موقع الشيخ عبد الحق التركماني - حقيقة الجهاد ومراتبه 3

/ 12 تموز 2025

للتواصل 00447432020200

حقيقة الجهاد ومراتبه 3

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 1232

عباد الله: يتصل حديثنا ويتواصل عن مفهوم الجهاد في الإسلام، وغرضنا أن نبيِّن مفهومه ومراتبه ومقاصده، ونردَّ الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام، وقد بينَّا أنَّ الجهاد مراتب، فمنطلقها وأساسها: جهاد النفس والهوى ثم جهاد الشيطان، وقد تكلَّمنا في هذين النوعين من الجهاد، فنبدأ الكلام في المرتبة الثالثة والرابعة ـ كما ذكرها ابن القيم رحمه الله ـ وهي جهادُ الكفار وجهادُ المنافقين.

اعلموا ـ إخوة الإيمان ـ أنَّ جهاد الكفار يكون باللسان وبالمال وبالقتال، وجهاد المنافقين باللسان والمال.

فنبدأ الكلام أولاً في الجهاد باللسان: ونقصد بذلك الجهاد بالدعوة إلى توحيد الله تعالى وطاعته بالعلم والحجَّة والبرهان، حتى يظهر الحقُّ وينكشف زَيف الباطل، وتُقام الحجَّة على الخلق. وهذا النوع في جهاد الكفار والمنافقين هو أعلى درجات الجهات، وأعظمها، وهو المقصود بذاته، فإنَّ الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه: حتى يبيِّن للناس سبيل الهدى والرشاد فيتَّبعوه، ويحذِّرهم من سُبُل الضلالة والغيِّ فيجتنبوها ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ لهذا كانت الدعوة إلى الله تعالى بالعلم والحجَّة هي أعلى المراتب وأشرفها، وهي وظيفة أنبياء الله تعالى ورسله، فهم أشرف الناس، ووظيفتهم أشرف الوظائف وأنبلها، وجهادهم أعظم الجهاد مع أنَّ كثيرًا منهم لم يقاتل بالسيف، وقد أمر الله عزَّ وجلَّ رسوله الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم بالجهاد من حين مبعثه فقال عزَّ من قائل﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ وهذه الآية من سورة الفرقان وهي سورة نزلت بمكة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُمر يومها بالقتال بل أُمر هو وأصحابه بكفِّ اليد والصبر ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ففي آية الفرقان يريد الحقُّ تبارك وتعالى أن يمتنَّ على رسوله منَّة عظيمة فيقول له: المسألة ليست قلَّة رسل عندنا حتى نرسل رسولًا للناس كافَّة وللزمن كلِّه ونحن نستطيع أن نخفِّف عنك ونبعث في كلِّ مدينة وفي كلِّ قوم رسولًا يخفِّف عنك عبء الرسالة لكنَّنا نريد لك أن تنال شرف الجهاد بأعلى درجاته فجمعناها كلها لك إلى أن تقوم الساعة إذ أرسلناك إلى الناس جميعًا فلا تُطع الكافرين فيما يدعونك إليه في أن تعبد آلهتهم فنذيقك ضعف الحياة وضعف الممات ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادًا كبيرًا. روى الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ قال ابن عباس: به أي: بالقرآن. وعلى هذا عامة المفسِّرين.

فإذن قد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد بالدعوة والبيان منذ أن بُعث وهو بُعث إلى الناس جميعًا فهذا هو الجهاد العام الذي أُمر به أما القتال فلم يُؤمَر به إلا بعد الهجرة ولبعض الناس لا لكلهم وكذلك ذكر ربنا سبحانه جهاد الدعوة والحجَّة في سورة التوبة فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فاستنبط الإمام ابن القيم رحمه الله من هذه الآية أنَّ المقصود هو الجهاد لأنَّ ذكر المنافقين وجهاد المنافقين إنَّما هو بتبليغ الحجَّة فالنبي لم يقاتل المنافقين قطُّ.

عباد الله: إنَّ فضل الجهاد بالدعوة وإقامة الحجَّة ونقض الشبهات وإبطالها يظهر لنا جليًّا إذا تأملنا كم هو ثقيل على نفس الإنسان أن يجاهر قومه بالمخالفة لهم في عقائدهم وعباداتهم فيدعوهم إلى غير ما اعتادوه وألفوه فيعارضوه أشد المعارضة فهذا الموقف أشد على النفس من مواجهة الأعداء في ساحة المعركة.

وتأملوا إخوة الإيمان شجاعة نبي من أنبياء الله هو هود عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى توحيد العبادة وجاهرهم بالمخالفة ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ فما وجد منهم إلا العناد والمكابرة ﴿قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ يدَّعون أنَّ هودًا عليه الصلاة والسلام لم يأتِ ببيِّنة لم يأتِ بآية ومعجزة دالَّة على صدقه وأي آية أعظم من أن يقف رجل واحد في مواجهة أهل بلده أجمعين ليقول لهم بيقين وثبات وشجاعة وجرأة بالغة ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)﴾ وهكذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش في العهد المكي ومع الناس جميعًا من بعدُ منذ أن أمره الله تعالى بالتبليغ إلى أن قبضه إليه لهذا قال ابن القيم رحمه الله: ولما كان من أفضل الجهاد قول الحقِّ مع شدَّة المعارض مثل أن تتكلَّم به عند من تخاف سطوته وهذا كان للرسل صلوات الله عليهم وسلامه من ذلك الحظِّ الأوفر وكان لنبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه من ذلك أكمل الجهاد وأتمه ويقول ابن القيم: ولهذا كان طلب العلم من سبيل الله لأنَّه به قِوام الإسلام كما أنَّ قوامه بالجهاد فقِوام الدين بالعلم والجهاد ولهذا كان الجهاد نوعين جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير والجهاد الثاني الجهاد بالحجَّة والبيان وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعِظَم منفعته وشدَّة مؤنته وكثرة أعدائه. انتهى كلامه رحمه الله.

عباد الله: وتأمَّلوا معي ما ورد في قصة فتح خيبر وغزوة خيبر كانت في السنة السادسة بعد الهجرة وخيبر حصن من حصون اليهود قرب المدينة وكان بينهم وبين المسلمين عهد وصلح لكنَّهم غدروا ونقضوا العهد فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّر على الجيش علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وبشِّر بأنَّ الله تعالى سيفتح على يديه فبماذا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسله للقتال؟ إنَّ قائد الجيش يأمر جنوده بالشدَّة والغلظة في القتال والمبالغة بالنِّكاية بالأعداء ويعدهم بالمكافأة على ذلك تشجيعًا لهم واستنهاضًا لهممهم لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائد المعلم ورسول الهدى والرحمة قال لعلي: (أنفِذ على رِسلك حتى تنزل بساحتهم ثمَّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمر النَّعم) يعني: من الإبل الحمر وذلك لأنَّ الإبل الحمر عند العرب كانت من أنفس الأموال والحديث في صحيح البخاري ومسلم.

والمقصود أيها الأخوة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ربَّى أصحابه على أن يكونوا دعاة وهداة حتى في ساحة المعركة وهكذا كانوا ففتحوا البلاد بالقرآن والعلم والدعوة قبل أن يفتحوها بالسيف والقوة فدخل الناس في دين الله أفواجًا واستقرَّ دين الله وثبت في المشرق والمغرب ولو كان دخول الناس في الإسلام بالقوة والإكراه لتتابعت الثورات ولم يرسخ جذور الإسلام في البلاد بل إنَّ بعض البلاد لم يدخلها الإسلام إلا بالدعوة بجهود التجار المسلمين في مناطق شرق آسيا مثل: سنغافورة وإندونيسيا وغيرها الكثير عرفت الإسلام واعتنقته سلميًّا وتدريجيًّا بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة وبالمجادلة بالتي هي أحسن وبالقول والعمل وبالأخلاق الطيبة وكذلك انتشار الإسلام في عصرنا هذا في أوروبا وأمريكا إنما هو بالدعوة والدراسات الغربية تثبت أنَّ الإسلام أسرع الأديان انتشارًا وقبولًا بين الناس وإنما ذلك بفضل الدعوة وجهود العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى وهذا ممَّا يجب أن يُعرَف به فضل العلم والعلماء فإنَّهم ورثة الأنبياء في وظيفتهم ومهمتهم التي بيَّنها ربنا بجلاء فقال عزَّ من قائل: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)﴾

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم هداة مهتدين لا ضالِّين ولا مضلِّين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد