موقع الشيخ عبد الحق التركماني - في استقبال العام الهجري 1432

/ 12 تموز 2025

للتواصل 00447432020200

في استقبال العام الهجري 1432

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 3 كانون الأول 2010 808

عباد الله: ها نحن أولاء نودِّع عامًا انقضت أيامه، وطُويت صفحاته، ونستقبل عامًا جديدًا تتجدَّد فيه الآمال، وتتواصل فيه الأعمال، وأعني بذلك العام الهجري الجديد: الثاني والثلاثين بعد الأربع مئةٍ وألف، فحسابنا نحن أهلَ الإسلام بالأشهر القمرية، وهي التي في كتاب الله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}، وبها يرتبط حساب بعض عباداتنا كالصيام والحج، وهي من خصائص هذه الأمة التي ينبغي المحافظة عليها، والاعتزاز بها.

إخوة الإيمان: بداية السنة الجديدة ليس عيدًا من الأعياد، ولا مناسبة لاحتفال أو مهرجان، ولكنَّها مناسبة لمحاسبة النفس، والتنبُّه لقُرب الرحيل، وانقضاء الآجال.

فأول ذلك: أنَّ العبد المسلم عندما يقف في توديع عامٍ انقضى من عُمُره يشعر بالمسؤولية الفردية، بالمسؤولية الشخصية، فكل ما كان طوال العام من حوادث وأعمال ومن صخب الحياة وضجيجها وحركة الناس قد انقطع وانتهى، لا ينفعه شيء من ذلك ولا يضرّه إلا ما قدمه هو لنفسه من عمل صالح أو اكتسبه من سيئة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت]. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه (8)} [الزلزلة]. وإن في إدراك هذه الحقيقة أعظم عبرة وعظة للإنسان العاقل: ألا يهتم إلا بما ينفعه، وألا تخدعه زخارف هذه الدنيا، وكثرة ما فيها من حوادث ونوازل وأخبار: سياسة ورياضة واقتصاد وقنوات وأفلام ومهرجانات وملاهٍ، ودعاوى أهلها، فالخلاصة والنتيجة تقول إنه لا ينفعك ولا يضرك إلا ما يتصل بك ويتعلق بك، فلا تأخذك فتن الحياة بعيدًا عن واقعك، ولا تشغلك عن مهمتك ووظيفتك ومستقبلك: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)} [الإنشقاق].

فيا إخواني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)} [الحشر].

ثم إنَّ الإنسان في نظره لسنة مضت من عمره في هاتين المنزلتين:

إما أنَّه كان موفَّقًا إلى الأعمال الصالحة، فالواجب عليه أن يحمد ربه، ويشكره على ما وفقه إليه من الخير، ويفرح بذلك ويسعد، ويحرص على الاستمرار على هذا النهج، والمحافظة على الاستقامة، والمداومة على الطاعة.

وإمَّا أنَّه كان من العُصاة الغافلين، ومن المضيِّعين المُفرِّطين، فنقول له: أبشِر بالخير ما دامت فيك حياة، فإنَّ التوبة تجبُّ ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فعليك بالتوبة والاستغفار، والإقبال على الله تعالى، يغفر لك ما مضى، وتنال رضى الله فيما بقي: يقول الكريم المنان: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء]، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} ويقول رسول الله: (إن الله يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل) «صحيح مسلم» (2759). ومن عظيم رحمة الله، ومحبة لتوبة عبده أنه سبحانه يبدل سيئات التائبين حسناتٍ: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان]. فالتوبة التوبة أيها المسلمون، تفوزوا برضوان الله وتسعدوا في الدنيا وبالنعيم المقيم في دار المقامة.

عباد الله: أما نظرنا إلى السنة الجديدة فلا بد أن يكون بتفاؤل واستبشار، لا بالنواح والبكاء والتقنيط من رحمة الله وبث اليأس في القلوب، فكل يوم جديد فرصة لعمل جديد: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)} [الفرقان]، ويقول رسول الله: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله) «سنن الترمذي» (2330). فلنصحح النية، ولنعقد العزم على أن نكون بعون الله ممن يحسن العمل كلما طال به العمر، ولا نكون ممن يسيء العمل رغم مرور الشهور والسنوات التي هي حجَّة عليه يوم القيامة. ورغم ما في الحياة من مشقات، ومتاعب وآلام، فهي فرصة للزيادة في رصيد الآخرة، لهذا لا يجوز للمسلم أن يتمنى الموت يأسًا وقنوطًا، أو تشاؤمًا وضعفًا، يقول رسول الله: (لا يتمنينَّ أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب) «صحيح البخاري» (5349). يستعتب: أي يرجع عن الإساءة ويطلب رضى الله.

فتأملوا يا عباد الله: هذه النظرة الإيجابية ـ كما يسمونها اليوم ـ، إنها رؤية إيمانية تدرك أن هذه الدار دار عمل فإذا مات الإنسان انقطع عمله، وانتقل فيه إلى دار حساب ولا عمل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}.

فيا عباد الله: جدِّدوا التوبة، وقوِّموا المسير، وبادروا إلى الأعمال الصالحة، فهل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مُفسدًا، أو هرمًا مفنِّدًا، أو موتًا مُجهزًا، أو الدجَّال فشرُّ غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر. فالجؤوا إلى الله واسألوه أن يبارك في أعماركم، ويطيب آثاركم، والهجوا بالدعاء الذي كان يدعوا به نبيُّكم الكريم صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كلِّ خير، واجعل الموت راحة لي من كلِّ شر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسمات فاستغفروه وتوبوا إليه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد