موقع الشيخ عبد الحق التركماني - التفكر في خلق الله

/ 12 تموز 2025

للتواصل 00447432020200

التفكر في خلق الله

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 1101

عباد الله: إنَّ كل ما في هذا الكون من المخلوقات البديعة وما يجري عليها من أحوال ومظاهر، فإنَّما هي من خلق الله تعالى وصنعه، فهي دالَّة أعظم دلالة على إرادته وعلمه وقدرته، وجماله، وعظمته، وكبريائه. فالتفكر فيها من أعظم وسائل معرفة الله تعالى وتعظيمه وإجلاله، فالكون كله مرآة تظهر فيها آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، لهذا أمر الله تعالى عباده بالتفكر فيها: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ‌فَانْظُرُوا ‌كَيْفَ ‌بَدَأَ ‌الْخَلْقَ}، وذم من يعرض عن دلائلها فقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ‌يَمُرُّونَ ‌عَلَيْهَا ‌وَهُمْ ‌عَنْهَا ‌مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)} [يوسف]، ومدح الله سبحانه المتفكرين في خلقه بأنهم أهل العقول والأفكار فقال عز من قائل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ‌وَاخْتِلَافِ ‌اللَّيْلِ ‌وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)} [آل عمران]، هؤلاء هم أصحاب العقول فما هي صفتهم؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقال سبحانه: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ ‌آيَاتٌ ‌لِقَوْمٍ ‌يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦)} [الجاثية].

إخوة الإيمان: أخرج ابن حبان في صحيحه، وحسنه الألباني، عن عبيد بن عمر رحمه الله تعالى أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: (يا عائشة ذريني أتعبَّد الليلة لربِّي)، قلت: والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرُّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: وكان جالسًا يبكي حتى بلَّ لحيته، قالت: ثم بكى حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة أي؛ صلاة الفجر، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ ‌يَذْكُرُونَ ‌اللَّهَ ‌قِيَامًا ‌وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٩١)} [آل عمران]) «صحيح الترغيب والترهيب» (1468).

فتأمَّلوا يا عباد الله: تأمَّلوا كيف أثمر التفكُّر والتدبُّر في مخلوقات الله عند أولي الألباب، وسيَّدهم وإمامهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكمل الناس عقلًا وفهمًا وعلمًا، أثمر عندهم التعظيم والإجلال لخالق السماوات والأرض، فإذا بهم يرددون: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. والتسبيح هو التنزيه من كل عيب ونقص، فكل ما في هذا الوجود دالٌّ على الكمال المطلق لله عز وجل في أسمائه وصفاته، فهو رب العالمين الذي له الحمد كله والثناء كله، ولو كان متصفًا بصفة نقص، أو كان في شيء من صفاته نقص أو عيب، لما استحق الحمد ولا كان رب العالمين وخالقه، ومدبره والمتصرّف فيه، فسبحان الله العظيم.

عباد الله: إنَّ الجهاز الذي يخترعه أحد العباقرة، يشهد بذكاء صاحبه، وكبير علمه، وشدَّة إتقانه، وحُسن أدائه، وإننا إذا رأينا جهازًا متقن الصنع، نمدح الصانع ونثني عليه، ونحن لم نره ولا نعرف علمه وذكائه، لكن رأينا آثار ذلك في صناعته وإنتاجه، فكيف بمن له المثل الأعلى؟ فمن تأمّل خلق الله، وما فيها من عجائب الآثار وبديع الصنع والجمال والجلال، لحريٌّ به أن يستدلَّ بكل ذلك على صفات بديع السماوات والأرض رب العالمين، هذا ونحن لا ندرك من خلق الله تعالى إلا المشهود المحسوس لنا، ووراء ذلك ما هو أعظم وأجلُّ {لَخَلْقُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)} [غافر]، ومن هنا جاء الأمر في القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا بالتفكر والتدبر في خلق الله، وبديع صنعه، للاستدلال بها على علمه سبحانه وقدرته، وإرادته وحكمته وعظمته ورحمته وكمال أسمائه وصفاته، والاستدلال بها على البعث والنشور، وكل ذلك يورث قلب المؤمن محبة للخالق، وخشيةً وخوفًا وتعظيمًا وقصدًا وتوجهًا ورجاءً، وبذلك يكون من عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين، فهذا ثمرة التفكر والتدبر.

عباد الله: نحن في زمن قست فيه القلوب، وتعلقت بالمادّة فوقفت عندها، وجهلت خالقها ومدبرها. فحريٌّ المسلم أن يشغل فكره ويملأ قلبه بذكر الله عز وجل، والتفكر في خلقه، ويتعرّف على أسمائه وصفاته، فيورثه ذلك إيمانًا صادقًا، وقلبًا خاشعًا، ومداومةً على الأعمال الصالحة.

وإن بعض الناس قد انشغل بما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن، وتعمَّق في ذلك وتوسّع، مع الغفلة أنَّ ذلك غير مقصود لذاته، وإنما هو إن كان صحيحًا خاليًا من التكلّف والتأويل والآراء والدعاوى، إنما هو وسيلة لتعظيم الله عز وجل والاستسلام له بالتوحيد والعبادة والطاعة.

وتأملوا يا عباد الله: تأملوا هذه الآيات وما ترتب عليها من الأمر بالفرار إلى الله، والنهي عن الشرك به: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ‌وَإِنَّا ‌لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)} [الذاريات]. فهذه هي الغاية المقصودة من التفكر في خلق الله، الفرار الى الله واللجوء إليه بالحب والتعظيم، والعبودية، والإخلاص، والطاعة.

جعلني الله وإياكم من أولي الألباب المنتفعين بالآيات والذكر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد