لهذا أنا مسلم
إخوتي في الله: طرحنا في الأسبوع الماضي هذا السؤال: لماذا أنت مسلم؟ وذكرنا جوابًا مجملاً، أما الجواب التفصيلي فلا تسعه خطبةٌ ولا خطبتان بل لا تسعه مئاتُ ولا آلافُ الخطب، فكم هي كثيرة دلائل صحة هذا الدين، وصدق نبوة محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، فهي دلائل شرعية، ودلائل عقلية، ودلائل تاريخية، ودلائل علمية، فكل شيء في هذا الوجود يشهد لهذا الدين ولكن أكثر الناس لا يعقلون، والمسلم يقف عند تلك الدلائل واثقًا عزيزًا شامخًا ليقول: لهذا أنا مسلم؟
فتعالوا عباد الله نتناول اليوم أعظم تلك الدلائل وأجلها: وهي شهادة الله عز وجلَّ، يقول ربنا سبحانه في كتابه العزيز: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. نعم: هذه شهادة الله وليس شيء يمكن أن يكون أكبر شهادة من الإله الحق رب السماوات والأرض. فهو الذي يشهد بصدق نبوة محمد فهو الذي أوحى إليه القرآن لينذر بأمره العرب ومِن بعدهم الناسَ جميعًا بأنه لا أحد يستحق أن يعبد إلا الله وحده لا شريك له. فيا لها من شهادة عظيمة جليلة يجب علينا أن نفقهها ونفهم وجه دلالتها على المشهود له وهو هذا الدين:
إخوة الإيمان: لقد ظهر محمد في أمةٍ قد فرقتها الجاهليات والعصبيات، أمةٍ ضعيفةٍ معزولةٍ عن هذا العالم في قلب الصحراء، فلم يقل محمد لقومه إني مصلح لأحوالكم، وجامع لكلمتكم، ومشيِّد لمُلكِكُم، بل قال لهم: إني رسول الله إليكم بشيرًا ونذيرًا، أدعوكم إلى نبذ عبادة الأصنام والأوثان التي نشأتم علينا وارتبطت مصالحكم بها، وآمركم بعبادة الله وحده لا شريك له، فمن أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار. فكذبه قومه ورموه بالجنون والسحر، وآذوه أشدَّ الإيذاء، ولم يتبعه إلا فئة قليلة من قومه، أكثرهم من الشباب والضعفاء، ومع ذلك كله: فقد أخبر أنه رسول الله إلى الناس جميعًا: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأن دعوته ستبلغ مشارق الأرض ومغاربها. وكل ذلك من أمر الله تعالى له، وإلا فكيف يغامر رجل عاقل بإطلاق هذه الدعاوى الكبيرة وهو مستضعف مضطهد ليس له قوة ولا غلبة؟
عباد الله: إن ربَّ العالمين الرحمنَ الرحيم: أرحم بعباده وأعلم وأحكم من أن يمكِّن لأحدٍ من البشر أن يضل الناس باسمه، كم من أصحاب القوة والسلطة والفكر قد أضلوا الناس واستحوذوا عليهم وجعلوهم أتباعًا وخدمًا لأغراضهم باسم الوثنية والروحانية والصوفية أو باسم القومية والوطنية والاشتراكية وغيرها، ولكن أن يأتي إنسان يدعي أنه رسول الله وأن دعوته من عند الله: فلا يمكِّن الله له، ولا يعينه إلا إذا كان صادقًا، لهذا كلما ظهر شخص يدعي النبوة كذبًا وصار له بعض الأتباع والأنصار: خذله الله وأخزاه وفضحه، فلا يكون له الظهور والتمكين. أما رسل الله حقًّا فالرب العظيم يعينهم وينصرهم ويمكِّن لهم ويظهر دعوتهم، هذا موسى لما كان رسولَ الله حقًّا وصدقًا مكَّن الله له ونصره، وأبقى اسمه ودعوته حتى يوم الناس هذا وإن انحرف أتباعه وحرفوا دينه لكن رسولهم حقٌّ، وكذلك عيسى قد جعل الله لأمره الظهور والانتشار وإن انحرف أتباعه وحرفوا الدين من بعده؛ فلا يزال اسمه ظاهرًا لأنه رسول الله حقاًّ وصدقًا. وهكذا محمدٌ أظهر الله دينه ومكَّن له لأنه نبيه المصطفى ورسوله المجتبى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}. وقد أخبر محمد أنه آخر الأنبياء والرسل فلا نبي بعده ولا رسول: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} وها قد مضت على بعثته أربعةَ عشرَ قرنًا من الزمان فما جاء من بعده من يدعي النبوة والوحي إلا خذله الله وفضحه، فلم يكن له من الأتباع إلا حفنة من السفهاء، فلا ظهور ولا تمكين ولا قوة ولا غلبة، بل ذل وخزي وعار.
لقد أخبر رسول الله بظهور هذا الدين وانتشاره فقال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو ذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر) أحمد. وأخبر بفتح مدينة قسطنطينية كما رواه الإمام أحمد أيضًا وقسطنطينية هي اسطنبول، ومات رسول الله ودعوته لم تخرج من جزيرة العرب، لكن ما هي إلا سنوات حتى بلغ الإسلام مبلغًا عظيمًا في ذلك الزمان، وما زال في اتساع وانتشار حتى فتحت اسطنبول بعد ثمانَ مئةِ سنة من تلك البشارة، أما في هذا العصر الحديث: فقد بلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها فلا يُعقل أن يكون قوم أو أمة من الناس لم يبلغ خبر هذا الدين.
فأي شهادة أعظم من هذه الشهادة؟ إنها شهادة رب العالمين لرسوله المبعوث بالحق المبين، رحمة للعالمين.
عباد الله: لكن كان علماؤنا يحاججون علماء اليهود والنصارى بهذه الحجة الظاهرة: فلا يجدون عندهم جوابًا، بل يقرون أن الرب الحكيم لا يمكِّن لكذاب أن يضل عباده، لكنهم لا يسلمون عنادًا واستكبارًا: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
عباد الله: هذا معنى شهادة الله لدعوة النبي، فتأملوها بارك الله فيكم، وأكثروا التفكر والتدبر فيها، واصدعوا بها في البحث والمجادلة، فهي أعظم الشهادات والدلائل، وأوضح الحجج والبراهين: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
- لا يوجد تعليقات بعد