ميزان التوحيد وموازين أخرى

ما هو ميزان معرفة الناس عند المسلم؟ فالناس يختلفون في موازينهم وفي نظرتهم إلى غيرهم، فبعض الناس العبرة عنده: بأن يكون الإنسان نافعًا في مجتمعه ومفيدًا لغيره. فميزانه ميزان نفعي. وبعض الناس العبرة عنده: أن يكون الإنسان حسن الأخلاق كريم الطباع محسنًا إلى غيره. فميزانه أخلاقي. وبعض الناس العبرة عنده بالمال والجمال والشكل والمظهر. فميزانه مادي ظاهري. وهكذا تختلف موازين الناس. فما هو الميزان الحق للقرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة الذي يجب على كلِّ مسلم أن يزن به الأشخاص. هذا الميزان ـ يا عباد الله ـ هو التوحيد الخالص لله تعالى في العبادة، والإيمان الصحيح بدين الإسلام الحق، والعمل الصالح بما جاء به محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. أما الموازين الأخلاقية والنفعية والمادية فإن الإسلام لم يلغها ولم يُبطلها، فهي معتبرة محترمة لكن بشرط الإيمان والعمل الصالح. تعالوا إخوةَ الإيمان نذكر الأدلة والشواهد على هذا الأصل العظيم:
أما أنَّ الإسلام لم يلغ الميزان الأخلاقي فهذا مما لا شكَّ فيه، كيف لا وقد قال: (إنما بعثت لأتمَّ صالح الأخلاق) «مسند أحمد» (8952)، وقيل (يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم. فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألون خيارُهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهُوا). «صحيح البخاري» (3175)، وقال: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) «سنن الترمذي» (2003).
وأمَّا أنَّ الإسلام لم يلغِ الميزان النفعي؛ فهذا أيضًا لا شكَّ فيه، لأنَّ الإنسان إذا نفع الناس بماله أو علمه أو عمله أو جاهه جزاه الله عن فعله خيرًا، وإذا كان سبب ضررٍ وشرٍّ على الناس استحق من الإهانة والعقوبة في الدنيا والآخرة بقدر عمله. يقول الله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣)} [النساء]، وقال رسول الله: (ألا أخبركم بخيركم من شركم؟ قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل : بلى يا رسول الله أخبرنا بخيرنا من شرنا. قال: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره) «سنن الترمذي» (2263). وفي الحديث الحسن: (خير الناس أنفعهم للناس) «السلسلة الصحيحة» (426).
وأمَّا أنَّ الإسلام لم يلغ الميزان المادي الشكلي، فهذا أيضًا مما تدل عليه الشريعة، ففي قصة طالوت: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)} [البقرة]، وقال رسول الله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) «صحيح البخاري» (1361). و(إن الله جميل يحب الجمال) «صحيح مسلم» (147).
لكن هذه الموازين كلَّها مشروطة بميزان التوحيد والإيمان، فكل الحسنات والفضائل والخصائص الأخلاقية والعملية والمادية والاجتماعية لا قيمة لها عند الله تعالى يوم القيامة من غير توحيد له في العبادة، وإيمان بدينه، واتباع لرسله وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. يقول ربنا سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨)} [النساء]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٥)} [المائدة]، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وأخبرنا الله تعالى عن مصير من كفر بدين الإسلام ومصير الأعمال التي كان يعملها: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥)} [الكهف]. وبعض الناس قد ينخدع بكثرة العبادة والزهد في الدنيا لكن العبادة والزهد لا ينفعان إذا لم يكن معهما إيمان صحيح واتباع للدين الحق، وأخبر الله عن حال بعض العباد والزهاد يوم القيامة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (٢) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤)} أي قد عملت عملا كثيرًا، ونصبت فيه، وصُلِيَتْ يوم القيامة نارًا حامية. وذكر أهل العلم عند هذه الآية: أنه مرَّ عمر بن الخطاب بدير راهبٍ، قال: فناداه يا راهب فأشرفَ، قال: فجعل عمرُ ينظر إليه ويبكي، فقيل له يا أمير المؤمنين: ما يبكيك من هذا؟ قال (ذكرتُ قول الله عز وجل في كتابه {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (٣) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (٤)} فذاك الذي أبكاني) «تفسير ابن كثير» 8/385. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قلت يا رسولَ الله ابن جُدْعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين» (365). قال النووي: معنى هذا الحديث: أَنَّ ما كانَ يفعلهُ مِنْ الصِّلَة وَالإِطعَام وَوجُوه المَكَارِم لا يَنْفَعهُ في الْآخِرَة، لِكَوْنِهِ كافِرًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَمْ يَقُل رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين ) أَيْ لَمْ يَكُنْ مُصَدِّقًا بِالْبَعْثِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّق بِهِ كَافِرٌ وَلَا يَنْفَعهُ عَمَل. وَكَانَ اِبْنُ جُدْعَانَ كَثِيرَ الْإِطْعَام وَكَانَ اِتَّخَذَ لِلضِّيفَانِ جَفْنَة يُرْقَى إِلَيْهَا بِسُلَّمٍ، وَكَانَ مِنْ أَقْرِبَاء عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاء قُرَيْش، وَاسْمه عَبْد اللَّه. وَأَمَّا صِلَة الرَّحِم فَهِيَ الْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب.
ومن عدل الله تعالى أن الكافر لما كان محرومًا من ثواب عمله في الآخرة فإن الله يعجل له في الدنيا، فإن الكافر إذا كان من أهل البر والإحسان إلى الخلق، فلم يظلم أحدًا، ولم يقتل ولم يسرق ولا تعدَّى على حق أحد، بل وصل الأرحام، ورحم الضعيف، وساعد الفقراء، ورفق بالحيوانات، إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة التي يحبها الله تعالى، لكنه عمل تلك لأعمال وهو كافر فلم يرد بها وجه الله تعالى، فهذا حكمه أن الله تعالى يعجل له الجزاء في الدنيا، فيجزيه خيرًا في الدنيا بالصحة والعافية والمال والسمعة الطيبة، وثناء الناس عليه، فيجزيه الله تعالى في الدنيا خيرًا لأنه لا تنفعه أعماله يوم القيامة. قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (٦٠)} [الرحمن] وقال محمد بن الحنيفة والحسن: (هي مسجلة للبر والفاجر) «صحيح الأدب المفرد» (130)، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة. وهذا يدلُّ على أنَّ ميزان الأخلاق وحسن المعاملة والعدل والإنصاف والإحسان لا يبطل في هذه الحياة الدنيا مهما اختلفت الأديان والمعتقدات. لأنه لا بدَّ للناس من أخلاق وقيم يتعايشون بها ويتحاجزون بها، ثم أمرهم في الآخرة إلى الله عز وجلَّ: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية].
عباد الله: إذا علمنا هذا التفصيل، وتفقهنا فيه: أدركنا عظمة هذا دين الإسلام، واشتماله على كل خير وبر وصلاح وإصلاح، فأصله: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ومن هذا الأصل تنبت شجرة التقوى والأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة الزكية، وحسن الخلق والمعاملة مع الناس أجمعين: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يصحِّح لنا عقيدتنا ومنهاجنا وديننا، ويصلح لنا أعمالنا، ويبارك لنا فيها، ويجعلها موافقة لسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات.
- لا يوجد تعليقات بعد