مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل

فيا عباد الله: اتَّقوا الله حق التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أنَّ مراجعة الحقِّ خير من التمادي في الباطل، هذه حكمة عظيمة نطق بها فاروق هذه الأمة أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتابًا في أحكام القضاء، قال فيه عمر رضي الله عنه: (لا يمنعك قضاءٌ قضيته بالأمس، راجعت فيه نفسك، وهُديت فيه لرشدك أن تراجع الحقّ، فإنّ الحقّ قديمٌ، وإنّ الحقّ لا يبطله شيءٌ، ومراجعة الحقّ خيرٌ من التّمادي في الباطل) «جامع بيان العلم وفضله» (1751)، ومراجعة الحقّ خيرٌ من التّمادي، أي من المداومة والاستمرار في الباطلِ. فيا لها من نصيحة جليلة، وكلمة هادية، تضيء الطريق لكلِّ مريد للخير، حاكمًا كان أم محكومًا، أستاذًا كان أم تلميذًا، شيخًا كان أم شابًّا، كبيرًا كان أم صغيرًا، فكلُّ إنسان معرَّضٌ للخطأ والزلل، وقد يخالف الإنسانُ الحقَّ ويضلُّ عنه، بل قد يحاربه ويعاديه، ويحارب حملته ودعاته ويعاديهم: بسبب الجهل والتقليد والتعصب والانخداع بأهل الانحراف والفساد في العقائد أو في الأعمال والسلوك والأخلاق، فإن بلغه الحقُّ، وتعلمه بعد جهل، وتنبَّه إليه بعد غفلة: فالواجب عليه أن يسارع إلى الرجوع إليه، والخضوع له، توبة خالصة لله عزَّ وجل، وبراءة للذمة أمام الناس، وهذا من صفات المؤمنين المتقين الصادقين، كما قال ربُّنا العليُّ سبحانه في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣)} [الفرقان]، أي لم يقابلوا آيات الله التي فيها الحقُّ والخير والهدى والرشاد بالإعراض عنها، والصمم عن سماعها، وصرف النظر والقلوب عنها، كما يفعله من لم يؤمن بها، ولم يصدق، وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)} [السجدة]، يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها، وتجد عندهم آذانًا سامعة، وقلوبًا واعية، فيزداد بها إيمانهم، ويتم بها إيقانهم، وتحدث لهم نشاطًا، ويفرحون بها سرورًا واغتباطًا. ومسارعتهم إلى السجود دليل على تواضعهم وخضوع قلوبهم للحق، لهذا نفى الله تعالى عنهم الكبر: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} لأن الاستكبار من أهم موانع قبول الحقِّ والرجوع عليه، لأن عند المتكبِّر من الترفُّع والأنفة ما يمنعه أن يتواضع للحقِّ، لهذا يردُّه ويدفعه وإن كان في ذلك هلاكُه، كما هو الحال مع سيد المستكبرين وإمامهم: إبليس، الذي استكبر عن السجود لأبينا آدم عليه الصلاة والسلام، مع أن الملائكة رغم رفعة شأنهم، ونفاسة أصلهم؛ سجدوا، كما قال ربنا سبحانه: {وإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة]. وكم أهلك هذه الصفة الذميمة: صفةُ الكبر من الإنس والجن، فبسببه هلك أبو جهل وأبو لهب وأبو طالب وغيرهم من قوم رسول الله محمدٍ، وقد عرفوا صدقه وأمانته وسموَّ أخلاقه وصدق دعوته، لكنهم ترفَّعوا عن قبول الحقِّ عمَّن رأوه أقلَّ منهم شأنًا في السنِّ والسيادة والمال والجاه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف] أي: معظَّم عندهم، مبجَّل من أهل القريتين: من أهل مكة، أو أهل الطائف، كالوليد بن المغيرة ونحوه، ممن هو عندهم عظيم وليس هو بعظيم في الحقيقة. قال الله ردًّا لاقتراحهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} أي: أهم الخزَّان لرحمة الله، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة من يشاؤون، ويمنعونها ممن يشاؤون؟ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} [الزخرف]. فمن علم أن العلم والفضل وإصابة الحقِّ والسبقَ إليه من فضل الله وجوده: لم يتكبَّر على من ميَّزه الله عليه بهذه الصفات فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فمَنْشئُ الكبر: استحقار الغير وازدراؤه واستصغاره، ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بهاتين الآفتين: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: «لا يدخل الجنةَ من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: إنَّ الله جميل يحب الجمال، الكبر: بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس» (147). بطر الحقِّ: أي التكبر على الحق فلا يقبله ولا يخضع له، وقد يتَجبَّر عند الحقّ فلا يراه حَقًّا. وغَمْط الناس: أي الاسْتِهانة والاسْتحْقار للناس، فلا يعرف لأهل العلم منزلتهم، ولا لأهل السابقة سابقتهم، ولا لأهل الفضل فضلهم، ولا لأهل الإحسان إحسانهم، وينظر إلى الناس بترفع. لهذا قال الإمام مجاهد رحمه الله: (لا يتعلم العلم مستحي ولا متكبر) «صحيح البخاري» 1/60.
إخوة الإيمان: وتقترن بصفة الكبر صفة أخرى ذميمة وهي الحسد، والكبر مادة للحسد، كما أن الحِقْد من مواده، فمن ابتلي بالحسد لا يقبل الحقَّ ولا يخضع له، وبسبب الحسد كفر من كفر من أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذي تبيّن لهم صدق النبي، حتَّى أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، لكن الحسد قد أعمى أبصارهم كما قال ربنا سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة].
عباد الله: هذه موعظة وتذكرة، ودعوة مخلصة؛ لكلِّ من ضلَّ عن الحقِّ، وتاه في سبل الباطل والغي، إما لجهله بالحق، وإما لانخداعه بالدعوات الضالة والمناهج المنحرفة، وتقليده لأهلها، وإما لبغيه على عباد الله تعالى بمعاملتهم بغير الحقِّ، بالتعدي والظلم وسوء الأخلاق؛ ثم لاحت معالم الحق، وظهرت آياته ودلائله، وميَّز الله بحكمته وحسن تدبيره بمرِّ السنوات وتقلُّب الأحوال المحقَّ من المبطل؛ أن يعجِّل بالتوبة والإنابة إلى الله عز وجلَّ فإن كلَّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون، والله تعالى يحب التوابين، إنه هو التواب الرحيم، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)} [الشورى]. ومن شروط قبول التوبة: الإصلاح بعد الفساد، والعدل بعد الظلم من غير مراوغة ولا مكابرة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة]، ولا يكون ذلك إلا بالتواضع للحقِّ وأهله، فيرجع الوالد إلى الحق أمام أولاده، وربُّ العمل أمام عمَّاله، والجار أمام جاره، والصديق أمام أصدقائه، فلا يستنكف أحدٌ عن الرجوع للحقِّ والاعتراف بالخطأ والتقصير. هكذا علمنا ديننا الحنيف: يقرُّ المسلمُ بالحقِّ ولو على نفسه، ويقرُّ لأهل الحقِّ بحقِّهم ويعرف فضلهم ومنزلتهم وسابقتهم، ويطهِّر قلبَه من الكبر والحقد والحسد. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام]. أعاذني الله وإياكم من سبيل المجرمين الذي يصرون على الباطل ويردون الحقَّ ويحتقرون الخلق، وجعلني وإياكم من أهل الحقِّ الذي يسمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات.
- لا يوجد تعليقات بعد