موقع الشيخ عبد الحق التركماني - خمس آيات من سورة الإسراء

/ 31 تموز 2025

للتواصل 00447432020200

خمس آيات من سورة الإسراء

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 1095

نحن اليوم مع خمس آيات من سورة الإسراء بينت جملة من الأحكام العظيمة المتعلقة بمراتب الناس في الدنيا والآخرة، حريٌّ بنا أن نقف عندها متدبرين متفقهين. يقول ربنا سبحانه: {‌مَنْ ‌كَانَ ‌يُرِيدُ ‌الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (٢٢)}.

إخوة الإيمان: أول ما يستوقفنا في هذه الآيات الكريمة التأكيد على الإرادة والاختيار: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ}، {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ}، فالإيمان والكفر فعل اختياري، إنه قصد ونيّة وإرادة صادرة من القلب بمحض اختيار فلا مجال للإكراه: {لَا ‌إِكْرَاهَ ‌فِي ‌الدِّينِ}، والمكره لا تجري عليه الأحكام إلا بحسب ما في قلبه.

الوقفة الثانية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ}: أي الحياة الدنيا، وهذا إخبار عن الكافر بدين الله الحقِّ الذي لا يعيش إلا ليومه، ولا يفكر إلا في ملذّاته وشهواته، من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)} [يونس]. وهذا بخلاف المسلم إسلامًا صحيحًا، فإنّه مهما كان غافلاً ومقصرًّا وعاصيًا فلا بدَّ أنه يريد الآخرة في الجملة. لكنّ أهل الإسلام يتفاوتون في مراتب همتهم ورغبتهم وعملهم للآخرة تفاوتًا عظيمًا.

الوقفة الثالثة: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}: فيها بيان أن الله تعالى لا يَحرِم من كفر به من متاع الدنيا ونعيمها، لكنه لا يعطيها لكل كافر، فكم من كافر مبتلى مع الكفر بالفقر والجوع والمرض، فلله في ذلك حكم عظيمة، وابتلاءات جليلة. فلو أنَّ كلَّ من كفر بالله تمتع بالصحة والعافية والمال والولد، لكان ذلك فتنةً عظيمةً للناس فيسارعون إلى الكفر والمعصية كما قال سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)} [الزخرف]، فمن رحمته ولطفه بعباده أن جعل الدنيا مقسومة بين المسلم والكافر، والصالح والطالح، حتى يعلم الناس جميعًا أن الدنيا ليس مقياسًا للخير والشر، وإنما المقياس هو الإيمان الصحيح والعمل الصالح.

الوقفة الرابعة: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ذكر ربنا سبحانه مع إرادة الآخرة شرطين: الأول: السَّعي لها. والثاني: الإيمان. فالإرادة قصد وتوجه، والسعي هو العمل الصالح، والإيمان هو ضابط ذلك تلك الإرادة والسعي إذ يجعلهما خالصًا لوجه الله تعالى. أما الكفر فيكفي فيه فساد القلب، سواء كان معه عمل أو لم يكن لهذا قال هناك: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} ولم يقل: وسعى لها، أو عمل من أجلها، لأنَّ الكفر أعظم الذنوب، وإن لم يكن معه عمل سيء فهو مهلك لصاحبه وإن كان عمله صالحًا: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)} [المائدة]، وقال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)} [الفرقان].

الوقفة الخامسة: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} أي: مقبولا منهم مدخرًا لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم في الآخرة، ومع هذا فالله لا يحرمهم من الدنيا، بل يعجّل لهم الإحسان والفضل والجزاء، بما يجعله في قلوبهم من الإيمان والسعادة والطمأنينة والانشراح، ثم لا يحرمهم أيضًا من المتع المادية، فكلا يمده الله منها لأنه عطاؤه وإحسانه: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} ـ هؤلاء الكافرين وهؤلاء المؤمنين ـ {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعًا من أحد بل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم راتعون بفضله وإحسانه.

الوقفة السادسة: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في هذه الدنيا بسعة الأرزاق وقلّتها، واليسر والعسر والعلم والجهل والعقل والسفه وغير ذلك من الأمور التي فضَّل الله العباد بعضهم على بعض بها {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} فليفكر الإنسان وليجعل هذا التفاوت في الدنيا صورة يقرّب بها ذلك التفاوت الحقيقي والكبير والعظيم في الآخرة فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها إلى الآخرة بوجه من الوجوه. فكم بين مَن هو في الغرف العاليات، واللذات المتنوعات، والسرور والخيرات والأفراح، حيث لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ممن هو يتقلّب في الجحيم ويُعذّب بالعذاب الأليم، وقد حلَّ عليه سخط الرب العظيم وكل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحدًا عدّه. لهذا فالدنيا جنة الكافر وإن كان فيها فقيرًا مُعذَّبًا، وهي سجن المؤمن وإن كان فيها غنيّا مُنعّما، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) «رواه مسلم» (2956). وقد ذكر المُناوي في شرح هذا الحديث قصة فيها عبرة وعظة عن الحافظ ابن حجر العسقلاني شارح صحيح البخاري وكان رئيس القضاة بمصر، ذكر أنَّه: (مرّ يومًا بالسوق في موكب عظيم، وهيئة جميلة، راكباً عربته، تجرّه البغال، والناس حوله. فهجم عليه رجل يهودي يبيع الزيت الحار، وأثوابه ملطخة بالزيت، وهو في غاية الرثاثة والشناعة، فقبض على لجام بغلته وقال: يا شيخ الإسلام تزعم أن نبيكم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فأي سجن أنت فيه، وأي جنة أنا فيها؟ يعني: كيف أكون أنا بهذه الحال وأنت بهذه الحال؟ فأنت في جنة وأنا في سجن. لقد قصد اليهودي بهذا تكذيب حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كان ردُّ الحافظ ابن حجر، هل سبَّه وشتمه، وأمر بضربه وتأديبه لجرأته واعتراضه، لا، إنه أجاب بجواب العالم الفقيه، فقال: أنا في سجن بالنسبة لما أعدَّ الله لي في الآخرة من النعيم كأنِّي الآن في السجن، وأنت بالنسبة لما أعد لك في الآخرة من العذاب الأليم، إن متّ على غير ملّة الإسلام، كأنك في الدنيا في جنة. ففهم اليهودي هذه المعادلة فأسلم اليهودي وشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله) «فيض القدير» 3/456. فالله أكبر! ما أعظم العلم بكتاب الله، وما أنفع الفقه في دين الله.

الوقفة الأخيرة: إخوة الإيمان خُتمت هذه الآيات بأعظم أمر يتكرر في كتاب الله تعالى، وهو: إفراد بالعبادة، والإخلاص له بالقصد والتوجه، والحذر مما ينافي ذلك من الشرك: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا}. فمن كان يريد الدار الآخرة ويسعى لها حق سعيها: فليحقق هذا الشرط بإخلاص العبادة والبراءة من الشرك وأهله. وتأملوا عباد الله تأملوا هذا في حال المسلمين: تجد الذين تعلقت قلوبهم بالدنيا، أبعد الناس عن تحقيق التوحيد وتعليمه والدعوة إليه والحذر والتحذير من الشرك وأهله.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يسعدنا في دنيانا، وأن يحسن خاتمتنا، ويجعل مصيرنا إلى الجنّة ونعيمها، بمنّه وكرمه وإحسانه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد