العشر الأواخر 1431
عباد الله: ما أسرعَ انقضاء الساعات والأيام، فبالأمس القريب كنَّا نتحدث عن استقبال رمضان، فإذا بهلاله يهل، وبأيامه تتابع، حتى انقضى نحو ثلثيه، وها نحن أولاء نستعد لاستقبال الثلث الأخير، فسبحان الذي يقلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ، وسبحان الذي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا. فدونك ـ يا عبد الله ـ هذه العشر بين يديك، فاغتنمها بالتوبة والإنابة فلعلك لا تشهد غيرها، فإن العمر قصير، والأجلَ قريب، والمستقبلَ مجهول: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
هذه العشر الأواخر هي أفضل أيام شهر رمضان، ولياليه أفضل ليالي العام كله، وقد كان رسول الله يخصُّ هذه العشر بمزيد من العبادة، ويضاعف فيها الأعمال الصالحة، ويجتهد فيها بأنواع من القرب والطاعة ما لا يجتهد فيما سواها من الأزمنة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيى الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر. يعني: اشتغل بالعبادة عن غيرها انشغالاً تامًّا.
ويكفي هذه الليالي شرفاً ورفعةً وفضلاً أن الله اختصَّها بليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؟ ليلة عظَّم الله قدرها، وأعلى شأنها، وشرفها بإنزال الوحي المبين على سيد المرسلين، وفيها يُفرق كل أمر حكيم، والعبادة فيها تفضُل عبادة ألف شهر خلت من ليلة القدر، فهي ليلة عظيمة البركات، كثيرة الخيرات. تقبل فيها الدعوات، وتكفر السيئات، وترفع الدرجات، إذا صدق الإيمان وصحَّت النيات، كما قال الصادق المصدوق عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) خ م. لهذا أرشد صلى الله عليه وسلم أمَّته إلى التماسها وتحريها، رجاء أن ينالوا خيراتَها وبركاتِها، فهي ليلة من ليالي الوتر في هذه العشر الأواخر، روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبنَّ على السبع البواقي)، وروى أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: (اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر، في تسع يبقين، وسبع يبقين، وخمس يبقين، وثلاث يبقين). وقد ورد أيضًا: أنها ليلة سبع وعشرين. فمن حرص على الليالي العشر لم تفته ليلة القدر إن شاء الله تعالى. وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها رسولَ الله عما تدعو به في ليلة القدر قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن علمت أيَّ ليلةٍ ليلةُ القدر؛ ما أقول فيها؟ قال: (قولـي: اللهم إنك عفوٌّ، تحب العفو، فاعف عني) حم وصححه الترمذي والمنذري والنووي وغيرهم.
فتأملوا يا عباد الله هذا الحديث الجليل، عائشة أم المؤمنين تسأل رسول الله وهو أتقى الناس وأشدهم خشية لله: عن صيغة الدعاء في ليلة القدر، فيرشدها إلى سبع كلمات فقط: (اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني). لأنَّ العبرة ليست بطول الدعاء، والتفنن في العبارات، والتكلف في الصيغ والكلمات، وإنما العبرة بصدق التوجُّه إلى الله، بالإخلاص وحضور القلب وصحة الإيمان واليقين بالإجابة.
فاغتنموا ـ إخوة الإيمان ـ هذه الأيام الفاضلة، وأحسنوا استغلال هذا الموسم المبارك الذي تُضاعف فيه الحسنات، وتُقال فيه العثرات، وهنيئًا لمن خُتم له الشهر بالغفران، والإجارة من النيران: (فمن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، ومن غُفر له ذنبه فرح عند لقاء ربِّه: (فللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه). كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
فأبشر يا عبدَ الله: يا من أقبلت على ربك في هذا الشهر، ترجو رحمته، وتخشى عذابه، يا من أثقلتك الذنوب، وتاهت بك الغفلة في شتى الدروب، ثم خشع قلبك لذكر الله، واستجابت نفسك لداعي الخير: أبشر فقد أقبلت على توَّاب كريم، لم يجعل بينك وبينه حاجزًا ولا مانعًا، ولا وسيطاً ولا وكيلاً: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. وهذه آية عظيمة ذكرها الله بين آيات الصيام، لأنَّ النفوس لما صامت عن المحرمات، وتسامت على الشهوات، وتطهرت بتلاوة الْقُرْآن الذي أنزل هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ: عند ذلك تواضعت بين يدي ربِّها وخالقها، فاعترفت بذنوبها وتقصيرها، وأشفقت من الطرد والحرمان، فتوجهت إلى إلهها الحقِّ بالتضرع والسؤال، فجاءها الجواب عاجلاً غير آجل: {إِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} فيا لضلال من يدعو غير الله، ويا لضلال من يجعل بين الله وعباده وسائط من الأنبياء أو الأئمة والأولياء والصالحين.
فما أعظمَ كرمُ ربِّنا، أمرنا بالدعاء، وتكفل لنا بالإجابة، وبيَّن لنا طريق الرشاد: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، فيا أيها المقبل على الله: رشادك في أمرين جامعين: الاستجابة لله باتباع كتابه العظيم وسنة نبيه الكريم، والإيمان به إيمانًا صحيحًا صادقًا ليس فيه شرك ولا نفاق ولا رياء. فإن حققت هذين الشرطين، تمَّ لك ما وعدك الله به من الرشاد، وهو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنك الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات.
- لا يوجد تعليقات بعد