حقيقة الجهاد ومراتبه 1
الحمد لله الذي جعل جهاد النفس والعدو فرضًا واجبًا، ودينًا واصبًا، فما من مسلم عاقل إلا وهو يعلم أن مجاهدة نفسه وعدوه حق واجب عليه، فهو يرجو رحمة ربه ببذل نفسه ويرغب فيما لديه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، أحكم مباني دينه لعباده المؤمنين، وجعل الإسلام رأسه، والصلاة عموده، والجهاد ذروةَ سَنامه، فانتظمت بذلك أحكام شرائع الدين، فمن أسلم لربه فقد استمسك بالعروة الوثقى والحبل المتين، ومن أقام الصلاة لذِكْره فقد أخذ مركزه من صفوف العارفين، ومن جاهد في سبيله فليتبوأ مقعده من مئة درجةٍ أعدت للمتقين المجاهدين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
عباد الله! يشهد العالم منذ سنوات حربًا ثقافية وإعلامية كبرى ضد الإسلام عقيدة وشريعة، حيث توجه إليه الاتهامات، وتلصق به الأكاذيب والافتراءات، ويتعمد أعداؤه إلى تحريف حقائقه، وتشويه دعوته وتاريخه، وتخويف الناس من سننه وأحكامه.. ونحن المقيمين في هذه البلاد: نحتاج إلى التسلُّح بالعلم والحجة، حتى نتمكن من الجواب على التساؤلات، ودحض الأباطيل والشبهات. فتعالوا معي ـ إخوة الإيمان ـ نبحث في شعيرة من شعائر الإسلام خاض فيه الخائضون بالباطل والافتراء، ووصفوه بأسوأ الأوصاف مدعين أنه وحشية وعدوان، وإكراه على الدين، مع أنهم يجدون في كتاب الله: {لا إكراه في الدين}. هذه الشعيرة العظيمة هي الجهاد في سبيل الله، فكم ناله من الظلم والتشويه، حتى صار مرادفًا في وسائل الإعلام وفي أذهان كثير من الناس: للإرهاب والعنف والتخريب.
فتعالوا ـ إخوة الإسلام ـ نتفقَّه في هذا الحكم الشرعي (الجهاد) لندرك حقيقة معناه ودلالتِه ومراتبَه. فإن هذه الكلمة: كلمة إسلامية خالصة، فإن العرب لم يعرفوا الجهاد إلا بمعناه اللغوي: فالجَهد ويقال الجُهد في اللغة هو الوسع والطاقة والمشقة، فالجهاد هو بذل الوسع والطاقة وتحمل المشقة. فجاءت النصوص الشرعية بنقل هذه الكلمة من المعنى اللغوي إلى معنى خاص: يراد به بذل غاية الجهد وتحمل المشقات لأَجَلِّ الغايات وأعلاها وهو ابتغاء مرضاة الله تعالى وطلب ما عنده. لهذا فالجهاد ليس معناه القتال والمقاتلة، بل هو أعظم وأشمل من ذلك، فالقتال في سبيل الله نوع من أنواع الجهاد، وقد شرع الله القتال للضرورة: تحقيقًا للمصالح ودفعًا للمفاسد ـ كما سنشرحه إن شاء الله ـ أما الجهاد: فمعانيه واسعة، ودلالاتُه كثيرة، وهو حكم لازم لكل مسلم ومسلمة في كل زمان ومكان، فلا بد من الجهاد كلٌّ حسب وسعه وطاقته، وأساس ذلك ومنطلقه جهاد النفس: فهو فرض على كل مسلم في كل وقت ما بقيت فيه حياة.
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله في كتابه زاد المعاد: (فالجهادُ أربع مراتب: جهادُ النفس، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الكفار، وجهادُ المنافقين). انتهى كلام ابن القيم، وهو جدير بالشرح، لهذا نخص كلَّ مرتبة بخُطبة، فإن بمعرفة تعدد أنواع الجهاد ومراتبه وعدم انحصاره في القتال تظهر لنا فائدة جليلة ـ كما قال أحد العلماء ـ وهي معرفة أولويَّات الدعوة والعمل للإسلام ومعرفة سبيل الأنبياء عمومًا والنبيِّ خصوصًا في التَّغيير والإصلاح، فإن الكثير من الناس ربما يدفعه تصوره القاصر على مفهوم الجهاد إلى أعمال غير منضبطة بضوابط الشرع ليتخلَّص من ظنِّه تضييع الجهاد، وقد غاب عنه أن واجب الوقت الذي هو فيه نوع آخر من أنواع الجهاد، والناظر في سنة الأنبياء الذين أمروا بالقتال يرى بجلاء أن أولويات العمل بدأت أولاً بالدعوة إلى الإيمان بمعانيه الشاملة ثم شرع القتال بعد ذلك من باب الضرورة.
عباد الله: فأول وأهم وأوجب مراتب الجهاد: مرتبة جهاد النفس، وهو لازم لكل مسلم في كل وقت، وهو أساس وشرط لكل جهاد بعده، فإن من لم يتمكن من جهاد نفسه: لا يستطيع أن يجاهد غيره، قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كان جهاد النفس مقدمًا على جهاد العدو في الخارج، وأصلاً له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله لم يُمكنه جهاد عدوه في الخارج).
وقد بيَّن النبي هذا بيانًا شافيًا كافيًا، ففي الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد عن فُضالة بن عُبيد، قال: قال رسول الله في حجة الوداع: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب). وفي حديث أبي ذر قال: سألت رسول الله: أي الجهاد أفضل؟ قال: (أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك و هواك في ذات الله عز وجل) أخرجه أبو نعيم وأورده الألباني في الصحيحة.
وبيَّن ابن القيم أن جهاد النفس أربعُ مراتب:
إحداها: أَنْ يُجاهِدَها على تعلُّم الهُدى ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتَها عِلمُه، شقيت في الدَّارين.
الثانية : أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها.
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمِهِ مَنْ لا يعلمهُ، وإلا كان مِن الذين يكتُمون ما أنزل الله مِن الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ، ولا يُنجِيه مِن عذاب الله.
الرابعة: أن يُجاهِدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربَّانِيينَ، فإن السلفَ مُجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يَستحِقُّ أن يُسمى ربَّانيًّا حتى يعرِفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعَلِّمَه، فمَن علم وَعَمِلَ وعَلَّمَ فذاكَ يُدعى عظيماً في ملكوتِ السموات. ومصداق هذا في قول الله تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
فالمسلم الحق في جهاد لا ينقطع، يجاهد نفسه على إقامة الفرائض وأداء الحقوق وطلب الحلال، ويجاهد نفسه على ترك المعاصي واجتناب المحرمات والمنكرات، ويجاهد نفسه على حسن الخلق مع الأهل والولد والجيران والأصحاب والناس أجمعين. فمن جاهد نفسه بالصدق والإخلاص والاستقامة، فهو المجاهد حقًّا، قال ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} قال الإمام المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله في قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده) هو جهاد النفس والهوى. وقال ابن الجوزي رحمه الله: تأمَّلتُ جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد.
عباد الله: لقد تكلم العلماء كثيرًا في جهاد النفس، وألفوا فيه كتبًا، وبحثوا في فقهه وحقائقه، وحذَّروا من إهماله والتقصير فيه، فليس فينا ـ معاشرَ المسلمين ـ معصية ولا عيب ولا نقص في العلم والعمل والأخلاق إلا بسبب تقصيرنا في جهاد النفس والهوى، لهذا أصابنا ما أصابنا من الضعف والهوان والحيرة والضياع: قال ربنا سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). قال ابن القيم: علق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته ومن ترك الجهاد فاتَه من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد. والناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسُه فملكته وأهلكته، وصار طوعًا لها تحت أوامرها، وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعًا لهم منقادة لأوامرهم. فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك قال تعالى: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هى المأوى}. انتهى كلام ابن القيم.
فهذا جهاد النفس، وبعده: جهاد الشيطان وجهاد الكفار وجهاد المنافقين، وسنتكلم عن هذه الأنواع في خطب قادمة إن شاء الله تعالى.
- لا يوجد تعليقات بعد