وربطها بجذورها الفلسفية القديمة والحديثة، ثم ـ ثانيًا ـ في قراءة أدبيات الحركة الإسلامية في ضوء المعرفة المفصَّلة بهذه النظرية، حتى يكون فهم خطابها وَفق مفاهيمِ أصحابه ومقاصدهم. هذه العملية تتطلَّب منَّا جهدًا كبيرًا، ووقتًا طويلًا، لكن نتائجها ستكون مهمةً وحاسمةً، وستقدِّم أدلة واقتباسات مطوَّلة موثقة على صحة الدعوى بأن أدبيات الحركة الإسلامية محكومةٌ ـ تمامًا ـ بنظرية التفسير السياسي للإسلام إجمالًا وتفصيلًا.

لقد رأيتُ أن أقدِّم في هذه المقالة الموجزة؛ بعض النتائج الأولية لقراءة تراث الشيخ حسن البنَّا (1324 – 1368 / 1906 – 1949) مؤسس جماعة الإخوان المسلمون، وهي نتائج ستكون مفاجئة وصادمة للأكثرين، فالرجل ـ غفر الله لنا وله ـ محكومٌ بهذه النظرية في فهمه للإسلام ومقاصده وغاياته، وفي فكره الإسلامي، ومشروعه الدعوي، وجهوده الحركية، وتقريره لها في غاية الغموض والخفاء ممَّا يدلُّ على تشرُّبه بهذه الفكرة، وهضمه لها، بحيث استطاع أن يحولها إلى فكرة كليَّة، ومشروع شامل، دون أن يضطر إلى التطرق إليها بتفسيراتٍ جزئيةٍ، وعباراتٍ صريحةٍ، خلافًا لصنيع المودودي مِنْ بَعْدِه.

سأكتفي هنا بالنقل من كتاب «مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا»، دار الدعوة، الإسكندرية: 1410، وأعزو إليه برقم الصفحة في آخر كلامه.

كان الأستاذ حسن البنَّا صاحبَ فكرٍ شاملٍ، ورؤيةٍ كليَّةٍ، لهذا نجد قضية «الغاية والوجهة» حاضرة في خطابه ودعوته، فيقول:

«وقد حان الوقت الذي يجب فيه على المسلم أن يُدرك غايته، ويحدِّد وُجْهته، ويعمل إلى هذه الوجهة حتى يصل إلى الغاية» (20).

وهو يدرك أهمية «الغاية» التي تستحوذ على القلب والعقل وتقود التصرف والعمل، فيقول ـ وقد أصابَ وصَدَق ـ:

«الغايةُ أصلٌ، والأعمالُ فروعٌ لها، الغايةُ هي التي تدفع إلى الطريق» (44).

فلا جَرَم أن وقَّف البنَّا حياتَه ـ كلَّها ـ على العمل لتلك الغاية والوجهة، وأسَّس لها جماعةً عالميةً، ربَّى أتباعها عليها، وغرس فيهم ما سماه هو بــ:  «إسلام الإخوان المسلمين» (170)، فظنُّوا أنَّه الإسلام الحقُّ، أو الفهم الصحيح للإسلام ومنهاجه القويم، ولعلَّ أكثرهم لم ينتبه أنَّ: «إسلام الإخوان المسلمين»؛ إنما هو: «إسلام التفسير السياسي للدِّين»، لا الإسلامُ الحقُّ كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وربَّى عليه أصحابه الكرام، وسار عليه عامة المسلمين من السلف والخلف!

فالإسلام الحقُّ يقرِّر بأنَّ «غايةَ الدِّين» هي إقامة «غاية الخَلق»، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، لهذا جاء الأمر الإلهي الشرعي الدِّيني مطابقًا لغاية الخلق، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البيِّنة: 5]؛ فالعبادات مقصودةٌ لذاتها، تعبدًا لله تعالى، وتقربًا إليه، ورجاءً لرحمته في الدنيا والآخرة، ولا يمكن أن تكون وسيلةً لأيِّ غرضٍ دنيويٍّ، ومقصد عاجلٍ زائلٍ، وإنما المصالح الدنيوية، والمكاسب المادية؛ ثمارٌ ونتائجُ طيبةٌ لإقامة العبودية لله تعالى.

أما «إسلام الإخوان المسلمين» ـ كما سمَّاه وشرحه حسن البنَّا ـ فيقرِّر بأنَّ غاية هذا الدِّين هي إقامة «النظام الاجتماعي العالمي»، وقد اختار الله تعالى المسلمين للقيام بهذه المهمة، فهي وظيفتهم وغايتهم في هذه الحياة. قال حسن البنا تحت عنوان «غاية الحياة في القرآن»:

«إن القرآن حدَّد غايات الحياة ومقاصد الناس فيها»  (24).

ثم بيَّن بعض مقاصدهم المادية والشهوانية الفاسدة، وقال:

«تلك مقاصدُ من مقاصد الناس في الحياة، نزَّه الله المؤمنين عنها، وبرأهم منها، وكلَّفهم مهمةً أرقى، وألقى على عاتقهم واجبًا أسمى، ذلك الواجب هو: هداية الناس إلى الحقِّ، وإرشاد الناس جميعًا إلى الخير، وإنارة العالم كلِّه بشمس الإسلام، فذلك قوله تبارك وتعالى:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:77-78].  ومعنى هذا: أنَّ القرآن الكريم يُقيم المسلمين أوصياءَ على البشرية القاصرة، ويُعطيهم حقَّ الهيمنة والسيادة على الدُّنيا، لخدمة هذه الوصاية النبيلة، وإذن؛ فذلك من شأننا لا من شأن الغرب، ولمدنية الإسلام لا لمدنية المادة» (42-43).

إنَّ الآية صريحة واضحة في أنَّ مهمة المؤمنين في هذه الحياة هي إقامة العبودية لله تعالى بالصلاة والزكاة وسائر أنواع العبادات، لكن حسن البنا استخرج منها ـ بخياله الواسع ـ مهمةً أخرى، هي إقامة النظام الاجتماعي لسعادة البشرية. هذا المفهوم عاد البنَّا إلى تأكيده في الصفحة التالية، فقال:

«ولما كانت الغاية في أمتنا غامضة مضطربة كان لا بدَّ من أن نوضِّح ونحدِّد، وأظنُّنا وصلنا إلى كثير من التوضيح، واتَّفقنا على أنَّ مهمتنا: سيادةُ الدنيا، وإرشادُ الإنسانية كلِّها إلى نُظُم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناسُ» (44).

ما عبَّر عنه البنَّا هنا «بغموض الغاية واضطرابها في الأمة»؛ هو ما عبَّر عنه المودودي ـ لاحقًا ـ بانحراف الأمة وجهلها بالمصطلحات الأربعة في القرآن: «الإله والرب والدين والعبادة»، وهو ـ أيضًا ـ ما عبَّر عنه سيد قطب بجاهلية القرن العشرين، وأدَّى به إلى تكفير المجتمعات المسلمة عامةً.

إذا كانت غاية الرسالة والتكليف هي الوصاية على البشرية لإقامة «مدنية الإسلام»، فلماذا شُرعت العبادات الأصلية المحضة كالصلاة والزكاة والصيام والحج؟!

إنَّ جواب نظرية التفسير السياسي للدين هو: أنَّها شُرعتْ لتكون عواملَ تربويةً، ووسائلَ تدريبيَّة، لتهيئة الإنسان للمهمَّة التي خُلق من أجلها.

يقول حسن البنا في تقرير هذا الجواب ـ تحت عنوان «الشعائر العملية لهذا النظام» ـ:

«وقد خالف النِّظام القرآنيُّ غيره من النظم الوضعية، والفلسفات النظرية، فلم يترك مبادئه وتعاليمه نظرياتٍ في النفوس، ولا أراءً في الكتب، ولا كلماتٍ على الأفواه والشفاه، ولكنَّه وَضَعَ لتركيزها وتثبيتها والانتفاع بآثارها ونتائجها مظاهرَ عمليَّةً، وألزمَ الأمة التي تؤمن به، وتدين له؛ بالحرص على هذه الأعمال، وجعلها فرائض عليها لا تقبل في تضييعها هوادةً، بل يُثيب العاملين، ويعاقب المقصِّرين عقوبةً قد تخرج بالواحد منهم من حدود هذا المجتمع الإسلامي، وتطوح به إلى مكانٍ سحيقٍ. وأهمُّ هذه الفرائض التي جعلها هذا النظام سياجًا لتركيز مبادئه، هي:

أ) الصلاة والذكر والتوبة والاستغفار…الخ.

ب) الصيام والعفة والتحذير من الترف.

ج) الزكاة والصدقة والإنفاق في سبيل الله.

د) الحج والسياحة والرحلة والكشف والنظر في ملكوت الله…».

وذكر فرائض وشرائع أخرى إلى أن قال:

«فالمسلم مطالبٌ بأداء هذه الواجبات، والنهوض بها كما فصَّلها النظامُ القرآني، وعليه ألا يقصِّر في شيءٍ منها، وقد ورد ذِكْرها جميعًا في القرآن، وبيَّنتها بيانًا شافيًا أعمالُ النبي وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان في بساطة ووضوح،  وكلُّ عملٍ فيها ـ أو عدَّة أعمال ـ تقوِّي وتركِّز مبدأً ـ أو عدةَ مبادئ ـ من النظريات السابقة التي جاء هذا النظام لتحقيقها، وإفادة الناس بنتائجها وآثارها» (146-147).

إذن؛ العبادات المحضة إنما هي «وسائل عملية تقوِّي وتركِّزُ وتثبِّت» النظامَ الذي شرع الله تعالى من أجل إقامته دينَ الإسلام، ووضع له النظريات والمبادئ التي غايتها: «إفادة الناس بنتائجها وآثارها».

ولشرح كلام حسن البنَّا وتوضيح فكرته علينا أن نستعينَ بصديقٍ، فلنستَعِنْ بالشيخ الرئيس الفيلسوف أبي عليٍّ ابن سينا الفارسيِّ، ولن نتجنَّى على حسن البنَّا باتِّهامه بالسَّرقة الفكرية؛ مهما تطابقت الأفكارُ، وتشابهت الألفاظُ!

قال ابن سينا في شرح ما: «يجبُ ـ لا محالةَ ـ أنْ يكون النبيُّ قد دبَّر لبقاء ما يسنُّه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيرًا، ولا شك أن القاعدة من ذلك هي استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد، وحسم سبب وقوع النسيان فيه مع انقراض القرن الذي يلي النبيَّ، فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسنُّ تكرارها عليهم في مدد متقاربة…»، ثم شرح ذلك، فذكر الطهارة والصلاة والصيام والحج، وأشار إلى ما يسنُّه النبيُّ من آدابها ورسومها، ثم قال في منفعتها وغايتها:

«فهذه الأحوال ينتفع بها العامة في رسوخ ذِكْر الله ـ عزَّ اسمه ـ في أنفسهم، فيدوم لهم التشبُّثُ بالسنن والشرائع بسبب ذلك، وإن لم يكن لهم مثل هذه المذكِّرات تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرنٍ أو قرنَين» (كتاب النجاة لابن سينا، دار الآفاق الجديدة، بيروت: 1985، 338-343)! وبسبب هذه العقيدة ـ وغيرها من الأصول المناقضة لدين الرسل عليهم السلام ـ تتابع علماء الملَّة الإسلامية على الحكم بكفر ابن سينا وزندقته، وهو في وصف الإمام أبي عمرو ابن الصلاح (ت: 643): «لم يكن من العلماء بل كان شيطانًا من شياطين الإنس» (فتاوى ابن الصلاح، عالم الكتب، بيروت: 1407، 209)، وفي وصف الإمام ابن القيِّم (ت: 751): «إمام الملحدين» (إغاثة اللهفان، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة: 1432، 2/1032).

بعد هذا ـ كلِّه ـ فلا عجبَ في أن يصرِّح البنَّا بأنَّ العباداتِ وسائلُ لغيرها، فنجده يقول ـ وهو يشرح آيتي سورة الحج ـ:

«ثم أوضح الحقُّ تبارك وتعالى للناس ـ بعد ذلك ـ الرابطةَ بين التكاليف ـ من صلاةٍ وصومٍ ـ بالتكاليف الاجتماعية، وأن الأولى: وسيلةٌ للثانية، وأن العقيدة الصحيحة أساسهما معًا» (51).

كلام البنَّا هذا صريحٌ في جعل الصلاة والصيام (وهي الأولى) «وسيلةً» للتكاليف الاجتماعية (وهي الثانية)، وما هو بزلَّة قلمٍ، ولا خطأً في التعبير، بل اعتقادٌ جازمٌ، وقناعةٌ راسخةٌ، فلا بدَّ من اتِّخاذه «معيارًا كليًّا» في دراسة تراثه، ومعرفة فكره ودعوته، وتقييم حركته، إذْ يظهر أثر هذا الاعتقاد الكلِّيِّ ـ عند التدبُّر والتأمُّل ــ في كلِّ سطرٍ من سطور كلامه، وفي كلِّ خطوةٍ من خطوات دعوته، أما التصريحُ فنادرٌ جدًّا، منه كلامه هذا، ومنه كلامه في موضع آخر ـ وهو يشرح مبادئ دعوته، ومنها: «العالمية أو الإنسانية، فهي هدفنا الأسمى، وغايتنا العظمى، وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح» (131) ـ فنجده يقول:

«وهذه الصلاةُ، وتلك الزكاة، والحج، والصوم؛ إنَّما هي ـ كلُّها ـ تشريعات اجتماعية، يُراد بها توثيق الوحدة، وجمع الكلمة، وإزالة الفوارق، وكشف الحُجُب والموانع بين بني الإنسان. ومن هنا كانت دعوتنا ذات مراحل، نرجو أن تتحقَّق تباعًا، وأن نقطعها جميعًا، وأن نصل بعدها إلى الغاية» (131-132).

لقد تخرَّج حسنُ البنَّا من دار العلوم، وحفظ القرآن الكريم، وكانت له حصيلة من العلوم العربية والشرعية، وآتاه الله ذكاءً وفطنةً، فكان يعي ما يقول، ويقصد ما يقول، وكان يدرك جيدًا دلالة استعمال (إنَّما) و(كلها) في سياق كلامه هذا. لهذا ـ كلِّه ـ نطمئنُّ إلى القول بأنَّ حسن البنَّا كان يعتقد بأن الصلاة ـ التي هي كما قال: «لبُّ العبادة، وعمود الإسلام، وأظهر مظاهره» (50)ـ؛ وسيلةٌ للتكاليف الاجتماعية. ولا شكَّ أن الوسيلة لها مرتبة ثانوية، يُعمل بها لغاية أكبر، ومقصد أعلى، وهو هنا: «التكاليف الاجتماعية»، أو النظام العالمي الذي: «فيه الحلُّ الصحيح الواضح المريح لكلِّ مشكلات البشرية» (120)!

قلتُ: أَبَى الله تعالى ـ بحكمه الكونيِّ القدريِّ ـ أن تكون لمشكلات البشرية: (الحل الصحيح الواضح المريح)، وأبَى سبحانه أن يبلغ البشر ما يطمحون إليه في هذه الدنيا من السعادة التامة، والخير المطلق، والعدل المطلق؛ فقد قضى بحكمته عزَّ وجلَّ أن تكون هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وشدائد ومحن، وعيب ونقص وخلل، كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]، وقال عزَّ شأنه:  {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 32]، وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].

أكتفي بهذه الخلاصة، وأعِدُ الإخوة المهتمِّين بدراسةٍ علميةٍ موسَّعة لنظرية حسن البنا في تفسير الإسلام، لكني أودعت هذه الخلاصة في كتابي الجديد: «مقدمة في تفسير الإسلام»، وهو تحت الطبع في بيروت، وسيكون في متناول القرَّاء في القريب العاجل إن شاء الله تعالى، ومنه سبحانه أَستمدُّ العونَ والتوفيقَ.

كتبه:

عبد الحق التركماني

ليلة السبت 14 محرم

1438هـ الموافق 15 تشرين الأول 2016م


صور:

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد