عاشوراء يوم النصر والشكر

عباد الله: إنَّ أعظم ما يميِّز المسلم في عقيدته وانتمائه، أنَّه لا يتَّبع دينًا خاصًّا بقومية من القوميات أو عِرق من الأعراق، أو بلد من البلدان، بل يتَّبع دينًا عامًّا من لَدُن رب العالمين إلى النَّاس أجمعين، أينما كانوا وحيثما حلُّوا، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ}. فهو دين يمتدُّ زمانه من أول يوم وطأت قدم آدم عليه السلام هذه الأرض وحتى آخر الزمان، ويمتدُّ مكانه إلى كل بقعة يصل إليها صوت الحق فيبلغ دين الله، وتُقام حجَّته على الخلق. لهذا فالمسلم يؤمن بأنبياء الله ورسله أجمعين، ويعتقد أنه لا ينفعه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع الكفر بأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قال ربنا سبحانه: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥)} [آل عمران].
نعم يا عباد الله: جميع رسل الله كان دينهم واحدًا ألا وهو الإسلام، لهذا كان الإسلام وصية الرسل لمن بعدهم، كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣)} [البقرة].
إخوة الإيمان: إنَّها والله لنعمة عظيمة أن يكون لدى المؤمن هذه العقيدة الجامعة، وهذه الرؤية الإيمانية الواسعة فهو يتبع دين مصدره واحد، وهو {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران]، واسمه واحد على مر العصور، واختلاف الرسالات والمرسلين، فهذا موسى عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)} [يونس]، وهؤلاء الحواريون يقولون لعيسى عليه الصلاة والسلام {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)} [آل عمران]، وكذلك غايته واحدة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، فهي دعوة إلى توحيد الله تعالى في العبادة والقصد والتوجه، وقد صدع بهذا كل واحد من المرسلين {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)} [الأنبياء]. فكان ذلك أول ما بدأوا به في دعوة أقوامهم، كما أخبر ربنا سبحانه عن كل من الرسل أنّه افتتح دعوته بأن قال لقومه: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فكان توحيد الله عز وجل بالعبادة والإخلاص والقصد والتوجه، القضية الأساس والرئيس في مخالفتهم لهم، وبسببه كُذِّبوا وأوذوا، فالصراع والمواجهة بينهم وبين أقوامهم، إنما كان بسبب هذه القضية، لا لأي سبب آخر. لهذا قصَّ علينا ربنا في كتابه من قصصهم مع أقوامهم ما فيه عبرة وعظة وتنبيه على منزلة توحيد العبادة وأهميته، وفي تلك القصص أسوة حسنة، وقدوة للموحِّدين وتثبيت وتسلية لهم، وتذكير بعاقبة الإيمان والصبر والثبات والتضحية في سبيل الله، وما أعدَّ الله لأوليائه من الفوز والنجاة، والتحذير من عاقبة الشرك والكفر والعناد، وما أعدَّ الله لأعدائه من خزي الدنيا والاخرة.
عباد الله: إنَّنا في هذه الأيام بين يدي يوم عظيم من أيام الله تعالى، يوم انتصر فيه الإيمان على الكفر، والعدل على الظلم، والنبوة والرسالة على الجحود والاستكبار، إنَّه يوم عاشوراء؛ يوم نجى تعالى فيه موسى عليه الصلاة والسلام وقومه من فرعون وجنوده، ولم تكن ثمَّة فرصة للنجاة، حتى {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١)} [الشعراء]، البحر من أمامنا وفرعون وجنوده من خلفنا، قال موسى: { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨)} [الشعراء].
إخوة الإيمان: يوم عاشوراء يوم من أيام الله، إنَّه ليس عيدًا من أعياد المسلمين، ولا هو يوم لإظهار الفرح والسرور والزينة، ولكنه أيضا ليس يوم حزن، يوم عاشوراء ليس يوم حزن وعزاء ونوح ولطم وصراخ وبكاء وعطش، وإنشاد للمراثي وما يفضي إليه ذلك من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف هذه الأمة ولعنتهم، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب حتى يُسبَّ السابقون الأولون، وتُقرأ الأخبار الكاذبة قصدًا للفتنة والفرقة بين الأمة، لكن يوم عاشوراء يوم حمد لله عز وجل، يوم شكر لله سبحانه على ما منَّ به على موسى عليه الصلاة والسلام، وعلى قومه من الفوز والنجاة، ونحن المسلمين أحق الناس بموسى، لهذا شُرع لنا صوم يوم عاشوراء. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله: ما هذا اليوم الذي تصومون فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله وأمر بصيامه). «صحيح مسلم» (1130). ولما كان القصد من صيام يوم عاشوراء الشكر لله على نجاة موسى عليه السلام والمؤمنين معه وليس موافقة اليهود في دينهم، شُرع صوم التاسع والعاشر مخالفة لليهود. كما أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا يا رسول إنَّه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع، أي التاسع مع العاشر، قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم». (1134)
عباد الله: احرصوا على صوم يوم عاشوراء، وصوموا يومًا قبله، ومن فاته أن يصوم يومًا قبله، فليصُم يومًا بعده، احتسبوا في ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل. فقد قال نبيكم الكريم صلوات ربي وسلامه عليه: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله). «أخرجه ابن ماجه» (1738).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه.
- لا يوجد تعليقات بعد