موقع الشيخ عبد الحق التركماني - تقارب الزمان واستقبال شعبان

/ 26 كانون الأول 2024

للتواصل 00447432020200

تقارب الزمان واستقبال شعبان

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 2292

عباد الله: إن مما يشكوا منه كثير من الناس: سرعة انقضاء الساعات والأيام، وذهاب البركة في الأوقات والأعمار، وتأملوا رعاكم الله: دوران السنين، يدخل الشهر ثم ينقضي وكأنه أيام قلائل، ثم نستقبل شهرًا جديدًا، حتى تنقضي السنة ونحن في ذهول وغفلة، وهذا المعنى هو بعض ما دلَّ عليه قول الصادق المصدوق نبينا محمد: (يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتنُ، ويُلقى الشحُّ، ويكثر الهَرْج. قالوا: وما الهرْج؟ قال: القتل. القتل) خ م. قال الحافظ ابن حجر (قد وُجد في زماننا هذا، فإننا نجد من سرعة مرِّ الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا). هذا كلام هذا العالم الجليل قبل أكثر من خمس مئة وتسع وسبعين سنة، فما نقول نحن في هذه العصور المتأخرة؟ لا شك أن تقارب الزمان أظهر، والشعور به أكثر وأبين. وتأملوا يا عباد الله العلامات المذكورة في هذا الحديث: تقارب الزمان: يحمل على التسرع والارتباك وقلة الصبر والقلق والجزع والفزع. ونقصان العلم: والعلم المقصود به في كتاب الله في كلام رسول الله هو العلم بالله تعالى وبدينه وبكتابه، العلم الذي يحمل على الإيمان والطاعة والاستقامة والتقوى والخشية من الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، هذا العلم ينقص، فتزداد حياة الناس قلقًا واضطرابًا. ثم ماذا؟ تظهر الفتن: والفتن جمع فتنة وهي الابتلاء والامتحان والاختبار، ثم كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، يعني الأحوال والوقائع التي تكون سببًا لما تكرهه في دينك ودنياك هي من الفتن، وكذلك كل أمر مكروه أو نتيجته ونهايته إلى مكروه فهو فتنة، فالإثم فتنة، والكفر فتنة، والبدعة فتنة، والقتل فتنة، والظلم فتنة. وما أكثر الفتن في هذا العصر: فتنَ الشبهات: بالطعن في الدين والانحراف في التوحيد والمعتقد وانتشار الدعوات الكفرية الزائفة والمناهج الفكرية الباطلة، وفتنَ الشهوات: بانتشار الفواحش والمنكرات وتيسر أسبابها وتوسع وسائلها عن طريق الانترنت والقنوات الفضائية ووسائل الاتصال والتنقل والسفر وغيرها. فلما كان الإنسان في تسابق مع الزمن ونقص علمه بالله فأصابته الغفلة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}، عند ذلك يُلقى إليه الشحُّ: وهو أشد البخل، هو البخل مع الحرص الشديد، فيكون الغالب على كثير من الناس الحرص على الدنيا، والتنافس عليها، والبخل بما أيديهم، ولا شكَّ أن اجتماع هذه الأمور يؤدي: إلى الاعتداء على حقوق الآخرين حتى يبلغ الاعتداء إلى استسهال القتل فيكثر الهَرْجُ، وهو القتل، القتل بسبب الحروب والصراعات أو القتل في الجرائم وعلى أيدي العصابات.

وتأملوا ـ عباد الله ـ مصداق ما أخبر به الرسول الكريم في حياتنا المعاصرة: سواء ما يتعلق بالأمم والدول، أو ما يتعلق بالأفراد: ضيق في الوقت، وتزاحمٌ في الوظائف والأعمال، وغفلة عن الآخرة، وفتن مشتعلة تقطع الطريق إلى الله، وحرص على الدنيا: حرب اقتصادية بين الدول، وتنافس وصراع بين الشركات وأصحاب رؤوس الأموال، وجرأة على الدماء: فكم من بلد احتلت أرضه، وقتِّل أهله، ودُمر عمرانه، بسبب التنافس والتنازع بين الدول الكبرى في السيطرة على خيرات الأرض. وكذلك الجرأة على القتل من قبل الجماعات والعصابات بل حتى الأفراد، والله المستعان.

عباد الله: إننا عندما نستذكر بعض علامات الساعة التي أخبر النبي الكريم، فإننا نفعل ذلك من باب الذكر والموعظة، والتزود من دلائل صدق النبوة، وأخذ الدروس والعبر، والتنبيه من الغفلة، وشحذ الهمم للعمل للآخرة، فإن المسلم يحمد الله تعالى ويشكره أن أمد له في العمر، وفسح له مجال التوبة والأوبة، ولم يعجل عليه بالموت فينقطع عمله، وتعظم حسرته وندمه. قال بعض السلف: كم من مستقبل يومًا لا يستكمله ومن مؤمِّل غدًا لا يدركه إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل و غروره.

لهذا أرشدنا الرسول الكريم أن نقول إذا استيقظنا ليوم جديد: (الحمد لله الذي رد على روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره). يقول ربنا سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي: جعل الليل والنهار يتعاقبان، توقيتًا لعبادة عباده له، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل. وقد جاء في الحديث الصحيح: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل). فسبحان الله! ما أعظم حلمه وعفوه مغفرته.

إخوة الإيمان: ما أعجل انطواءَ صفحاتِ سنتنا هذه حتى وافينا أول هذا الشهر ـ شهر شعبان من سنة ألف وأربع مئة وإحدى وثلاثين ـ وإنَّا مقبلون على مواسم الخيرات والبركات: شهر رمضان وأشهر الحج. ولم يكن رسول الله يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان، حتى كان يصوم شهر شعبان كلَّه إلا قليلاً منه، فقالت عائشة: لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ).

والحكمة في هذا والله أعلم: أن شهر شعبان مقدمة لاستقبال شهر رمضان، فكما أن صلاة الفريضة تتقدمها صلاة التطوع، فكذلك رمضان يستحب أن يتقدم المسلم بين يديه بالأعمال الصالحة من الصوم وقراءة القرآن والصدقة وتجديد التوبة والإقبال على الله تعالى، ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. لهذا كان السلف الصالح يعتنون بهذا الشهر، قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء.

مضى رجبُ و ما أحسنتَ فيه وهذا شهرُ شعبانَ المبارَكْ

فيا مَن ضيَّع الأوقاتَ جهلاً بحُرْمَتها أَفِقْ واحذر بُوارَكْ

فسوف تُفارق اللَّذاتِ قسرًا ويُخلي الموتُ كُرْهًا منك دارَكْ

تدارَكْ ما استطعتَ من الخطايا بتوبةِ مخلصٍ واجعل مدارَكْ:

على طلب السلامة من جحيمٍ فخير ذوي الجرائم من تَدارَكْ

عباد الله: وهذا الاهتمام بشهر شعبان بالصوم وقراءة القرآن والإكثار من الإعمال الصالحة: هو اهتمام عامٌّ، فليس في هذا الشهر عبادة مخصوصة في ليلة من لياليها أو يوم من أيامها. فكما قال العلماء: إن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها وتخصيص يومها بالصيام: بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر. والصحيح ما ذكرناه، ونبهنا عليه. فالله أسأل أن يبارك لنا في شهرنا هذا، ويبلغنا رمضان، ويجعلنا من التائبين المقبلين عليه، بمنه وكرمه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد