شروط لا إله إلا الله: المحبة
عباد الله: نحن اليوم مع الـشـرط الـسادس من شروط شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أيضًا شروط شهادة أن محمدًا رسولُ الله، نحن اليوم مع شرط المحبة لهذه الكلمة ولما دلت عليه والسرور بذلك. يقول ربنا سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} فأخبر الله تعالى عن المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادًا، والندُّ هو الشبيه والنظير والمثيل، أي أنهم يعبدون من دون الله الأصنام والأوثان أو الموتى والقبور والمقامات والمزارات، أولئك المشركون يحبون معبوداتهم حب عبادة وتذلل، لكن الذين آمنوا بالله وحده، ولم يشركوا به شيئًا، هؤلاء المؤمنون الصادقون هم أشدُّ حبًّا لله، هم أكثر وأعظم وأبلغ حبًّا لله عز وجل من حبِّ أولئك لأصنامهم وأوثانهم وقبورهم، كما أن حبَّ المؤمنين لله أشدُّ وأعظم من حبِّ المشركين لله، لأنَّ المشركين يحبون الله ويحبون غيره، فيشركون في محبة الله محبةَ غيره من المعبودات، أما المؤمنون الصادقون فهم أشد وأعظم حبًّا لله، لأنهم يحبون الله وحده، يفردون الله تعالى بمحبة العبودية، فلا يشركون بمحبته أحدًا، فهم أشدُّ حبًّا لله من غيرهم، فمحبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلًا، كما لا يماثلَ محبوبهم غيرُه.
وقال ربنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
هذه آية عظيمة يخبر تعالى فيها أنه الغني عن العالمين، وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئًا، وإنما يضر نفسه، وأن لله عبادًا مخلصين، ورجالًا صادقين، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم، وأنهم أكمل الخلق أوصافًا، وأقواهم نفوسًا، وأحسنهم أخلاقًا، أجلُّ صفاتهم أن الله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبدًا يسر له الأسباب، وهوَّن عليه كل عسير، ووفَّقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما: عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
فبيَّن النبيُّ في هذا الحديث العظيم، الذي هو أصل من أصول الإسلام ـ كما قال العلماء ـ أن العبد لا يجد حلاوة الإيمان ـ أي لذة الإيمان، وطعم الإيمان ـ لا تحصل له حلاوة الإيمان إلا إذا اجتمعت في قلبه هذه الأمور الثلاثة:
الأمر الأول: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما. وهذا أعلى درجات المحبة، هذا تكميل للمحبة وبلوغ بها إلى درجة الكمال بحيث يحب الله ورسوله أعظم الحب وأكمله وأشده، فلا يجد حلوة الإيمان ولا يذوق طعمه إلا بتكميل هذه المحبة. أما أصل المحبة فهي موجودة عند كل مؤمن، كل مسلم صحيح الإسلام فلا بدَّ أنَّ في قلبه أصل المحبة لله ولرسوله، وإن كان قليلاً وضئيلاً، لكنَّ المؤمنين تتفاوت درجاتهم في محبة الله ومحبة رسوله، فلا يجد حلاوة الإيمان إلا من استكمل هذه المحبة بحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
والأمر الثاني: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وهذا من آثار محبة الله وثمارها، فمحبة المرء إن كانت لله فهي من محبة الله، وإن كانت لغير الله فهي مُنقِصَة لمحبة الله، مضعفة لها. فهذا المؤمن الصادق لكمال محبته لله أصبحت علاقاته مع الناس قائمة على أساس محبة الله، إنه يحبُّ من يحبُّ الله ورسوله تقربًا إلى الله وابتغاء لمرضاته، ليس لمصالح دنيوية زائلة، ولا لدوافع مادية محدودة، بل هي المحبة الأخوية الخالصة لله وفي الله وبالله.
والأمر الثالث: وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار. فهو لشدة محبته لله ولرسوله يدفع ما يضادُّ هذه المحبة، فهو يكره الكفرَ بجميع أسبابه وصوره وأحواله، لأن هذه المحبة والكفرَ لا يجتمعان في قلب واحد، لهذا فهو يكره ضدَّ الإيمان أعظم من كراهته الإلقاء في النار. وهذا دليل على صدق المحبة، وعلى ثباتها وقوتها، فهو يحب الله، ويعلم أن الكفر هو أبغض الأشياء عند الله، فهو يكره ما يكرهه الله، بمنزلة كراهته لإلقائه في النار، أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدِّم على محبة نفسه وحياته شيئًا، فإذا قدَّم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خُيِّر بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار، ولا يكفُرَ: كان الله أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده سائر العشاق والمحبين من محبة محبوبهم، بل لا نظير لهذه المحبة، كما لا مِثْلَ لمن تعلَّقت به وهو الله عز وجل، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال اللذة والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرًا وباطنًا، وهذا لا نظير له في محبة مخلوق، ولو كان المخلوق من كان، ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركًا شركًا لا يغفره الله عز وجل.
عباد الله: إن محبة الله قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة: أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة. هذه المحبة ليست دعوى مجردة، ولا أمنية كاذبة، بل لها دليلها وبرهانها، وهو اتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فإذا غُرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص، ومتابعة الحبيب: أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى، لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه، لا يحجبه دونه شيء: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
إخوة الإيمان: إن لمحبة الله ومحبة رسوله أسبابًا جالبة لها، وموجباتٍ تستلزمها، ولها علاماتها وشواهدها، وثمراتها وأحكامها، وهذه مسائل مهمة ينبغي على المسلم أن يتعلمها ويتفقه فيها، وللكلام فيها مناسبات أخرى إن شاء الله تعالى.
- لا يوجد تعليقات بعد