الترويح والاستجمام
عباد الله: في هذه الأيام حيث انتهى الموسم الدراسي، وكثير من الناس في إجازة وفراغ من العمل، مع طول النهار، وحسن الأحوال، خاصة في هذه البلاد: حيث الاعتدال في درجات الحرارة، وجمال الطبيعة، والرياح الطيبة، مع الأمن والأمان، أدام الله علينا نعمه، ورفع عن أهل الشدة والبلاء غضبه ونقمه. أقول: في مثل هذه الأيام تميل النفسُ إلى الترويح والترفيه، لتتجدَّد لها نشاطها، وتنبسط بعد شدة الشتاء وضيقه، فما عليها في ذلك من لومٍ، فالنفس تحتاج إلى ساعة راحة واستجمام، ولهو وانبساط واسترخاء، وهذا لا ينافي ما خلقتِ النفوس لها، ولا الغاية التي وُجدنا من أجلها، وهي عبادة الله وحده والعمل للآخرة، فإنَّ هذه الغاية لا تقوى النفوس على القيام بها إن لم تنل حظها من الترويح والترفيه، لهذا جاء ديننا الحنيف بمراعاة هذا الجانب، فالعبادات المفروضة محدودة في أوقاتها وأعدادها، في اليوم والليلة خمس صلوات مفروضات، ثم وقت طويل: يتطوع فيه بالأعمال الصالحة، ويستغله في طلب الرزق وفي النوم والراحة، وفي الترويح والاستجمام، فالأوقات أكثر من الواجبات، بخلاف ما يقوله بعض أهل البدع، يقولون: الواجبات أكثر من الأوقات. وهذا غير صحيح، فرحمة الله واسعة، ومن رحمته وإحسانه بعباده أن جعل سبحانه الأوقات أكثر من الواجبات، الأوقات كثيرة والواجبات قليلة، كما قال عز وجل: {إن لك في النهار سبحًا طويلا} أي: فراغًا طويلاً كما قال أئمة التفسير، تصرفًا في حوائجك، وإقبالاً وإدبارًا، وذهابًا ومجيئًا. والسَّبْحُ: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء، لتقلبه بيديه ورجليه. فالعاقل يستغل هذا الفراغ الطويل والعمر المديد: في طاعة الله تعالى والاستكثار من الحسنات بكثرة الذكر والدعاء وقراءة القرآن والتطوع بالصلاة والصوم والصدقات وبطلب الرزق الحلال وصلة الأرحام، وغير ذلك من وجوه الخير، وقد قال رسول الله: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) خ. فمن أنعم الله عليه بهاتين النعمتين: الصحة والفراغ فليحذر أن يغبنهما، أي: يخسرهما، والغَبنُ: هو أن يبيع التاجر بضاعته بأقل من القيمة التي يستحقها، فينقص ربحه أو يخسر تجارته، فكذلك الذي لا يستغل صحته ووقت فراغه فيما ينفعه.
عباد الله! إنَّ المسلم يعمل للآخرة، يحمل همَّ الآخرة، لكن لا ينافي هذا أن يتجه إلى الترويح، ويأخذ بأسباب الاستجمام والانبساط، فإنه بذلك لا ينوي إلا الخير، يتقوى على طاعة الله، ويؤدي حقَّ أهله وأطفاله الذين يحتاجون إلى المؤانسة والملاطفة والملاعبة. فلا بدَّ من الاعتدال في السلوك والتوازن في الحياة. وحريٌّ بنا أن نذكر هنا قصة الصحابي الجليل حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ رضي الله عنه، لقد كان حنظلة حريصًا على استغلال أوقاته كلها في طاعة الله، والتجرد للعمل للآخرة، ولكن لا بد من الانشغال بشؤون الحياة والقيام بحقوق الأهل والذرية، وهذه هموم تشغل القلب، فظن حنظلة أن ذلك نقص في القيام بما يجب عليه من العبودية التامة لله، سأله أبو بكر يومًا فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ ـ عافسنا: حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا والضيعات جمع ضيعة وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة ـ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا. قال حنظلة: فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "وَمَا ذَاكَ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ: لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) م. يعني ساعةً للرب عز وجل وساعةً مع الأهل والأولاد وساعةً للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها: أن الله عز وجل له حق فيعطى حقَّه عز وجل، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد لله عز وجل براحة، لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها ملَّ وتعب وأضاع حقوقًا كثيرة.
وقد ورد في هذا آثار عن السلف:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أغيثوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي). وقال علي رضي الله عنه: (أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تملّ كما تملّ الأبدان). وقال أبو الدرداء: (إني لأستجم قلبي من اللهو المباح، ليكون أقوى لي على الحق).
إخوة الإيمان: إن الترويح إن كان هادفًا منضبطًا ليس فيه حرام ومعصية وغفلة؛ فإنه يكون رياضة للنفس وتربية لها، وقوة للجسد، وسببًا للصحة والنشاط، أما الترويح بلا هدف ولا انضباط فهو ضياع للأوقات والأموال وسبب للكسل والخمول والأمراض. لهذا جاءت الآثار بالحث على ما ينفع من التدرُّب على الرمي والسباحة وركوب الخيل، وقد سابق رسول الله أصحابه، وأخبرت عائشة أَنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ، فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَقَالَ: (هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ)، وصارع رسول الله رَكانة فصرعه النبي، وكان ذلك سببًا في إسلام ركانة، وخرج رسول الله على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال: (ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا) أخرجه البخاري.
وهذه الآثار تدل على التوازن والاعتدال في حياة النبي وأصحابه الكرام، وكما أخبر أبو سلمة ابن عبد الرحمن وهو من تلاميذ الصحابة، قال: (لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه). يعني: كانوا لا يتكلفون، ولا يتصنعون، لكن إذا تعلق الأمر بدينهم: دارت حماليق عيونهم، كناية عن فتح العينين والنظر الشديد، لأن الأمر جدٌّ لا مجال للهو والاسترخاء، فينهضون بحقِّ دينهم ويدعون اللهو والمزاح جانبًا.
عباد الله: الواجب علينا في هذه البلاد أن نبحث عن وسائل الترويح واللهو المباحة، ونتجنب ونجنب أهلنا وأولادنا كل حرام ومعصية، وليس المقصود أن يكون المسلم حبيس بيته، فأبواب الحلال وصورُه كثيرة والحمد لله، والإنسان يبذل جهده في غضِّ البصر والابتعاد عن مواضع المنكرات، فليس صحيحًا أن نقول للمسلم لا تخرج من بيتك في الصيف بسبب الفساد المنتشر، وإنما نقول: اتقَّ الله حيثما كنت، وابذل جهدك في طاعة الله، واسع في فَكاك رقبتك من النار، يقول النبي: (إن هذا الدين يسرٌ، ولن يشادَّ هذا الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وبشِّروا ويسِّروا، وأبشروا، واستعينوا بالغُدوة والرَّوحة وشيء من الدُّلْجَة) خ ن. الغدوة أول النهار، والروحة أول النصف الثاني من النهار والدلجة آخر الليل، يعني: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في وقت النشاط كأوّل النهار وبعد الزوال وآخر الليل، مثلما أن المسافر يستغل أوقات نشاطه في مسيره إلى مقصده، فالمؤمن مسافر إلى الله، ومقصده ومبتغاه مرضاته سبحانه والفوز بجناته. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من السائرين إليه، القاصدين لبابه، والداخلين في رحمته وفضله وجناته.
- لا يوجد تعليقات بعد