شروط لا إله إلا الله: الإخلاص
عباد الله: نحن اليوم مع الشرط السابع والأخير من شروط كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وهو شرط الإخلاص، وهو من أجل الشروط وأعظمها، فهو الركن الركين، والأصل الأصيل، بل هو شرط لكل شرطٍ، فلا ينفع العلم، ولا اليقين، ولا القبول ولا الانقياد، ولا ينفع الصدق، ولا المحبة، إلا بالإخلاص لله وحده. الإخلاص المنافي للشرك والنفاق والرياء.
وقد بيَّن الله تعالى شرط الإخلاص في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فقال ربنا عز وجلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي: أَخْلِصْ لله تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد اللّه وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد. ثم قال سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} فهذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به.
وبيَّن الله تعالى أن العيادة التي خلقنا من أجلها وأمرنا بها لا بد أن تقترن بالإخلاص فقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}.
وأمر نبيِّه الكريمَ أن يبيِّن للناس أجمعين أنَّ العبادة التي أمره الله تعالى بها هي العبادة الخالصة لله وحده، فلا شرك ولا رياء: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي}.
وبيَّن ربنا عز وجلَّ أن علاج النفاق في الاعتصام بالله وإخلاص الدين له: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} وغير ذلك من الآيات الكريمة.
وكذلك بيَّن هذا الشرطَ نبيُّنا الكريم في أحاديث مشهورة، ففي صحيح الإمام البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَّ منك لما رأيتُ من حرصك على الحديثِ: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه).
وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل".
وفي جامع الترمذي بإسناد حسن: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قال عبد لا إله إلا الله قطُّ مخلصًا إلا فتحتْ له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبِ الكبائرُ).
عباد الله: حقيقة كلمة الإخلاص في لغة العرب هي تخليص الشيء وتجريده من غيره، فالشيء يسمَّى خالصًا إذا صفا عن الشوائب وخلُص منها، كما قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}، فاللبن الخالص ما سلم وصفا من الدم والفَرْث، ومن كل ما يشوبه ويكدِّر صفاءه. ومن هنا فإن المقصود بالإخلاص في الآيات والأحاديث المتقدمة: تصفيةُ النيات والأقوال والأعمال التي يراد بها ثوابُ الله ومرضاته، وتجريدها من كل شائبة تكدِّر صفاءها، وخلوصها له سبحانه بالتوحيد الخالص الذي لا يخالطه شرك ولا نفاق ولا رياء ولا سمعة. الإخلاص هو النية الصالحة النقيَّة من شوائب الشرك والرياء، الإخلاص: هو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك والرياء.
إخوة الإيمان: الإخلاص من أعمال القلوب، فمحل الإخلاص القلب، فهو حصنه الذي يقطن فيه، فمتى كان صالحًا عامرًا بسكناه وحده تبع ذلك صلاح الجوارح، ومتى كان خرابًا سكن فيه الرياء وملاحظة الناس، وكسب ودهم، وتحصيل ثنائهم، والطمع فيما عندهم، ويتبع ذلك سعي الجوارح لتحصيل هذه الأغراض الدنية. والإخلاص مطلوب في الأعمال كلها في الصلاة والصيام والزكاة والحج وفي كل ما شرعه الله من قول أو فعل، فيقوم الإنسان بتأدية ما شرع له، والباعث له عليه امتثال أمر الله خوفاً من عقابه، وطمعاً فيما لديه من الأجر والثواب.
الإخلاص ـ يا رعاكم الله ـ هو أساس النجاح والظفر بالمطلوب في الدنيا والآخرة، فهو للعمل بمنزلة الأساس للبنيان، وبمنزلة الروح للجسد، فكما أنه لا يستقر البناء ولا يُتمكَّن من الانتفاع منه إلا بتقوية أساسه وتعاهده من أن يعتريه خلل فكذلك العمل بدون الإخلاص، وكما أن حياة البدن بالروح فحياة العمل وتحصيل ثمراته بمصاحبته وملازمته للإخلاص، وقد أوضح ذلك الله في كتابه العزيز فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ, وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، ولما كانت أعمال الكفار التي عملوها عارية من توحيد الله وإخلاص العمل له سبحانه جعل وجودها كعدمها فقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}. والإخلاص أحد الركنين العظيمين اللذين انبنى عليهما دين الإسلام، وهما إخلاص العمل لله وحده وتجريد المتابعة للرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، قال: "أخلصُه وأصوبُه". قيل: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان على السنة. وقال شارح الطحاوية: "توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما؛ توحيد المرسل سبحانه وتوحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, فيوحده صلى الله عليه وسلم بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان, كما يوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل".
فعليكم يا عباد الله بتحقيق الإخلاص لله عز وجل في نياتكم وأقوالكم وأعمالكم وموافقة السنة فيها، فبالإخلاص تنالون الرضى والقبول، وبالإخلاص ترزقون الثبات والاستقامة وحسن الخاتمة، وبالإخلاص يحفظكم الله من غواية الشيطان وتزيينه، فقد قال إبليس اللعين: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فقال ربنا سبحانه: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ يعني: إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته، فإن ذلك ممن لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به. وفي قراءة أخرى: (إلا عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصِينَ) يعني إلا من أخلص طاعتك، فإنه لا سبيل لي عليه.
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم الإخلاص في النية والقول والعمل.
- لا يوجد تعليقات بعد