حقيقة الجهاد ومراتبه 2
عباد الله: ما زال حديثنا مستمرًا عن الجهاد ومراتبه، وقد تكلمنا عن أولها: جهاد النفس، ونحن اليوم نتكلم عن المرتبة الثانية والتالية في الأهمية: جهاد العدو الأكبر الشيطان، أعاذني الله وإياكم من شرِّه.
إخوة الله: إن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة لا تنقطع، ليس هو بمنزلة عدو يمكن أن يقع معه صلح أو هدنة أو مسالمة، وليس بالعدو الذي يَملُّ أو يتعب أو ينقطع عن العداوة، بل هو في عدوان دائم، وكيد مستمر، لهذا أمرنا الله تعالى أن نقابله بالعداوة، فنتخذه عدوًّا، فنكون في حال استنفار دائم: قال تعالى: {إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال تعالى: {إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف:5]، وهذه العداوة ليست على مُلك أو مال أو جاه أو ولد، بل هي عداوة حقد وحسد، وكبر واستعلاء، ويأس تام من رحمة الله. ترجع قصتها إلى أول خلق أبينا آدم عليه السلام، إذ أمر الله الملائكة ومعهم إبليس ـ وليس هو من الملائكة ولكن من الجن ـ، فحسد عدوُّ الله آدمَ عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وتكبَّر وقال: أنا ناريٌّ وهذا طيني، قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي خَـالِقٌ بَشَرًا مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ، فَسَجَدَ ٱلْمَلَائِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ، قَالَ يإاِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ، قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ ٱلدّينِ} [ص:71-78]. وهكذا أعلن إبليس العداوة لآدم، انتقل من الحسد والكبر إلى العداوة والحرب المستمرة: فأقسم بعزة الله أن يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلِصين المخلَصين، فإنه لا سلطان له عليهم، قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83]. قُرِئ بفتح اللام وكسرها. وقال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ} [الأعراف:16-71].
فيا أخا الإيمان: يجب عليك أن تتذكر هذه العداوة، وأن تجعلها نصب عينيك، ولا تنسى أبدًا أن لك قرينًا من الشياطين ملازمًا لك، لا يفارقك، يتربص بك في الليل والنهار ليوقعك فيما يغضب الله عزّ وجلَّ. وقد أخبر بهذا الصادق المصدوق فقال رسول الله: ((ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينُهُ من الجن وقرينُهُ من الملائكة)) م، وقال: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه) م، فأخبرنا النبي أن لكل إنسان عدوًّا وقرينًا من الشيطان يتربّص به جاهدًا ومحاولاً لإضلاله عن صراط الله المستقيم. فهو يوجِّه عداوته وكيده ووسوسته بالدرجة الأولى: لأهل التوحيد والسنة، لأهل العبادة والاستقامة، أما أهل الكفر والبدعة والغفلة فقد استجابوا لدعوته، وأطاعوا أمره.
أخرج النسائي عن سبرة بن الفاكه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال تسلم وتذر دينك ودين آبائك فعصاه فأسلم فغفر له، فقعد له بطريق الهجرة فقال له تهاجر وتذر دارك وأرضك وسماءك فعصاه فهاجر، فقعد بطريق الجهاد فقال تجاهد وهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن فعل ذلك فمات كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة وإن وقصته دابة كان حقَّا على الله أن يدخله الجنة). فالشيطان أكبر قطاع الطرق إلى الله تعالى، فأعظم ما يسعى لإيقاعك فيه: الشرك بالله، فإن عجز: ففي البدعة في الدين، فإن عجز: ففي كبائر الذنوب، فإن عجز ففي المعاصي عمومًا.
عباد الله: ورغم شدة عداوة الشيطان، ومكره وكيده: فإنَّ عدوٌّ ضعيف جبان، قد كتبت عليه الهزيمة والخذلان إن تسلَّح المسلم بسلاح الذكر والاستعاذة، ولزم سبيل الطاعة والاستقامة، وعمل بالسنن والآداب للوقاية من شره وكيده، وهي كثيرة مذكورة في كتب السنة المشرفة، وخلاصة ذلك في أمرين جامعين:
الأمر الأول: أن يلتزم المسلم ذكر ربه على أحواله كلها، فإن الغافل عن ذكر الله هو من يتسلط عليه الشيطان: فيلتقم قلبه ويفترسه، ويلقي إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، أي: أنّ مَن غفل عن ذكر الله يُرسل الله عليه شيطانًا يكون له قرينًا. والشيطان هو الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ أي: أن الشيطان جاثِم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذَكَر الله خَنَس. أي: يتأخر ويتراجع إذا ذكر العبد ربه واستعان على دفعه. وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بأذكار يتحصّن بها الإنسان من كيد الشيطان، فمن هذه التحصينات: الاستعاذة، والاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام والاستجارة بالله من شر الشيطان الرجيم، فالشيطان الرجيم لا يقدر على دفعه وكفّه عن الإنسان إلا الله تعالى الذي خلقه، وهو المطّلع عليه، ويراه في جميع أحواله. ولأهمية الاستعاذة في حياة المسلم في جهاده ضد الشيطان وفي الوقاية منه وردت الاستعاذة في عدة مناسبات، فمن ذلك الاستعاذة بالله قبل البدء بقراءة القرآن، ومن وسوسة الشيطان في الصلاة، وعند رؤية الحلم المزعج، وعند دخول الخلاء، وعند ثورة الغضب، وعند دخول المسجد، وكذلك يستعاذ بالله تعالى من الشيطان عند تشكيكه للإنسان بربه، والاستعاذة بالله من شر الشيطان في الصباح وفي المساء، فالمسلم الذي يداوم على الاستعاذة في أحواله كلها سيكون بلا شك في حصن حصين من الله رب العالمين. ومن طرق الوقاية من الشيطان البسملة، في صباح كل يوم ومسائه، وعند الخروج من البيت ودخوله، وعند الأكل، والجماع، وعند غلق الأبواب. والأذكار عمومًا: أذكار الصباح والمساء، وغيرها، وأعظمها: أذكار الصلاة فإن الصلاة بطهورها وتكبيرها وقراءتها وأذكارها صلةٌ العبد بربه، تدفع عنه كيد الشيطان وشرَّه. ومن التحصينات: لزوم قراءة القرآن فهو كلام الله الذي يقمع الشيطان ويحرقه، خاصة آية الكرسي، والآيتين من آخر سورة البقرة وسورة الإخلاص والمعوذتين.
الأمر الثاني للوقاية من شر الشيطان: الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بدين الله عز وجل، فهو أعظم سلاح في مقاومة الشيطان وشره، فمن اعتصم بالله وبدينه وحقق التوحيد مع الإخلاص وتصحيح النية كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين وجنده الغالبين الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ولا قوة ولا غلبة: قال ربنا: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} وقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فالذين حققوا العبودية لله قد تكفَّل الله عز وجل بحفظهم من شر الشيطان، لهذا نهانا الله عز وجل أن نتبع خطوات الشيطان حتى لا يجد علينا مدخلاً يتسلط به علينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ادخلوا في السلم كافة: أي في الدين كله، أي التزموا بأحكام الإسلام في الظاهر والباطن، واحذروا خطوات الشيطان فإنها تنافي الدخول التام في دين الله.
عباد الله: فهذا جانب مما يجب علينا من الجهاد ضدَّ هذا العدوِّ، إنه جهادٌ بالتوحيد والإخلاص، والمداومة على الطاعات، واجتناب المحرمات، ودوام الاستعاذة والذكر والدعاء، حتى نكون من عباد الله المتقين، وأوليائه المهتدين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. جعلني الله وإياكم منهم بفضله وإحسانه.
- لا يوجد تعليقات بعد