موقع الشيخ عبد الحق التركماني - نقض التفسير النفعي للصيام

/ 21 تشرين الثاني 2024

للتواصل 00447432020200

نقض التفسير النفعي للصيام

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 1417

نقض التفسير النفعي للصيام

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات!

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

أحببتُ أن أتكلَّم إليكم ـ رعاكم الله ـ في مسألةٍ مهمةٍ من المسائل التي ينبغي أن ننتبه إليها، ونتفقَّه فيها؛ كلما استقبلنا هذا الضيفَ العزيز: شهرَ رمضان المبارك، شهرَ الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهرَ الخيرات والبركات والرحمات… هذه المسألة المهمة هي تصحيحُ النيَّة، وتحقيقُ الإخلاص لله عزَّ وجلَّ في هذه العبادة، والحذرُ من كلِّ ما يُفسد النيةَ، وينافي الإخلاص، ومن هذه الأمور التي تقدح في النية والإخلاص ما ظهر في هذا العصر من النظرة النفعية للصيام، لهذا كان لا بدَّ من التحذيرِ من التفسير النفعي للصيام ونقْضِه وبيانِ فساده…

لماذا كتب الله علينا الصيام؟

ما هي حقيقة الصيام وما هو مقصِدُه وغايتُه؟

ما هو التفسير النفعي للصيام؟

هل الصيام وسيلة للصحة البدنية والنفسية والاجتماعية؟

أم أَنه عبادةٌ خالصةٌ لله عزَّ وجل؟

وهل صحيحٌ ما يدَّعيه البعضُ من الاعجاز العلميِّ في الصيام بالشفاء من كثيرٍ من الأمراض؟

هذه الأسئلة سأحاول الإجابة عليها في هذه الكلمة. أسأل الله تعالى أن يوفقني فيها للحق والصواب.

لقد ظهرت في الأمة دعوةٌ منحرفة، مُفسِدةٌ لحقائق العبادات وغاياتِها، ومنها عبادةُ الصيام… فإنه مع كلِّ إطلالةٍ لشهر رمضان المبارك، يتكلَّم كثير من الخطباءِ والوعاظ والدُّعاة وعامَّةِ المثقَّفين في حكمة الصيام والغاية منه، فتذكر طائفةٌ من مشاهيرهم، وممن لهم تأثير في عامة المسلمين: أنَّ الصيام علاج من الأمراض، وصحة للأبدان، وتدريب للنفوس، وتذكير بأحوال الجياع والفقراء.

وهذا اللَّون من الخطاب يستهوي كثيرًا من الناس، حتى صاروا يعتقدون أن هذا مقصِدُ الصيام وغايتُه، لهذا بدؤوا يهتمُّون بهذا الجانب اهتمامًا بالغًا، لا يخلو من المبالغة، بل ومن الكذب أيضًا، كما نراه في وسائل الإعلام، خاصةً في مواقع الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي…

يظنون أنَّ هذا من الأساليب الصحيحة في حثِّ المسلمين على الصيام، كما أنَّ فيه دعوةً لغير المسلمين وبيانًا للإعجاز العلميِّ في التشريع الإسلامي، فيذكرون معلوماتٍ كثيرةً في تأثير الصوم في الشِّفاء من كثير من الأمراض… وأكثرُ تلك المعلومات غيرُ موثَّقة، أو مبالَغ فيها، وبعضُها كذب واختلاق.

وأكثرُ المتكلِّمين بهذا، وكذلك أكثرُ المتلقِّين لهذا، والمتأثرين بهذا الخطاب؛ لا يعرفون حقيقةَ هذا التفسير لمعنى الصيام وغايته، ولا يدركون ما وراءَه مِن فكرٍ منحرفٍ، ودعوةٍ ماديةٍ خطيرة.

لهذا كان من الأهمية بمكان أن نبيِّن حقيقة هذا الخطابِ والتفسيرِ لمعنى الصوم، وننقض أصولَه وشبهاتِه.

فأول ذلك: أنْ نعلم أن هذا التركيزَ على الجوانب النفعية المادية للصيام، هو جزءٌ من فكرٍ ومنهجٍ وفلسفةٍ يفسِّر الدِّينَ كلَّه تفسيرًا سياسيًّا واجتماعيًّا ونفعيًّا، بمعنى: أنه ينظر إلى الدِّين بأنه وسيلةٌ لتحقيق مصالحَ دنيويَّةٍ للبشريَّة، مِثْلَ: إقامةِ العدل، وإعمارِ الأرض، وإصلاح المجتمع،.. وهذا ما نُعبِّر عنه بالتفسير السياسي للإسلام،.. أو التفسير النفعي للإسلام… أي: افعل هذا فإنه نافع لك.. ولا تفعل هذا فإنه ضار بك.. فتصبح القاعدةُ في النظر إلى الدِّين هي النظرةُ النفعية، لا تحقيقَ العبودية لله عزَّ وجلَّ.

ويكمنُ خطر هذا التفسيرِ السياسيِّ والنفعي للإسلام في أنه يحرِّف حقيقة الدين وغايته المتمثلة في (العبادة)… فيرى أن العبادة وسيلةٌ وأداة لتحقيق المصالح الدنيوية، فالصلاة تمارين رياضية، ودورة تدريبية، والصيامُ صحة بدنية وتربية نفسية واجتماعية، والحجُّ مؤتمر سياسي… وهكذا يُفسِّرُ هذا الخطاب، وهذا المنهج: يفسِّرُ كل أصل من أصول العبادة، وكل لون من ألوان العبادة بالآثار والنتائج والثمار الدنيوية والمادية التي يمكن أن تترتب عليها، ويبالِغُ في ذلك بحيث تُصبح تلك النتائجُ والآثارُ ـ إن صحَّت وثبتَتْ ـ هي الغايةَ والمقصِدَ من العبادة والتشريع والدِّين كله…

إنَّ التفسير السياسي أو الاجتماعي أو النفعي للدين له جذور فلسفية وصوفية، كما أنه من أبرز الاتجاهات الفكرية في العالم الغربي، وليس المقصود هنا أن أتعرض له بالتفصيل، وقد سبق أن تكلمتُ في هذا، وكتبتُ فيه في مناسبات أخرى…

وإنما المقصود هنا أن نبيِّن خطورةَ التفسير النفعي للصيام، ونثبت فساده وبطلانه…

وأذكر لكم نموذجًا من ذلك التفسير النفعي للصيام، وستجدون نماذج كثيرة في محاضرات وكتابات الدُّعاة الجُدُد، ولكنني أكتفي بنقل واحد عن الشيخ الدكتور مصطفى السباعي المتوفَّى سنة أربعٍ وستين وثلاث مئة وألف، وهو صاحب المؤلفات المشهورة، وكان عميدًا لكلية الشريعة بجامعة دمشق، فنحن هنا لا نتكلَّم عن متطفِّل على مائدة العلم، ولا عن داعية من دعاة الفضائيات،… ومع ذلك نجده يفسِّر الصيام تفسيرًا نفعيًّا، بعيدًا عن حقيقة العبادة وغايتها…

ذكر الدكتور مصطفى السباعي في كتابه (أحكامُ الصيام وفلسفَتُه في ضوء الكتاب والسنة) أنواعَ الناس إزاء الصيام ونظرتَهم إليه، فذكر من يفطر في رمضان كفرًا وجحودًا، ومن يفطر كسلاً وتهاونًا، ومن يرى في رمضان موسمًا سنويًّا للموائد الزاخرة بألوان الطعام والشراب، وفُرْصةً جميلةً للسمر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر… فهؤلاء الأنواع الثلاثة لم يعرفوا حقيقة الصيام ولم يدركوا غايته، كما شرحه الدكتور السباعي، وأصاب في ذلك… ثم ذكر الصنف الرابع ـ وهم الذين فهموا حقيقة الصيام وحكمته وغايته ـ فقال الشيخ مصطفى السباعي:

(ومنهم: وهم الأقلون؛ يرون في رمضان شهرًا غير هذا كلِّه، وأجلَّ من هذا كلِّه،… يرون فيه: دورة تدريبية، لتجديد معانٍ في نفوس الناس من: الخلق النبيل، والإيثار الجميل، والصبر الكريم، والتهذيب الإلهي العظيم).. ثم ذكر كلامًا طويلًا في تقرير هذه المعاني وشرحها، فربطها بالاجتماع وبالمعركة مع الأعداء، وجعل رمضان تعبئة للقوى النفسية والروحية والخلقية التي تحتاجها الأمة في الحياة، ووسيلة لنيل الحقِّ والقوة والحرية،…

ولا شكَّ أن هذا الكلام في بيان حقيقة رمضان وغايته؛ كلام فاسد، وتقرير باطل، وهو مفسِدٌ لمعنى العبادة، مبطلٌ لغايتها.. ونحن لا ننكر أن من ثمار وآثار الصوم الصحيح الخالص لوجه الله تعالى، من ثمراته وبركاته: زكاة النفس، واستقامة السلوك، وتهذيب الأخلاق، وكذلك قد يكون للصوم مدخل في الصحة البدنية والنفسية…

لكن المقصود هنا: التنبيه على خطورة هذا المنهج الذي يجعل الثمار والنتائج هي الغايات والمقاصد…

نجد اليوم كثيرًا من الخطباء والدعاة والكُتَّاب من الإسلاميين الحركيين ـ ومن تأثر بخطابهم ـ يبالغون في بيان فوائد الصوم وثماره الصحية والنفسية والاجتماعية، ويفصِّلون في ذلك تفصيلاً مبالغًا فيه، ويتوسعون توسُّعًا غير محمود فيذكرون كلام الأطباء والتقارير الغربية في التداوي بالصيام وفوائده.

ولقد كان لخطابهم هذا ـ وما يزالُ ـ أسوأُ الأثر في إضعاف جانب التديُّن والتعبُّد والإيمان والاحتساب عند المسلمين في صيامهم، إذ شغلوهم بالآثار والنتائج المادية الظنيَّة ـ الممكنة لا الواجبة ـ عن الغايات والمقاصد التعبديَّة المحضة الواجبة، حتى صارت تلك الآثار والنتائج هي الغاية والمقصد في أذهان أكثر المسلمين.

ولا شكَّ أنَّ تركيزهم على الجانب النفعيِّ والمادي والاجتماعي من آثار الصوم، والمبالغة في ذلك حتَّى تكون في مرتبة الغاية العليا؛ جزءٌ من تفسيرهم الماديِّ والنفعي والسياسي لدين الإسلام وحقائقه ومقاصده، كما ذكرتُ آنفًا.

ولا عجب بعد هذا؛ أن يخرج علينا ـ في الضفَّة الأخرى ـ بعض الملاحدة فيكتبوا في مساوئ الصيام وأَضراره، ويذكروا في ذلك تقارير طبيَّة، ثم يجعلوا ذلك مدخلاً للطعن في الدين!

فيقال لهؤلاء الملاحدة: إطلاق القول بضرر الصوم باطل بيقين.. لماذا؟ لأن الأطباء مجمعون على أن الصومَ المعتدل مفيدٌ للأصحاء ولكثير من المرضى، ولهذا يعالجون مرضاهم بأنواع من الصيام، ولا يقصدون بذلك التديُّن أصلاً. وهذا معروف عند جميع الأمم.

ويقال لهم أيضًا: من قال لكم: إنَّ الصيام لا يمكن أن يضرَّ بعض الأصحاء؟! وأنه مفيدٌ للمرضى بإطلاق؟! فإن غرَّكم خطاب أولئك الإسلاميين، فقابلتم باطلاً بباطلٍ، ثم زدتم عليه كُفرًا وإلحادًا؛ فهذا كتابُ الله تعالى بيننا، فيه التصريحُ بأمرين واضحين جليَّين لا لَبْسَ فيهما ولا غموض:

الأول: أن الصيام شُرع لتقوى الله وعبادته، وليس فيه ذكر فائدة صحية أو نفسية أو اجتماعية.

الثاني: أن المريض يُشرعُ له الفطر…

أما الأمر الأول: أعني بيان الغاية من الصيام: فقد بيَّن الله تعالى الغاية التي من أجلها فرض الصوم علينا وعلى الأمم من قبلنا فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}،…

وهذا نصٌّ صريحٌ لا يقبل تأويلاً ولا تحريفًا في أنَّ مقصدَ الصيام وغايتَه هي: (التقوى)، لا غير، وكلام علماء الإسلام في تفسير التقوى في هذا الموضع لا يخرج عن أحد معنيين لا ثالث لهما:

المعنى الأول: أن المقصودَ اتِّقاءُ نفسِ محظورات الصَّوم، أي: لتتَّقوا أكل الطعام وشرب الشَّراب وجماع النِّساء فيه. فالصوم نفسه: التقيُّدُ بأحكامه واجتنابُ نواقضه… هذا نفسُه هو التَّقوى، لأنك تطيع الله تعالى فيه وتلتزم بحُكمه. وهذا رأيُ شيخِ المفسرين الإمامِ محمدِ بنِ جريرٍ الطبريِّ رحمه الله.

المعنى الثاني: أنَّه لبيان الغاية وهي تقوى الله عزَّ وجلَّ… أي: أن الصيام شرعه الله تعالى، وكتبه علينا: لغايةٍ وهدف،.. لكي يكون سببًا وعونًا لنا على تقوى الله تعالى ومراقبته… لأنَّ الصَّومَ وَصْلَةٌ إلى التَّقْوَى، لِمَا فيه منْ قَهْرِ النَّفْسِ وكَسْرِها، وترك الشهوات. وبهذا قال أكثر المفسرين كالإمام البغوي وابن الجوزي وابن كثير.. وغيرهم… رحمهم الله…

وهذا المعنى الثاني أظهر وأقوى، وهو متضمِّن للمعنى الأول وزيادة.

وممَّا يؤكد على أن الغاية من الصيام: هي تقوى الله، النصوصُ الكثيرة التي أكَّدت على تحقيق معاني الإخلاص وصدقِ التوجُّه إلى الله وابتغاءِ مرضاته في هذه العبادة: عبادةِ الصيام، لهذا كان الصيامُ من أجلِّ العباداتِ التي تتحقَّقُ فيها هذه المعاني.. وهو من أركان الإسلام، ففيه التذللُ والخضوع بمحبَّةٍ وإخلاصٍ لله سبحانه؛ بحبس النفس عن الطعام والشراب والشهوات، وبالتقيُّدِ بما شرعه سبحانه من أحكام الصيام وصفتِه، ومراقبته وتقواه في السِّرِّ والعلن، لهذا خصَّ الله تعالى الصيامَ بخصِّيصةٍ لم يجعلها في سائر العبادات، كما أخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:

(قال الله عز وجل: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصَّومُ، فإنَّه لـي، وأنا أجزي به)،

أخرجه البخاري في صحيحه، وفي رواية أخرى عنده أيضًا: (يتركُ طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي، الصيامُ لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها).

وقد بحث العلماء معنى تخصيص الصيام بهذه الإضافة الشريفة: (إلا الصوم، فإنه لي)، (الصيام لي، وأنا أجزي به)…

فقال بعض العلماء: إنَّما خصَّ الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب. وذلك لأنَّ الأعمالَ ـ كالصلاة والزكاة والحج ـ لا تكون إلا بالحركات، إلا الصوم فإنما هو بالنية التي تَخفَى عن الناس.

ووجه هذا: أن أعمالَ بني آدم لما أمكنَ دخولُ الرِّياءِ فيها: أُضيفتْ إليهم، بخلاف الصوم فإنَّ حالَ الممسك شِبَعًا مِثُلُ حالِ الممسكِ تقرُّبًا في الصُّورةِ الظاهرة، وإنما الفرقُ بين الاثنين: في النية والإخلاص.

والقول الآخر في معنى الحديث: (إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به..)، أي: أنفرد بعلم مقدارِ ثوابِه وتضعيفِ حسناته. لأن الأعمال قد كُشفتْ مقادير ثوابِها للناس، وأنها تُضاعَف من عشرةٍ إلى سبعِ مئةٍ، إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يُثيب عليه بغير تقدير،.. لأن الصيام فيه الصبر وحبس النفس، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}…

ويدلُّ على هذا المعنى: روايةٌ لهذا الحديث عند مسلمٍ في صحيحه، ففيها: (كلُّ عمل ابن آدم يُضاعَفُ، الحسنةُ بعشر أمثالها، إلى سبعِ مئةِ ضِعْفٍ. قال الله تعالى: إلا الصومُ فإنَّه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوتَه وطعامه من أجلي،…)….

ولنتأمَّلْ ذلك الحديثَ الشريفَ الذي نسمعه في كلِّ رمضانَ، ألا وهو قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه». أخرجه البخاري ومسلم…

لنتأمل هذا الحديثَ، ولنقف طويلاً عند هذا القيد: (إيمانًا واحتسابًا)…

إيمانًا: أي تصديقًا بفريضة الله وشريعته، وبما وعد به من الثواب.

احتسابًا: أي طلبًا للأجر من الله تعالى، فينوي بصيامه وجه الله… فهذا الحديث دليل بيِّنٌ على أنَّ الأعمال الصالحةَ لا تزكو ولا تُتَقبَّل إلا مع الاحتساب وصدق النيَّات، كما قال عليه السلام: (إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)…

والمقصودُ: أَنَّه لا معنى للصوم ولا غايةَ منه سوى إقامةِ العبودية لله عزَّ وجلَّ باتباع أوامرِه واجتنابِ نواهيه، وهذا العملُ إذا اقترن بالصدق والإخلاص والاحتساب زاد صاحبَه إيمانًا ومراقبةً لربِّه وتعظيمًا لشرعه، فيتَّقي الله عزَّ وجلَّ حقَّ التقوى ـ وهو أعلى درجات العبودية لله عزَّ وجلَّ ـ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}..

قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في تفسير: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}، قال: (أن يطاع فلا يُعصَى، ويُذكر فلا يُنسَى، ويُشكر فلا يُكفر)…

أيها الإخوة والأخوات، وفقني الله وإياكم للصالحات:

يتبيَّن لنا من دلائل الكتاب والسنة: أنَّ الصيام عبادة محضة لله عز وجلَّ، وأن الله تعالى أضاف الصيام لنفسه المقدَّسة لما فيه من تحقُّق معنى الإخلاص والصدق مع الله،.. وبيَّن في كتابه العزيز أن الغاية من الصيام هي (التقوى)، فإن كان الصيام وسيلة لشيء من الأشياء فهو وسيلة إلى (التقوى)، فليس للصيام غاية ولا مقصِد ولا هدفٌ سوى التعبُّد لله تعالى والتَّرقي في مدارج العبوديَّة حتَّى يبلغ العبدُ درجاتِها العُلى، وهي: التَّقوى.

أما الأمر الثاني: وهو أنَّ الله تعالى رخَّصَ للمريض في الإفطار، فهذا أيضًا يدلُّ على أنَّه ليست الغايةُ من الصيام منفعة دنيوية كالاستشفاء من الأمراض، وإلا لم يُشرع للمريض أن يفطر، بل لوجب عليه أن يستمر في صومه بنية التداوي والشفاء!

ففي قول ربنا سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}…

في هذا دلالة ضمنية على إِضراره بالمريض، وإلا لكان المريضُ أولى الناس في أن يُؤمر بالصيام ليتخلَّص مِن مرضه!

فإذا تبيَّن هذا: فمن نافلة القولِ: أنَّ الصيام لم يُشرَع لتعذيب النفسِ ولا لإيذائها، كما أنَّه لم يُشرَع لأنَّ فيه فوائدَ صحيَّةً ونفسيَّةً واجتماعيَّة. ومن ادَّعى أنه شُرعَ لأحد هذين الغرضين ـ أو لسواهما من المقاصد الدنيوية المادية ـ فقد أعظم الفرية على الله عزَّ وجلَّ، وخالف صريحَ القرآن، وحرَّف دينَ الإسلام، وخرج عن سبيل المؤمنين.

فقد رخَّص الله تعالى للمريض بالإفطار، ونصَّ على ذلك في كتابه حتَّى لا يكون لأحدٍ من الفريقين سبيل إلى تحريف الدين ومقاصده:

الفريق الأول: فريقُ المتنطِّعين الذين يرون غاية الصيام في تعذيب الجسد وإيذائه.

والفريق الثاني: فريقُ المستخفِّين الذين يرون الصيام وسيلةً لتحقيق المصلحة للمجتمع الإنسانيِّ من خلال تدريبه وتربيته على الصبر والفضائل.

ولا شكَّ أن الصَّوم المعتدل له فوائدُ صحيَّة ونفسيَّة واجتماعية كثيرة، ثابتةٌ بالتجربة والمشاهدة، إلا أنَّها ليست غايةَ الصوم ولا مقصدَه، ولكنَّها من ثماره ونتائجه وآثاره، وهي ممكنةٌ لا واجبة، فقد تتحقَّق وقد تتخلَّف، وقد يصوم شخص فتتحسَّنُ صحته ويتخلَّص من كثير من الأمراض والأوجاع، وقد يصوم آخر فيصاب بأمراضٍ مهلكةٍ.

ثم إن هناك فرقًا بين الصوم التعبدي والصوم الطِّبي أو الصحي:

أولاً: من جهة النية. فالصيام لا ينتفع المسلمُ به يوم القيامة إلا إن كان بنية وإخلاص، أما الصيام الطِّبي فينتفع الإنسان في الدنيا بمجرد صيامه.

ثانيًا: الإسلام: فالصيام التعبدي لا يُقبل إلا من مسلم، والصيام الصحي يَنفع المسلم والكافر.

ثالثًا: من جهة الوقت: فقد جعل الله للصيام حدًّا زمنيًّا، نتعبَّد الله تعالى بالتزامه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}… فإن أفطر قبل غروب الشمس بدقيقة أو دقيقتين كان صيامُه باطلا، مع أنه ليس لذلك تأثيرٌ على صحته… بخلاف الصيام الصحي… فإنَّ تقديرَ وقتِه ومدَّتِه وعددِ أيامه متروكٌ لرأي الأطباء يجتهدون فيه كما يشاؤون.

رابعًا: من جهة المحظورات: فإنَّ الصائم تعبُّدًا يمتنع في عبادته عن الطعام والشراب كليًّا، أما الصائم استشفاءً: فقد يصوم عن الطعام لا الشراب، وقد يصوم عن بعض الأطعمة أو بعض الأشربة لا عن كلها، حسب ما يرشده الطبيب.

إذن: الصيامُ التعبديُّ: ليس فيه مجال للاجتهاد، ولا مجال للتقديم والتأخير، أو الإطالة أو التقصير، بل لا يصحُّ ولا يُقبل عند الله عز وجل: إلا إذا أداه المسلمُ كما شرعه الله بنية التعبد لله… ولهذا إذا وجَدَ الإنسانُ مشقَّةً في الصوم، فإنه لا يجتهدُ في تغيير مدَّةِ الصيام، أو صفته، وإنَّما يُفطر، ولا حرج عليه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}…

قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في (المغني): (أجمع أهل العلم على إباحة الفِطْر للمريض في الجملة، والأصل فيه هذه الآية)…

وسبب هذه الرُّخصةِ: أنَّ الغرضَ من الصيام التعبد لله تعالى بالمحبة والتذلل والتقرب، فإذا وُجدت مشقة غير معتادة فإن الإنسان لضَعْفه لا يستطيع تحقيقَ هذه العبودية، فالصَّوم فيه مشقةٌ وتعب وضعف… لهذا قال العلامة ابن القيم رحمه الله ـ في بيان أنَّ مدار الصحة على حفظ القوة وغيرها من الأسباب ـ:

(فأما حفظ القوة: فإنَّه سبحانه أمر المسافرَ والمريضَ أن يُفطرا في رمضان، حفظًا لقوَّتهما عليهما، فإنَّ الصومَ يزيدُ المريضَ ضعفًا، والمسافرُ يحتاج إلى توفير قوَّته عليه لمشقَّة السفر، والصوم يُضْعِفُها).

فإذا علمنا هذا: علمنا أيضًا بطلان ما يذكره أولئك الدعاة الذين يفسرون الصيام تفسيرًا نفعيًّا: من اقتران الصيام بالجهاد… وهذا ما ذكره الدكتور السباعي أيضًا في سياق كلامه عن حقيقة الصَّوم، فقال عن المسلمين في غزوة بدر ـ بعد أن بيَّن أنها وقعت في رمضان ـ:

(أفترونهم استطاعوا أن يُحرزوا هذا النَّصرَ لولا أنَّ الصيام بثَّ فيهم من القوَّة، ونُصرة الحق، والحريةِ الرُّوحية الكاملة: ما جعلَهم يخوضون المعركةَ أقوياءَ أحرارًا؟)…

وهذا خطأٌ، ومجانبة للحقيقة، ومخالفة للحقائق الشرعية والتاريخية…

نعم: نحن نعلم أنَّ لشهر رمضانَ فضيلةً عظيمة، ومنزلةً رفيعة، فهو شهر الصيام والقيام، شهرُ القرآن، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فلا عجب أن يُنْزِلَ الله تعالى على عباده المؤمنين في هذا الشهر المبارك: رحماتِه وبركاتِه، فينصرهم ويؤيدهم، ويفرِّج عنهم، ويلطف بهم، ويرحم حالهم…

أما الصيام فلا يناسب الجهاد أبدًا، لأن في كلٍّ منهما مشقَّةً، فكيف إذا اجتمعا؟!

لقد كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان، وكذلك فتح مكة، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد أفطر وأمر أصحابه بالفطر… كما ثبت في الصحيحين، وقال لأصحابه في طريقه إلى مكة: (إنَّكم قد دنَوْتُم من عدوِّكم، والفِطْرُ أقوى لكُم)، ثم قال لهم: (إنَّكم مصبِّحو عدوِّكم، والفِطْرُ أقوَى لكم، فأفطِروا). كما في صحيح مسلم.

وفي صحيح مسلم أيضًا: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم خرج عام الفَتْحِ في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ كُراعَ الغَمِيم ـ وهو مَوْضِعٌ بين مَكَّة وَالمدِيْنَة ـ وصام النَّاس، ثُمَّ دعا بقَدَحٍ من ماء، فرفعَه حتَّى نظر النَّاسُ ثُمَّ شرب، فقيلَ له بعد ذلك: إنَّ بعض النَّاس قد صام! فقال: (أولئِك العُصاة)..

وفي سنن أبي داودَ في حديث صحيح: أَمَر النَّاسَ في سفرِه عامَ الفتح بالفِطْر، وقال: (تَقَوَّوْا لعدوِّكم)…

وهذا كلُّه مفهوم، ومعقول، ومجرَّب محسوس أيضًا، فإن الصيام يُرهق الإنسان، ويضعفه عن القيام بالأعمال الشاقة، فكيف بالجهاد في سبيل الله، لهذا لما وقعتْ (معركة شَقْحَبْ) بين المسلمين والتتار قريبًا من دمشق، وكان ذلك في رمضان، سنة اثنتين وسبع مئة، أفتى شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الناسَ بالفطر مدَّةَ قتالهم، وأفطر هو أيضًا، مع أنهم لم يكونوا على سفر، وإنما أفطروا للجهاد، وكان رحمه الله يدورُ على القادة والأمراء، فيأكلُ من شيءٍ معه في يده، ليُعْلِمَهم أنَّ إفطارَهم ليتقَوَّوْا على القتال أفضلُ،.. كما ذكره ابن كثير رحمه الله…

أما الحديث المشتهر على الألسنة: (صوموا تصحُّوا).. فهو حديث منكر، لا يصحُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضعَّفه الحافظ العراقي والعلامة الألباني رحمهما الله من جهة الإسناد، وهو باطل من جهة المعنى لمخالفته للكتاب والسنة، ثم هو محرَّف من حديث آخر ضعيفٍ أيضًا بلفظ: (سافروا تصحُّوا)…

لهذا أقول لإخواني المسلمين، وأخواتي المسلمات: لا تصوموا لتصحوا، ولكن صوموا لتتَّقوا الله تعالى وتطيعوه، وتبتغوا إليه الوسيلة، فتنالوا رضاه، وتدخلوا في رحمته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}…

أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لصيام رمضان وقيامه، إيمانًا واحتسابًا، خالصًا لوجهه الكريم، ويتقبله منَّا بمنِّه وكرمه وإحسانه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين…

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد