موقع الشيخ عبد الحق التركماني - نفي الغلو في المسيح عليه السلام

/ 2 تموز 2025

للتواصل 00447432020200

نفي الغلو في المسيح عليه السلام

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 24 كانون الأول 2010 664

عباد الله: فقد منَّ الله على البشرية ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، قد تاهت البشرية في قبائح الشرك والوثنية، وضلَّت بتحريف الدين والكتب وتفرق أهلها، فجدَّد الله بهذا النبي دين التوحيد، وأنار سبيل الحقِّ والهدى، وأقام العدل، ونفى الغلو، وكشف الزيف والتحريف، فتمَّ بنيان النبوة على أحسن وجهٍ. وإنّ من أعظم محاسن الوحي المحمدي ـ وكل ما فيه حق وحسن ـ أنه قرَّر العقيدة الصحيحة في المسيح عيسى ابن مريم، بلا إفراط أو تفريط، وبلا غلو أو إجحاف، بل أعادها إلى الصورة المطابقة للحقيقة والواقع، فقد غلا قوم في المسيح حتَّى قالوا فيه: ابن الله، وثالث ثلاثة، وجفا عنه آخرون فقالوا: كذاب وابن زنى. فغلا أولئك في المدح وغلا هؤلاء في الذم، لأن الغلو مجاوزة الحد، بأن يزاد في الشيء، في حمده أو ذمه على ما يستحق، فما أنصف هؤلاء ولا هؤلاء، وجاء الإسلام بالحقِّ، والحقُّ منصف عادل، وسط بين الغلو والجفاء: فأول ذلك أنه جعل من أركان الاعتقاد وأصوله الإيمان بأن عيسى ابنَ مريم عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول، لهذا ففرض على كل مسلمٍ أن يؤمن بالمسيح نبيًّا رسولاً ويحبَّه ويحترمه ويقدره، وكذلك أمه الطاهرة الطيبة مريم البتول صلوات الله وسلامه عليها وعلى ابنها، فاعتقاد الشرف والطهارة والكرامة فيها من أصول ديننا، وقد خصها الله تعالى بسورة في القرآن تسمى باسمها، وفي سورة آل عمران سياق طويل في بيان خبرها وخبر ابنها، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)} [آل عمران]، وهي الصديقة في أقوالها وأفعالها قال الله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} [المائدة: ٧٥]. وفيها أيضًا: إقامة الحجة على أن خلق المسيح آية من آيات الله الدالة على كمال قدرته وعظيم حكمته، حيث ولد من أم من غير أب، كانت ولادته بكلمة (كُنْ)، فالكلمة ليست المسيح ولكن بها خُلق من غير أب، لهذا يضاف إلى كلمة الله إضافة تشريف وتكريم فيقال عنه: كلمة الله، ولكنه ينسب إلى أمه لأنه ولد منها حقيقةً، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)} [آل عمران]، وإذا كان المسيح من أم بلا أب، فلا عجب، فإن آدم من غير أب ولا أم: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران].

 لهذا فعقيدتنا نحن أهلَ الإسلام: أن عيسى عبدُ الله ورسوله، فلم يدّع عيسى في يوم من الأيام أنه الربُّ أو ابن الرب، ولا أمر بأن يتَّخذ إلهًا، حاشى لله، بل كانت أول كلماته في المهد: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)} [مريم]، وهذه نسخ الإنجيل بين أيدي الناس اليوم، رغم ما أصابها من تحريف وتبديل، لا يوجد فيها نصٌّ صريحٌ واحدٌ بأن المسيح عليه السلام هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، بل إنها تحتوي على نصوص كثيرة جدًّا تدل بصراحة على أنه بشر، وقد وصف بالإنسان أو ابن الإنسان أكثر من سبعين مرة في الأناجيل. فالإسلام قد جاء بإبطال عقيدة النصارى في الغلو في المسيح، فدعاهم إلى القول الوسط العدل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ، انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)} [النساء].

سبحان الله، يا لها من آيات عظيمة، وموعظة جليلة، ووصية ربانية تهدي العقول وتحيي القلوب، وتنفي كل غلو وباطل وضلالة. وقد سبقت في هذه السورة وهي سورة النساء آيات أخرى في إبطال دعوى اليهود بأنهم صلبوا المسيح، فنفتْ قتله وصلبَه، وأثبتت علو منزلته وكرامته عند ربه بحفظه ورفعه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)} [النساء]. فهذه الآيات قد استقام الميزان، ووضع الحق في نصابه وموضعه.

عباد الله: إن في قصة المسيح آياتٍ وحكمًا وعبرًا كثيرة، وإن في احتفال النصارى بولادة المسيح وما يتبع ذلك من أعيادهم لفرصةً مناسبةً لأن نبيِّن معتقدنا في هذا النبي العظيم. وكذلك أن نستحضر درسًا إيمانيًّ مهما: فندرك خطر الغلو في الأنبياء والصالحين، فإن النصارى ما زالوا يغلون في نبيهم الكريم حتَّى زعموا أنه ابن الله، وهكذا في هذه الأمة: غلا قوم في النبي وفي بعض آل بيته وبعض الصالحين: حتى صاروا يعتقدون فيهم النفع والضر والتصرف في الكون وكشف الحاجات واستجابة الدعوات، لهذا يتوجهون إليهم بأعظم العبادات: الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله وحده، لهذا حذَّرنا النبيُّ من الغلو فيه أعظم التحذير، فقال: (لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم فإنّما أنا عبده، فقولوا : عبد اللّه ورسوله) «صحيح البخاري» (3261). والإطراء: المبالغة ومجاوزة الحد في المدح والثناء. وقال في حديث آخر: (إياكم والغلو في الدين، فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين) «سنن ابن ماجه» (3029).

فالحمد لله الذي هدانا إلى الصراط المستقيم، والدين الوسط البريء من الغلو في الاعتقادات والعبادات والمعاملات والسلوك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} [النساء].

هداني الله وإيَّاكم إلى صراطه المستقيم ودينه القويم وثبَّتنا على ذلك إنَّه جواد كريم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد