آخر أيام التشريق 1431
الحمد لله الذي منّ على عباده بمواسم الخيرات، ليغفر لهم بذلك الذنوب ويكفر عنهم السيئات، وليضاعف لهم به الأجور ويرفع الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واسع العطايا وجزيل الهبات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المؤيَّد بالآيات، أتقى الناس لربه وأخشاهم له في جميع الحالات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ما توالت الشهور والأوقات وسلم تسليمًا.
عباد الله: هذه الساعات المباركة هي الساعات الأخيرة من عيد الأضحى المبارك، فهذا اليوم آخر أيامه، وينتهي عند غروب الشمس، وبذلك ينتهي وقت ذبح الأضاحي، فاليوم هو آخر أيام التشريق، وأيام العيد أربعة أيام، اليوم الأول يوم النَّحر الذي صلينا فيه صلاة العيد، واليوم الثاني والثالث والرابع هي أيام التشريق، وهذه الأيام الأربعة وقتٌ لذبح الأضاحي، وأصل التشريق من شَرَّقْتُ اللحم: شَبْرَقْته طولاً ونشَرته في الشمس ليجِفَّ، وتَشْريق اللحم: تَقْطِيعُه وتقدِيدُه وبَسْطُه، ومنه سميت أيام التشريق، لأن لحوم الأَضاحي كانت تُشَرَّق فيها في وادي مِنًى، وهو أحد المشاعر المقدّسة قرب مكة المكرمة، وتسمى أيضًا: أيامَ منًى. لأنَّ الحجاج يبيتون فيها بمنًى.
وأيام التشريق هي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَات}، فهي أيامٌ لذكر الله تعالى وشكره، زيادة على ما يفعله المسلم في كل وقت، وهي أيام فرح وانبساط وتوسع في الأكل والشرب، فعن نُبَيشةَ الهُذَلي رضي الله عنه أن النبي قال: «أيام التشريق أيامُ أكل وشربٍ وذكر لله» (م) وفي رواية للإمام أحمد «من كان صائماً فليفطر فإنها أيام أكل وشرب». فالله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
إخوة الإيمان: العيد مرتبط عندنا أهلَ الإسلام بديننا، مبني على عقيدتنا، وهو جزء من شريعتنا. وكذلك أعياد كل أمة وملة ونحلة ترتبط بدينها، سواء كانوا من أهل الكتاب كاليهود والنصارى أو من غيرهم، يحتفلون بأيام معينة ويجعلونها عيدًا لسبب من الأسباب الدينية صحيحة كانت أو باطلة. فالعيد من أهم الخصائص الدينية، يجمع عبادة وهو ما فيه من صلاة أو ذكر أو صدقة أو نسك، ويجمع عادة وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب ونحو ذلك. ولكن عندما يضعف أمر الدين في الأمة، ويُنسى العلم، يقوى جانب العادة، فتتحول الأعياد إلى مناسبات شعبية واحتفالات تراثية، ومراسيم تقليدية، ومع ذلك تبقى الصبغة الدينية فيها ظاهرة وبينة. لهذا قَالَ رسولنا الكريم: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ: عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» السنن. وقال: (إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا) خ م.
فتأملوا كيف أضاف العيد إلى صفة الإسلام، وبيَّن اختصاص كل قوم بعيدهم، وذلك أن اللام تورث الاختصاص، كما في قول الله عز وجل: (ولكل وجهة هو موليها) وقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم، فإذا كان لليهود عيدٌ وللنصارى عيد كانوا مختصين به فلا نشاركهم فيه، كما لا نشاركهم في قبلتهم وشرعتهم. وقوله: (هذا عيدنا) فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذه الأيام الخمسة فليس لنا عيد سواها.
عباد الله: ثم إن العيد في الإسلام يأتي بعد إتمام عبادة عظيمة من العبادات، فعيد الفطر بعد صيام شهر رمضان، وعيد الأضحى بعد إقامة الركن الخامس من أركان الإسلام والتعبد لله تعالى في عشر ذي الحجة، كما أن أيامه وقت للتقرب إلى الله تعالى بعبادة عظيمة مقرونة بالصلاة: وهي عبادة الذبح لله تعالى وحده، فهذا من أعظم معالم التوحيد، كما أن من أقبح صور الشرك الذبح لغير الله عز وجل، قال ربنا سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}، وقال سبحانه: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
فمن أقام هذه العبادات العظيمة، من الصلاة والصيام والحج والتقرب إلى الله بالهدي والأضاحي وما فيها ومعها من الذكر والدعاء، وبذل في ذلك جهدًا ووقتًا ومالاً، مع الصبر والاحتساب والإخلاص لله وحده: استحقَّ أن يفرح بأيام العيد، ويتنعَّم بالطيبات من المأكل والمشرب والملبس، بعد أن تنعَّم قلبه بالإيمان ولسانه بالذكر وجسده بالطاعة والاستقامة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
عباد الله: فهذا ثمرة الإيمان والطاعة في الدنيا، وهذا نتيجة الصبر والبذل والمثابرة والاستقامة، وهذا ما يحصِّله الصائمون والحجاج والعبَّاد والصالحون في الدنيا: أيامٌ أكرمهم الله فيها بالطيبات، وسخَّر لهم هذه الحيوانات، وأذن لهم فيها بالتوسع في الملذات، وحرم فيها الصوم الذي فيه حبس النفس عن شهواتها، فكيف بالثمرة التي يقطفونها، والنتيجة التي يحصِّلونها في الدار الآخرة. فقارنوا ـ يا عباد الله ـ عيد الدنيا بعيد الآخرة، فإن الدنيا كلها أيام سفر كأيام الحج، وهي زمان إحرام المؤمن عما حرَّم الله عليه من الشهوات، فمن صبر في مدة سفره على إحرامه، وكف عن الهوى، فإذا انتهى سفرُ عمره، ووصل إلى مِنَى الـمُنَى فقد قضى تفثه ووفَّى نذره، فصارت أيامُه كلُّها كأيام منى، أيامَ أكل وشرب وذكر لله عز وجل، وصار في ضيافة الله عز وجل في جواره أبد الأبد، فيا لسعادة المؤمن التقي: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}. فماذا كانت النتيجة والثمرة عيدٌ دائمٌ لا انقطاع له: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}.
أسأل الله تعالى أن يسعد أيامنا، ويحسن خاتمتنا، ويجعلنا من أهل الجنة والنعيم المقيم.
- لا يوجد تعليقات بعد