موقع الشيخ عبد الحق التركماني - لا ردًّا على المتعالم المفتون وسيم يوسف بل حراسةً لعقائد المسلمين

/ 12 تشرين الأول 2024

للتواصل 00447432020200

لا ردًّا على المتعالم المفتون وسيم يوسف بل حراسةً لعقائد المسلمين

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 19 تشرين الثاني 2017 2966

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن القنوات الفضائية، وبرامج التواصل الاجتماعي، قد أبرزت في الساحة الإعلامية والدعوية عشرات المتعالمين المفتونين، فأصبحوا سكارى فتنة المال والشهرة والأضواء، وصاروا يلهثون خلف كل وسيلةٍ، ويأتون بكل شاذَّةٍ ومنكرةٍ؛ من أجل أن يحافظوا على (عالم الوَهْم) الذي يعيشون فيه على تلك المنصات والمنابر، وكلهم قلقٌ وخوف من أن يرجعوا إلى (عالم الواقع) فيجدوا أنفسهم على حقيقتها؛ صِفْرًا من العلم والفضل والأخلاق والمآثر.

بهذه الحالة النفسية أجهد أحدُ أولئك المفتونين نفسَه في البحث عن مادةٍ دعائيةٍ مثيرةٍ، فوجد مقالة قديمة كُتبتْ قبل سنوات، ففرح بها فرحًا أعماه عمَّا فيها من معانٍ فاسدةٍ، ومقاصدَ خبيثةٍ، وسارع إلى إنتاجها ونشرها بطريقة درامية استعراضية.

إن الردَّ هنا ليس على المتعالم المفتون وسيم يوسف، بل على كاتبة المقال، وهي (بلقيس الملحم)، وقد نُشِر مقالها أولًا في موقع (الحوار المتمدن) بتاريخ: (10/4/2011)، ثم نُشر في (الفيس بوك) بتاريخ (13/4/2011)، وانتشر بعد ذلك انتشارًا واسعًا، وإذا كانت القاعدةُ تقول: (لكل ساقطة لاقطة)، فقد جاء المتعالم المفتون بعد أكثر من ستِّ سنوات فاختار لنفسه حمل وزر نشرها على نطاق أوسعَ، وبشكل أسوأ، فنُبشِّره بقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثمِ مِثْلُ آثام من تَبِعَهُ، لا يَنْقُص ذلك من أوزارهم شيئًا». أخرجه مسلم.

فلنورد أولًا نصَّ المقال، ثم نبطل شبهاته بعون الله تعالى وتوفيقه:

(ممنوع من النشر، بلقيس الملحم

في المدرسة علمونا بأن الذي لا يصلي جماعة في المسجد فهو: منافق! أبي كان واحدًا منهم..

وبأن شارب الدُّخان: فاسق! أخي محمد كان واحدًا منهم..

وبأن المسبل لثوبه: اقتطع لنفسه قطعة من نار! أخي طارق واحدًا منهم..

وبأن وجه أمي الجميل: فتنة! لكن لا أحد يشبه أمي.

وبأن أختي مريم التي تطرب لعبد الحليم: مصبوب النار المذاب في أذنها لا محالة! لقد فاتني أن أقول لهم بأنها أيضًا تحبه. فهل ستحشر معه؟ أظنهم سيحكمون بذلك..

وبأن جامعتي المختلطة وكر للدعارة! رغم أنها علمتني أشرف مهنة وهي الطب!

وبأني أنا، الساكتة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: شريكة في الإثم والعقاب!

وبأن صديقتي سلوى التي دعتني لحفلة عيد ميلادها: صديقة سوء!

وبأن خادمة منزلنا المسيحية: نجسة!

وزميلتي الشيعية: أكثر خُبثًا من اليهود!

وبأن خالي المثقف: علماني!

وعمي المتابع بشغف للأفلام المصرية: ديُّوث!

لكني اكتشفت بأن أبي أطيب مخلوق في العالم. كان يقبلني كل ليلة قبل أن أنام. ويترك لي مبلغًا من المال كلما سافر من أجل عمله.

أخي محمد وطارق كانا أيضًا أكبر مما تصورته عنهما. محمد يرأس جمعية خيرية في إحدى جامعات أستراليا. وطارق يعمل متطوعًا في مركز أيتام المدينة كمدرب للكراتيه. أما أختي مريم فقد تفرغت لتربية أختي التي تصغرني بأربع سنوات بعد وفاة أمي وحرمت نفسها من الزواج من أجلنا.

أمي؟ يكفي أنها تلتحف التراب وأبي راضٍ عنها!

جامعتي المختلطة؟ كونت لي أسرة سعيدة بزواجي من رئيس قسم الجراحة. ومن خلالها ربيت أطفاله الثلاثة بعد فقد والدتهم.

أما كيف أقضي وقت فراغي؟ فكانت صديقتي سلوى هي المنفذ الوحيد لي. لقد تعلمنا سويًّا كيف نغزل الكنزات الصوفية. وندهن العلب الفارغة لبيعها في مزاد لصالح الأسر المحتاجة. أختي مريم أيضًا كانت تدير هذا البزار السنوي.

ماذا عن خادمتنا؟ أنا لا أتذكر منها سوى دموعها الرقراقة. يومها أنقذتنا من حادث حريق كان سيلتهمني وأخوتي بعد أن أصيبت هي ببعض الحروق! زميلتي الشيعية؟ هي من أسعفتني أثناء رحلة لحديقة الحيوانات. يومها سقطت في بركة قذرة للبط. فلحقت بي وكُسرت ذراعها في الوحل من أجلي. أما خالي عدنان. فقد أعتاد أن يقيم سنويًّا في القاهرة حفل عشاء خيري لصالح الأيتام. كان عازفًا حاذقًا للعود. وكان الناس يخرجون من حفلته خاشعين! عمي؟ هو من بنى مسجدًا وسماه باسم جدتي الكسيحة وأنا؟ لا أزال أسأل: لماذا يعلمونا أن نكره الآخرين؟! الشمس والظلام. كلاهما لا يحتاجان إلى دليل قطعي على ثبوتهما!). انتهى.

يقول عبد الحق التركماني عفا الله عنه: من الواضح أن هذا المقال قد كُتب من أجل إيجاد تناقضات وصراع داخلي في نفسية المسلم، ليسهل بعد ذلك نقله إلى الأفكار البراغماتية النفعية، ثم الليبرالية التحررية، ثم الإلحادية اللادينية، وهذا هو الهدف الحقيقي الأخير، لهذا فرح بهذا المقال ونشره الموقع الذي يُعرِّفُ نفسَه بأنه: (الموقع الرئيسي لمؤسسة الحوار المتمدِّن: يسارية، علمانية، ديمقراطية) ـ ظلماتٌ بعضها فوق بعض! ـ، ثم طار به وتداوله الملاحدة، والليبراليون، وضعفاء المسلمين من أصحاب الشبهات والشهوات، ولحق بهم في أَخَرَةٍ المتعالم المفتون!

إذن؛ نحن لسنا في صدد الرد على مقالٍ فحسب، بل في مواجهة مشروع فكري متكامل، يهدف إلى زعزعة الأصول، والتشكيك في الثوابت، وإسقاط الأحكام الشرعية، لجرِّ ضعاف المسلمين إلى فتن الانفلات والانسلاخ والإلحاد. هذه هي استراتيجية الإلحاد الجديد، فهي لا تعتمد على المحاججة العقلية ومحاولات البرهنة والإقناع، بل تعتمد على إثارة الشكوك، واختلاق التناقضات، وحشد أكبر قدر ممكن من التشغيبات والمغالطات، وطرحها على أساس أنها براهين مستقلة، وهي في حقيقتها تنويعٌ في أساليب العرض والإثارة لأفكار محدودةٍ، تعاد صياغتها وإنتاجها في قوالب مختلفة مرارًا وتكرارًا، إلى حدِّ الملال!

لهذا ـ كلِّه ـ فلا بدَّ أن نبيِّن ما في هذا المقال من مغالطات حتى لا يُفتَن بها ضعافُ المسلمين، فنقول ـ ومن الله نستمد العون والتوفيق ـ:

1- إن أكثر الأحكام الشرعية المذكورة في المقال قد قررها ـ في الجملة ـ علماءُ المسلمين استنادًا إلى أدلتها الشرعية من القرآن والسنة والإجماع والقياس، لا يختصُّ ذلك بمذهب أو بلد، بل هي موجودة ـ عمومًا ـ في كتب الأحاديث والآثار وفقه السلف الصالح، والمذاهب الأربعة المعتبرة: المذهب الحنفي، وهو مذهب مئات الملايين من المسلمين في الهند وباكستان وتركيا وغيرها، والمذهب المالكي، وهو المذهب الرسمي للمملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة وغيرهما، والمذهب الشافعي، وهو المذهب الرسمي لمصر وغيرها، والمذهب الحنبلي، وهو المذهب الرسمي للمملكة العربية السعودية، فكل مسألة من المسائل المذكورة إن لم تكن متقرَّرة في جميع هذه المذاهب المعتمدة في العالم الإسلامي، فهي متقرَّرة في بعضها، فلا مجال للتشغيب على أدلة الكتاب والسنة ومذاهب المسلمين وفتاوى علمائهم في مختلف الأمصار والأعصار.

2- فإذ الأمرُ كذلك؛ فقد عاش المسلمون في ظل هذه الأدلة والأحكام والفتاوى قرونًا طويلةً، فلم يحصل في واقعهم تناقضٌ، ولا وقعوا في العنف والتطرف والإرهاب، فمن يصرُّ اليوم على استغلالها للتشغيب والإثارة فلا يلومنَّ إلا نفسَه، إذْ هو المنحرف الضالُّ الذي فَهِمَ هذه الأحكام الشرعية على غير وجهها؛ فأراد أن يقتل أباه، ويقطع رأس أخيه، ويحرق خاله، ويفجر في الأسواق والمنتديات العامة! فإن كان قد تاب عن هذا الضلال؛ فليسأل نفسه: لماذا هو وحده والشراذم من أمثاله ـ من دون سائر المسلمين ـ فهموا هذه المقتضيات واللوازم من تلك الأحكام؟! فالواجب عليه إن كان جاهلًا أن يتعلَّم، وإن كان مريضًا نفسيًّا أن يبحث عن طبيب أخصائيِّ، ولا ينشغل عن إصلاح نفسه باتهام المسلمين وعلمائهم ودعاتهم بما لم يفهموه، ولم يقولوه، ولم يأمروا به!

3- يتبيَّن ما سبق بالكشف عن مغالطات وتشغيبات المقال، فأقول على وجه الإيجاز، مستعينًا بالله وحده:

إن كاتبة المقال أرادت ضرب الأحكام الشرعية بإبراز التناقض بينها وبين المنفعة المادية الواقعية، وهنا لا أريد البحث في الجانب الاعتقادي والفلسفي لهذه القضية ـ رغم أنه الأهم والأخطر، لكنه يحتاج إلى بسط واستيعاب، وهو محلُّ اهتمامي في كتاباتي عن التفسير السياسي والنفعي للدين ـ لهذا سأكتفي بتحرير الجانب الفقهي بما يُبطل دعوى التناقض والاضطراب، وبيان ذلك: أن من المعلوم عند جميع العقلاء أنَّ المسلم ليس معصومًا من الذنوب والمعاصي، فقد يرتكب كبائر الذنوب أو صغائرها، وقد يكون مستترًا بمعصيته أو مجاهرًا، وعقيدة أهل السنة والجماعة أن ذلك لا يخرجه من دائرة الإسلام، لكن يستحق من الأسماء والأوصاف والعقوبات الدنيوية والأُخروية بقدر معصيته وذَنْبه، فالإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي. لهذا فإن المسلمين يتفاوتون في درجات الفضيلة ومراتب الكمال، وإن كانت فضيلة الإيمان والإسلام ثابتة لجميعهم، وهذا في كتاب الله عزَّ وجلَّ، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، (فلا يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون من أحد هذه الأصناف: إما ظالم لنفسه، وإما مقتصد، وإما سابق بالخيرات) كما قال ابن تيمية (جامع الرسائل: 2/184)، فمن ظلم نفسه بالذنوب والمعاصي فقد استحقَّ الأوصاف والأسماء المترتبة على ارتكابها، كما يستحقُّ العقوبات المترتبة عليها شرعًا، فمن قتل أو زنى أو سرق أو أكل أموال اليتامى بغير حقٍّ أو شرب الخمر،.. إلى آخر ما هنالك من الذنوب ـ لكنه لم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام ـ؛ يسمى: ظالـمًا، وعاصيًا، وفاسقًا، مع أنه في الوقت نفسه من عباد الله المصطفَين الذين يثبت لهم اسم الإسلام والإيمان، ويمتدحون بذلك.

لقد عُني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عناية بالغة ببيان هذه الحقيقة الشرعية والفطرية والعقلية والواقعية، وذلك ضمن جهوده الإصلاحية في ترسيخ مفاهيم الاعتدال والوسطية، ومجانبة طريقة الخوارج والغلاة، فأذكر هنا طرفًا من كلامه، ثم أبيِّن وجه تعلُّقه بموضوع المقال:

قال رحمه الله:(وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشرٌّ وفجورٌ، وطاعةٌ ومعصيةٌ، وسنةٌ وبدعةٌ؛ استحقَّ من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحقَّ من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة؛ كاللصِّ تقطع يدُه لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم) [المجموع: 28/208].

وقال رحمه الله:(إن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر، ولم يكن المسلم كافرًا بمجرد ارتكاب كبيرةٍ؛ ولكنه يزول عنه اسم الإيمان الواجب كما في الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»الحديث إلى آخره، ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة والرحمة بهم، واستحقوا بتلك الشعبة من الشدة بقدر ما فيها، ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يُرحَم ويُحبُّ من وجهٍ، ويُعذَّب ويُبغض من وجهٍ آخر، ويُثاب من وجهٍ، ويُعاقب من وجهٍ، فإن مذهب أهل السنة والجماعة أنَّ الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران خلافًا لما يزعمه الخوارجُ، ونحوهم من المعتزلة) [المجموع: 15/294].

أقول: فنعلم من هذا أن ما ذُكر في المقال من إطلاق أسماء أو أوصاف معينة على مرتكبي معاصٍ معينةٍ؛ إنما هو من استعمال الألفاظ الشرعية والاصطلاحات الفقهية في إطارها المحدَّد والضيِّق، ولا يعني ذلك كفر ذلك الشخص (إن لم يكن ذلك الحكم تكفيرًا له)، أو بطلان جميع حسناته، أو خلوِّه من الطاعة والخير والإحسان مطلقًا، بحيث يُبغَض بالكلية، بل حتَّى لو كان حُكمًا بالكفر ـ كما في صورة الخادمة النصرانية ـ فلا يعني الحكم عليه بالتجرد من الإنسانية والأخلاق، أو التجرُّد في معاملته من الديانة والأخلاق، كيف وقد قال ربنا سبحانه: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ، وكان غلام يهوديٌّ يخدمه، فلما مرض عاده النبيُّ صلى الله عليه وسلم. كيف يمكن تصور مثل هذه العلاقات الاجتماعية المتداخلة في مجتمع المدينة المنورة من غير أساسٍ أخلاقيٍّ وتعاملٍ إنسانيٍّ راقٍ؟!

إذن؛المشكلة ليست في الأحكام والأسماء والأوصاف الشرعية، بل في الفهم المنحرف على طريقة الخوارج الذين يعتقدون أن الحكم على أي مسلم بالمعصية أو الفسق أو البدعة يقتضي بغضه وإقصاءه ومحاربته ونفيه، وربَّما يبلغ بهم الغلو إلى استحلال ماله ودمه! ولا أظنُّ هذا أصل انحراف كاتبة المقال، بل لها وجهة أخرى؛ لقد أرادت أن توظِّف تلك الرُّؤية الخارجية الغالية المخالفة لمنهج أهل السنة للتشغيب على أحكام الشريعة، والتنفير من معلمي الناس الخيرَ، وتبعها في ذلك من هم على شاكلتها!

أعتقد أن في هذا القدر كفايةً، لكن لا بأس في زيادة البيان بتتبع الصور التي ذكرتها الكاتبة، وتبعها المتعالم المفتون:

قالت: (في المدرسة علمونا بأن الذي لا يصلي جماعة في المسجد فهو: منافق! أبي كان واحدًا منهم).

أقول:لا أعلم في العلماء والدعاة من يصف تارك صلاة الجماعة بالمنافق بصيغة اسم الفاعل، لكن التخلف عن الجماعة، والتكاسل عن الطاعات من صفات المنافقين بصريح كتاب الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}، ومن هنا يقول الدعاة والوعَّاظ: إن التخلف عن الجمعة والجماعات من صفات المنافقين، ومن شُعب النفاق. ولا يتعارض هذا مع كون هذا الشخص متصفًا بصفات كثيرة من صفات أهل الإيمان، وله أعمال صالحة، وأخلاق طيبة، فالله تعالى يغفر له، فلا معنى لقول الكاتبة: (لكني اكتشفت بأن أبي أطيب مخلوق في العالم، كان يقبلني كل ليلة قبل أن أنام، ويترك لي مبلغًا من المال كلما سافر من أجل عمله)؛ إلا التشغيب واختلاق التناقض، وماذا ستقول الكاتبة لو اكتشفت يومًا ـ على سبيل المثال ـ أن والدها كان ينفق عليها من أموال يسرقها أو يحصل عليها بالرشوة والاحتيال؟! هل ستُعامله على طريقة الخوارج؟! أم تقول ـ بمقتضى الشرع والعقل والفطرة والواقع ـ: أبي اجتمع فيه خيرٌ وشرٌّ، أحبه لخيره، وأبغضه لشره، لهذا سأحفظ إحسانه، وأُعينه في محنته، ولن أتخلى عنه!

قالت: (وبأن شارب الدُّخان: فاسق! أخي محمد كان واحدًا منهم).

أقول:أكثر الفقهاء في عصرنا ـ على اختلاف مذاهبهم ـ على تحريم شرب الدخان لما ثبت طبيًّا من أضراره القاتلة، حتى صارت الدول غير المسلمة أشدُّ محاربة للتدخين من الدول المسلمة، وجاء في فتاوى الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة، رقم الفتوى: (15836)، بتاريخ: (24/2/2011)، ما نصُّه: (وقد ذهب جمٌّ غفير من أهل العلم إلى التصريح بحرمته، وصدرت بذلك قرارات من مجامع بحثية مستندة إلى الأدلة الشرعية المستفيضة في الكتاب والسنة التي تحرم الإسراف والتبذير والإضرار بالآخرين… وإن بعض العلماء نزل به من حكم التحريم إلى حكم الكراهة). فإذا أخذنا بحكم الأكثرين وهو التحريم، فلا شكَّ أن المصرَّ على ارتكاب هذا المحرم يسمَّى في الفقه الإسلامي (فاسقًا)، وهذا حكم عليه في فعلٍ جزئيٍّ، ولا يعني تكفيره أو إهدار محاسنه أو إساءة معاملته، بل قد يكون له من الفضائل والمحاسن ـ ديانةً وأخلاقًا ـ ما يرجح بها على كثيرٍ من غير المدخنين. لهذا فإني لا أعرف في مجتمعاتنا المسلمة أن شارب الدخان يعامل بالاحتقار والإهانة، ولا ينادى بألفاظ الفسق والفجور، بل يعيش حياته بين أهله ومجتمعه ويدخل المساجد دون أن يتعرض له أحدٌ بإهانة أو إساءة.

قالت: (وبأن المسبل لثوبه: اقتطع لنفسه قطعة من نار! أخي طارق واحدًا منهم).

أقول: الوعيد بالنار لمسبل ثوبه ورد في أحاديث صحيحة مشهورة في كتب السنة، ووقع الخلاف في كون الوعيد مطلقًا، أو مقيدًا بالإسبال خيلاء. وليس هذا موضع شرح هذه المسألة، لكن غاية ما في الأمر أنه وعيد على معصية كسائر المعاصي التي ورد فيها وعيد أشدُّ من هذا، كترك الصلاة والقتل والسرقة وشرب الخمر والغيبة والنميمة وشهادة الزور… إلى آخر ما هو مذكور في كتب السنة، ومجموع في كتب الكبائر. فمن استحقَّ بفعله وعيدًا منصوصًا عليه في الكتاب والسنة فالحكم فيه في الدنيا ما بيناه أعلاه من اجتماع الوعد والوعيد في حقِّه، أما في الآخرة فأسباب العفو والمغفرة كثيرة، من أهمها: أن يكون لذلك الشخص توحيد خالص، وحسنات كثيرة ماحية.

قالت: (وبأن وجه أمي الجميل: فتنة! لكن لا أحد يشبه أمي).

أقول: هذه الصورة مبنية على الخلاف في حكم كشف وجه المرأة، والقدر المتفق عليه بين الفقهاء هو أن عورة المرأة المسلمة مع الرجال ـ من غير محارمها ـ جميع جسدها إلا وجهها وكفيها، وأن وجوب التستر والحشمة وعدم إظهار المرأة لزينتها ومحاسنها؛ معلوم من دين الإسلام بالضرورة، بصريح القرآن (سورة النور: 31 و60، وسورة الأحزاب: 53 و59) ومتواترِ السنة وإجماع الأُمة، ولا يقدح في هذا الأصل الكليِّ القطعيِّ الخلافُ في مسائل جزئية، مثل الخلاف في كشف وجه المرأة.

إذا عُلم هذا؛ فنقول لكاتبة المقال: هل مشكلتك في ستر الوجه أم في جلباب المرأة المسلمة وتستُّرها وحشمتها وحيائها؟!

قالت: (وبأن أختي مريم التي تطرب لعبد الحليم: مصبوب النار المذاب في أذنها لا محالة! لقد فاتني أن أقول لهم بأنها أيضًا تحبه. فهل ستحشر معه؟ أظنهم سيحكمون بذلك).

أقول:ما ورد من الوعيد على سماع الموسيقى فالتفصيل فيه كما تقدَّم، أما قولها: (مصبوب لا محالة)؛ فكذب وافتراء، وتألٍّ على الله تعالى، فأهل المعاصي أمرهم إلى الله تعالى، لا يجوز لأحدٍ القطع بعقوبتهم في الآخرة، والله أرحم الراحمين.

قالت: (وبأن جامعتي المختلطة وكر للدعارة! رغم أنها علمتني أشرف مهنة وهي الطب!)

أقول:لا أعرف في العلماء الأفاضل من أطلق على الجامعات المختلطة هذا الوصف: (وكر للدعارة)، فإن لم يكن اختلاقًا للتهويل والتشنيع فلعل بعض الدعاة المتحمسين قاله، ولا يعتدُّ بقولهم لقلة علمهم وعدم معرفتهم بدلالات الألفاظ ولوازمها الشرعية.

إن العلماء يحرمون الدراسة في الجامعات المختلطة لما في الاختلاط من مفاسد كثيرة، وهي معروفة، حتى أن الاتجاه إلى الفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات صار معروفًا ومطبَّقًا في الولايات المتحدة وغيرها، وهذا لا يعني أن تلك الدراسة شرٌّ مطلقٌ، وأن الدارس فيها يفشل ولا بدَّ. لا يقول بهذا عاقل، إنما المسألة مبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والأضرار، وحيث غلبت المفاسد والأضرار يحكم بالمنع، وإن كانت المصالح والمنافع ثابتةً بحسبها، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}.

أقول:هذه الأجوبة تكفي في الجواب عن قولها: (وبأني أنا، الساكتة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: شريكة في الإثم والعقاب!)، (وبأن صديقتي سلوى التي دعتني لحفلة عيد ميلادها: صديقة سوء!)، (وعمي المتابع بشغف للأفلام المصرية: ديُّوث!).

أما قولها: (وبأن خادمة منزلنا المسيحية: نجسة!)

أقول:الأصل في هذا قول الله تعالى في سورة التوبة: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، ثم إن هذه النجاسة إنما هي النجاسة المعنوية، أي (نجس) في الاعتقاد والدين، وقد أباح الله للمسلمين نكاح الكتابيات، وأباح طعام أهل الكفر قاطبة إلا الذبائح فإنها مقتصرة على أهل الكتاب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من طعامهم، ويقبل هديتهم، ويستقبل وفودهم في المسجد، ويخالطهم في أسواقهم. فعُلم من هذا كله أن النجاسة المذكورة اعتقادية معنوية. فما على العقلاء إن فهمت الكاتبةُ أن خادمتها نجسةٌ نجاسةً حسيَّةً كنجاسة البول والغائط!

قالت: (وزميلتي الشيعية: أكثر خُبثًا من اليهود!)

أقول:قارن العلماء في كتبهم بين اليهود وغلاة الشيعة الذين يطعنون في عرض النبي صلى الله عليه وسلم ويكفرون أصحابه ويقولون بتحريف القرآن وبعصمة أئمتهم وبغير ذلك، وهي عقائد كفرية صريحة عند جميع المسلمين من أهل القبلة والملة، فوجدوا أن اليهود لا يسيئون لنبيهم وصحابته مثل إساءة الرافضة لنبينا وأصحابه، وأنهم لم يبلغوا في الكيد للإسلام وإيذاء المسلمين مبلغ الرافضة، لهذا صرحوا بأن الرافضة شرٌّ من اليهود وأخبث منهم. هذا حكمٌ عامٌّ على عقيدةٍ وفرقةٍ، وليس حكمًا على كلِّ معيَّنٍ ينتسب إلى تلك الفرقة.

لكن هذه الكاتبةُ أبتْ إلا أن تُنزِلَ ذلك الحكمَ العامَّ على صديقتها الشيعيَّة بعَيْنها وشخصها! ثم سجَّلت حكمها في مقالها لتتَّخذ ذلك ذريعةً لإثارة الفتنة الطائفية، وبثِّ الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد! فلتتحمَّل هي مسؤولية ما فهمتْ وما حكمتْ به!

قالت: (وبأن خالي المثقف: علماني!)

أقول:هذا من التلاعب والتلبيس، إذ لا يخفى الفرق بين المثقف والعلماني، وأنه لا تلازم بينهما، فكم من مثقف راسخ الإيمان، صحيح الإسلام، لا يبتغي غير الله حكمًا، يلقَى في مجتمعه الاحترام والتقدير. وكم من علمانيٍّ جاهل أحمق، لا علم له ولا ثقافة. فإن كان خالُك قد حُكم عليه بالعلمانية فليس لمجرَّد ثقافته، بل لأنه اتخذ العلمانية عقيدة ومنهجًا ـ فكان من الذين يطالبون بفصل دين الإسلام عن جميع شؤون الحياة، ولا يرضون بحكم الله تعالى وشريعته، ولا يبالون بأوامره ونواهيه، إلى آخر ما هو معروف من عقائد العلمانيين وأفكارهم ومبادئهم ـ، إلا أن يكون بريئًا من ذلك كله، ويكون الحكمُ عليه بغيًا وحسدًا، وظلمًا وعدوانًا، فمن ارتكب هذه الجريمة يصدُق عليه قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّما امرئ قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدُهما، إن كان كما قال، وإلَّا رجعتْ عليه» أخرجه البخاري ومسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يرمي رجلٌ رجلًا بالفسوق، ولا يَرمِيه بالكفر إلَّا ارتدَّتْ عليه؛ إنْ لم يكن صاحبُه كذلك» أخرجه البخاري.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

كتبه:

عبد الحق التركماني

3/1/1439

شاركنا بتعليق

  • معاذ صباح

    29 آب 2020

    السلام عليكم .. فقد كفى ووفى شيخنا في الرد فهناك الكثيرون المدعون للاسلام وبانهم يحملون مشعل نور الدعوة ولكنهم ينعقون مع كل ناعق كهذه الكاتبة