حقيقة الجهاد ومراتبه 4
عباد الله: يتصل حديثنا عن مفهوم الجهاد في الإسلام، فنتكلم اليوم عن مرتبة رفيعة من مراتب الجهاد، وباب عظيم من أبوابه، ألا وهو الجهاد بالمال، والجهاد بالمال أوسع وأشمل من الجهاد بالنفس، لأن الجهاد بالنفس لا يقدر عليه إلا الرجال الأقوياء في أوقات ومواضع بعينها، أما الجهاد بالمال فبمقدور كل غنيٍّ من المسلمين صغيرًا كان أو كبيرًا، ذكرًا كان أو أثنى، أينما كان وحيثما حلَّ. كما أن الجهاد في أكثر صوره لا يقوم إلا بالمال: فلا بدَّ من المال لنشر الدعوة وتبليغ دين الله بشتى الوسائل والأساليب، ولا بد من المال للقتال في سبيل الله وحماية حقوق المسلمين وصد العدوان عنهم، ولا بد من المال لنصرة المظلومين، وإغاثة المستضعفين، وإعانة المحتاجين من المسلمين، فالجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس في أكثر الأحوال، لهذا جاء الحث في كتاب الله على الجهاد بالمال مقدمًا على الجهاد بالنفس سواء في الأمر مثل قول الله عز وجل في سورة التوبة: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أو عند الإخبار عن حال المؤمنين مدحًا لهم كما في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، أو عند ذمِّ المنافقين بتركهم الجهاد: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
قال شيخ الإسلام: (فالجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس، وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم، فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقةً لله، والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة، لا يُوافق أنه يقتل في الجهاد، ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل، ولا يهون عليه إخراج ماله، ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم)
وذكر ابن القيم من الحكمةِ في تقديم المال على النفس: (أن المال محبوب النفس ومعشوقُها، التي تبذل ذاتَها في تحصيله، وترتكب الأخطار، وتتعرض للموت في طلبه، وهذا يدل على أنه هو محبوبُها ومعشوقها، فندب الله تعالى مُحبِّيه المجاهدين في سبيله إلى بذل معشوقِهم ومحبوبِهم ـ يعني المال ـ في مرضاته، فإن المقصود أن يكون الله هو أحبَّ شيء إليهم، ولا يكون في الوجود شيءٌ أحبَّ إليهم منه، فإذا بذلوا محبوبَهم في حُبِّه نقلهم إلى مرتبة أخرى أكمل منها: وهي بذل نفوسهم له، فهذا غاية الحبِّ، فإن الإنسان لا شيء أحب إليه من نفسه) وقال أيضًا: (فبذل النفس آخر المراتب، فإن العبد يبذل ماله أولاً، يقي به نفسه، فإذا لم يبق له مالُه بذل نفسه، فكان تقديم المال على النفس في الجهاد مطابقًا للواقع).
إخوة الإيمان: لقد أدرك أصحاب رسول الله هذا المعنى الجليل فبذلوا لدين الله أموالهم كما بذلوا له أرواحهم، وتسابقوا في ذلك أيما تسابق، فهذا عمر بن الخطاب يسمع أن رسول الله قد أمر بالصدقة، فيقول: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا. فيأخذ نصف ماله، فيأتي به رسول الله، فيقول له الرسول: «هَذَا مَالٌ كَثِيرٌ؛ فَمَا أبقيت لأهلك؟» فيقول عمر: تَرَكْتُ لَهُمْ نِصْفَهُ. وإذا بأبي بكر يأتي بمال كثير، بكل ما عنده، فيقول له رسول الله: مَا أبقيت لِأَهْلِكَ؟ فيقول: أبقيتُ لَهُمُ اللهَ ورسوله. وعند ذلك قال عمر: لا أسابقك في شيء أبدًا. (د وحسن الألباني). وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يجهِّزُ جيشًا كاملاً: جيشَ العسرة وذلك في غزوة تبوك. وذلك من خصائص الكثيرة التي فُضِّل بها على علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهؤلاء فُقرَاء المُهاجِرينَ يأتون رسولَ الله فيقولون له: قَد ذَهبَ أهلُ الدُّثورِ بالدَّرَجَاتِ العُلى، والنعيمِ المُقِيمِ، فيسألهم: ومَا ذَاكَ؟ قالوا: يُصَلُّونَ كما نُصَلي، ويصومونَ كما نَصومُ، ويَتَصَدَّقُونَ ولا نَتَصَدَّقُ، ويعتِقونَ ولا نَعتق، فقال رسولُ اللهِ: أفَلا أُعَلِّمُكم شيئاً تُدرِكونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكم، وتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكم، ولا يكونُ أَحَدٌ أفضَلَ مِنكم إلا مَنْ صَنَعَ مِثلَ مَا صَنَعتُم؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله؟ قال: تُسبحونَ وتُكَبِّرونَ وتَحْمَدونَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثينَ مَرَّة. فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرينَ إلى رسولِ الله فقالوا: سَمعَ إخوَانُنا أهْلُ الأمْوالِ بِما فَعَلْنَا، فَفعَلوا مِثْلَهُ، فقال رسولُ الله: ذلك فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
عباد الله: إن صور الجهاد بالمال لا تتحدد ولا تنحصر ـ كما أشرت سابقًا ـ بالجهاد القتالي، بل كل إنفاق في سبيل الله فهو صورة من صور الجهاد بالمال، فمنها: الإنفاق على الدعوة إلى الله تعالى ونشر العلم، بكفالة طلاب العلم والدعاة إلى الله، وطباعة الكتب، وإنشاء القنوات الفضائية ومواقع الانترنت التي تبين الدين الحق وترد الشبهات والأباطيل، ومنها: الإنفاق على وجوه فروض الكفاية التي فيها إقامة الدين والدنيا وصلاح الفرد والمجتمع، مثل: بناء المساجد والمدارس والمستشفيات والمراكز الصحية ودور الأيتام وغير ذلك من صور البر والإحسان، وللكلام فيها مناسبة أخرى إن شاء الله، والمقصود أن هذه الصور كلها: داخلة في الجهاد بالمال خاصة إذا اشتدت الحاجة إليها، كما قال رسول الله: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) خ م. وقال ربنا سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. قال سعيد بن جبير: في سبيل الله: أي في طاعة الله.
- لا يوجد تعليقات بعد