من خصائص المساجد وأهميتها

الحمد لله الذي جعل عمارة بيوته من أعظم شواهد الإيمان، وأذِن أن تُرفع وتعظَّم تعظيمًا للرحيم الرحمن، وأخبر صلى الله عليه وسلم: أن من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في منازل الجِنان. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم المنَّان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله السابق إلى كل خير ومعروف وبر وإحسان، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
عباد الله: إنَّ للمسجد مكانةً سامية، ومنزلةً عالية في دين الإسلام، وقد أضاف الله عز وجل المساجد إلى نفسه إضافة تشريف وإجلال، وتوعد من يمنع من ذكره فيها أو تسبب في خرابها، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)} [البقرة]. وشهد سبحانه لعمَّار المساجد بالإيمان والخشية، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصلاةَ وَءاتَى الزكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة]؛ والعمارة هنا يشمل معنيين: الأول وسيلة وسبب وهو عمارة المساجد ببنائها وتشييدها. والثاني هدف وغاية وهو عمارة المساجد بالصلاة فيها وبالذكر والدعاء والعلم والدعوة.
ولا شكَّ أت التفرُّغ للعبادة، واجتماع القلب، وهدوء النفس لا يحصل على الوجه الأتم إلا في موضع طاهر، مخصص للصلاة والذكر والدعاء، له جلاله وهيبته، يفزعُ إليه المسلم كلَّ يومٍ: ليعبد ربَّه، ويسأله رحمته، ويستغفر لذنبه، ويتخفف من هموم الحياة المادية وثقلها: عندما يجدد ذكره للآخرة والاستعداد لها. كما أنَّه يتعلم فيه أمور دينه، لهذا فقد كان أولَ الأعمال الجليلة التي بادر إليه رسول الله بعد هجرته إلى المدينة، إلى طّيبة الطيبة: بناء مسجده ـ كما ذكره أهل السيرة عامة ـ ليكون أساسًا من أسس المجتمع الجديد: يرتبط أفراده بمكان مقدَّسٍ له خصائصه وميِّزاته:
فأول ذلك: أنه موضعٌ لإعلان التوحيد لله بالعبادة، ينادى فيه بـ: الله أكبر، فلا يدعى إلا الله، ولا يصلى إلا له، ولا يستغاث إلا به، ولا يُلتجئ إلا إليه، ولا تسجد الجباه ولا تتذلل إلا بين يديه وحده لا شريك له: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨)} [الجن] أي: لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، فإن المساجد التي هي أعظم محالِّ العبادة مبنية على الإخلاص لله، والخضوع لعظمته، والاستكانة لعزته، وتلُّق القلوب به وحده، فلا مكان في المساجد للصور والتماثيل، ولا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر.
والثاني من تلك الخصائص: لما كانت المساجد لإقامة العبودية لله: استحقت أن تنال العناية الفائقة من المسلمين من جهة الطهارة والنظافة، والاحترام والهيبة، فالمسلم يأتي المسجد بثياب نظيفة، وريح طيبة: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)} [الأعراف]. وتصان المساجد من كل ما يسيء إليها من الأقوال والأفعال والأحوال، كما قال رسول الله: (إنّ هذه المساجد، لا تصلح لشيءٍ من هذا البول، ولا القذر، إنّما هي لذكر اللّه عز وجل والصّلاة، وقراءة القرآن) «صحيح مسلم» (285) وقال النبي: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) «صحيح مسلم» (564). ونهى رسول الله عن رفع الأصوات في المساجد بنشدان الضالة وطلبها، كما نهى عن البيع والشراء.
إخوة الإيمان: والثالث من تلك الخصائص: أن المسجد من أهم معالم الوحدة بين المسلمين، فهو رابطة عظيمة يربط بينهم: فإلههم ومعبودهم واحدٌ، وقبلتهم واحدة، وصلاتهم واحدة، وقراءتهم واحدة، يتعلمون الأدب والتواضع والنظام، يحققون المعنى الذي أعلنه النبي في أعظم اجتماع لنبيٍّ مع أمته: في حجة الوداع، فقال: (يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى. إن أكرمكم عند الله أتقاكم) «رواه أحمد» (23489) وصححه ابن تيمية. فما أعظم تحقق هذا المعنى ونحن نجتمع في هذا المسجد، من جنسيات وقوميات وأعراق مختلفة، كم بيننا من اختلاف في اللغات والعادات والتقاليد، ولكننا اجتمعنا في هذا المسجد على توحيد الله واتباع رسول الله. ولا شكَّ أن هذا الاجتماع مما يُغيض الشيطان، فيُلقي إلى ضعاف النفوس بالحقد والحسد وإثارة الشقاق والعداوة والكذب والتحريض، كما قال رسول الله: (إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم) «صحيح مسلم» (2812). يعني: هَمُّه وشُغله في الإغراء والتهييج والتحريض بينهم في الخلاف والشرور والعداوة والبغضاء.
ثم الرابع من تلك الخصائص: أن المسجد مدرسة شاملة جامعة، تخرِّج الرجال والنساء المؤمنين الصالحين في أنفسهم والمصلحين لمجتمعهم، ففيه يتعلمون عقيدتهم وأصول دينهم، وأحكام عباداتهم ومعاملاتهم، والآداب والأخلاق الإسلامية الرفيعة، وقد كان رسول الله يصلي على منبره حتى يراه الحاضرون في المسجد فيقتدوا به، يعظهم ويذكرهم، ويشاورهم ويحادثهم، ويجالسونه فيسألونه ويستفتونه. وهكذا كان المسجد في الإسلام جيلاً بعد جيل، حتى يومَ الناس هذا: مكانًا للعلم علم الكتاب والسنة لجميع المسلمين، صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً. وهو علم يراد به وجه الله، لهذا يكون سببًا للقرب منه، ونيل رحمته وكرامته، يقول رسول الله: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) «صحيح مسلم» (2699).
عباد الله: إنَّ الحديث عن فضل المسجد ومنزلته وخصائصه وما يتعلق به من أحكام وآداب حديث طيب مبارك لا تتسع مثل هذه الخطبة للإحاطة بجوانبه، وكل مسلم يدركُ في الجملة أهمية المسجد والحاجة إليه، ونحن في هذه البلاد أشدُّ إدراكًا لتلك الأهمية والحاجة نظرًا للأثر الكبير للمسجد في ارتباطنا بديننا، واعتزازنا بشعائرنا، وتوثيق الصلة والتواصل بيننا. ثم إن المسجد في هذه البلاد: مؤسسة للدعوة إلى الله، ومنطلق للتعريف بدين الله، ورسالة أمان واطمئنان لأهل البلاد والمسؤولين، فإنهم من خلال المسجد يتعرفون على رسالة الإسلام، ويدركون من خلال خطب الجمعة والدروس والمحاضرات والنشاطات التي تقام في المسجد وكلها علنية لا سرَّ فيها: أن أئمة المساجد والقائمين بالدعوة والتعليم فيها ليسوا دعاةَ إرهابٍ وعنفٍ وتخريبٍ، بل هم دعاةُ خير وسلام وإصلاح، لهذا فإنَّ للقائمين على هذا المسجد أثرهَم الطيب في توجيه الشباب ورعايتهم، والمشاركة في حل المشكلات الاجتماعية التي تحصل في هذه المنطقة. وهذا عمل مشاهد مشكور.
وأخيرًا: لا بدَّ أن أختم بشكر الإخوة الذين تبرعوا بالعمل في تهيئة هذا المكان، وبذلوا في ذلك وقتًا وجهدًا كبيرًا، وتعاقبوا على ذلك بروح أخوية كريمة، فجزاهم الله خيرًا، وليس لي إلا أن أذكر لهم قصة تلك المرأة السوداء التي كانت تقُمُّ المسجدَ، يعني: ترفع القُمامة، وتكنس المسجد، فماتت ليلاً، فصغَّر الصحابة رضي الله عنهم شأنَها، وقالوا: لا حاجة إلى أن نخبر النبي في هذا الليل، ففقدها رسول الله فسأل عنها، فقيل له: إنها ماتت، فقال: (فهلا آذنتموني؟) أي: أعلمتموني. فأتى قبرها فصلَّى عليها. ثم قال: (إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإنَّ الله تعالى ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم) متفق عليه (956). فأبشروا يا من بذلتم الجهد في تهيئة هذا المكان بالأجر الجزيل، والثواب الحسن، من الله الرحمن الرحيم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا في مكاننا هذا، ويجعله سببًا لخير الدنيا والآخرة بمنه وكرمه وإحسانه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.
- لا يوجد تعليقات بعد