التذكير بالرب القدير
إن من طبيعة الإنسان: تحكُّم أحوال قلبه فيه؛ سعادة وحزنًا، ضحكًا وبكاء، رضًا وغضبًا، كل ذلك بقدر تأثره بالأحاسيس والمشاعر الآنية الحاضرة... وهذا من عجائب النفس البشرية، فإنك تجد من مات له من يحبه ويألفه، كأحد والديه، أو زوجته، أو أبنائه؛ ينتحب بكاء، ويمتلئ حزنًا، حتى إنك لتشفق عليه أن يموت هو أيضًا من شدة ألمه وحزنه، فما هو إلا أيام معدودات ويعود إلى حالته الطبيعية، ويمارس حياته كأن شيئًا لم يكن.. فماذا حصل، هل نسي؟ هل اكتشف أنه كان على خطإ؟ لا! إنه يعلم ويذكر، لكن تلك المشاعر قد هدأت، وتلك الأحاسيس قد خفتت، وذلك القلب: قد اعتاد وألف الحدث... وهذا حال المسلم مع الإيمان وصلته بربه وباليوم الآخر... إنه يعلم، لكن العلم المجرد لا يكفي وحده، إنه في حاجة للتذكير الدائم، لتجديد الإيمان، وتنشيط حياة القلب: رقةً وخشوعًا، خوفًا ورجاء، محبة وخشية. فإن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. ولهذا كان التذكير من منهج القرآن، ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، التذكير ليس فقط لتعليم الجاهل، بل أيضًا لتنبيه الغافل، فأنتَ في حاجة إلى التذكير للتأثر والعظة، حتى تذهب عن قلبك الغفلة والنسيان، والغلظة والقسوة. والله مدح أهل التذكر فوصفهم بالعقل: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. وأخبر أنهم أهل التقوى الذين يحفظهم الله من غواية الشيطان: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. فالتذكُّر تجديد لصلتك بالله، يحفظك من الشيطان، ويعينك على التوبة والإنابة.
عباد الله: التذكير يكون بالآيات الشرعية، بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي، وقصص الأنبياء وأخبار العلماء والصالحين، وجميل كلامهم. بذكر الله عز وجل وأسمائه وصفاته، وعقوبته لأعدائه، ونعمته على أوليائه، وذكر الموت وما بعده من أحوال القبور، والبعث والنشور، والجنة والنار.
ويكون بالآيات الكونية: بالتأمل في أحوال الكون والحياة وما يحصل فيها من عجائب خلق الله عز وجل وتصرفه ودلائل عظمته وقدرته وحكمته وحسن تدبيره، وبما فيها الحوادث المختلفة والنوازل المتعاقبة؛ خيرًا كانت أو شرًا.
والتذكير يكون بالله تعالى ويكون بنعم الله سبحانه، والإنسان في حاجة لهذا ولهذا:
فقد أمرنا ربنا سبحانه أن نذكره ذكرًا كثيرًا، فقال عزَّ من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}. فهذا تذكير بالله العلي العظيم، بدعائه وحمده وتسبيحه وتلاوة كتابه.
وأمرنا سبحانه أن نتذكر نعمه وفضله وآلائه علينا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . وقال سبحانه مذكرًا بني إسرائيل بنعمه وآلائه عليهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، وأمر نبيه موسى أن يذكِّرهم بذلك فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. فإن تذكُّر نعم الله، واستحضار آلاء الله وفضله وإنعامه: يحمل على الصبر على عند المصائب والضراء، وعلى الشكر عند النعم والسرَّاء. لهذا كان من أنواع التذكير: التذكير بالابتلاء، الابتلاء بالمرض والمصائب والكوراث حتى ينتبه الإنسان من غفلته، وينكسر غروره واستكباره، فلعله يذكر ويتذكر، فيتوب ويرجع: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
والتذكير يكون بآيات الله الكونية، فكلُّ ما في هذا الكون من خلق وصنع وتدبير، وتقلب للأحوال، يذكّر بالله العلي العظيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} يعني هذه الأحوال التي ترونها من خروج الثمار، وظهور الأزهار، ونزول الأمطار، وتقلب الليل والنهار، وما فيها من جمال وهيبة وعظمة وجلال، كل ذلك يذكركم بالواحد القهار، ذي العظمة والجلال. وإنما يحتاج الإنسان أن يخرج من سجن العادة والألفة، فينظر إلى آيات الله في الآفاق والأنفس بعين معتبرة، وعقل مفكر، وقلب متدبِّر، وكأنه ينظر إليها لأول مرة في حياته.
فيا عبدَ الله: لا بد أن يكون التذكير والتذكر جزءً من حياتك اليومية، فهو من أعمال القلب، ووظائف اللسان، وأدواتك حواسك الخمسة بإعمال العقل وتفكره، وتأملوا هذه الآية: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}. كان رَسُولَ اللَّهِ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ. فركوب الدابة أو السيارة تصرف يومي معتاد، لكنَّه بالتزام هذا الأدب القرآني والنبوي يتحول إلى وسيلة من وسائل التذكير وتجديد الإيمان وتوثيق الصلة بالله عز وجل. وفي السنة النبوية كثيرٌ من الأذكار والآداب التي تربط المسلم بربِّه في أحواله المختلفة: فإذا رأى الهلال: قال: الله أكبر ربي وربك الله. وإذا مرَّ بالقبور تذكَّر الآخرة، وإذا أصبح ذكر أذكار الصباح، وإذا أمسى ذكر أذكار المساء، ويذكر ربه عند طعامه وشرابه ولباسه ونومه، وغير ذلك من أموره وأحواله، ففي كل ذلك تذكير عظيم، وتقوية للإيمان، وإحياء للقلب، وطرد للغفلة والشيطان.
فما أحوجنا ـ يا عباد الله ـ إلى مجالس التذكير، وإلى معاني التذكير، وإلى التدبر والتفكر في آيات الله الشرعية وآياته الكونية، وما أحوجنا إلى التزام الأذكار التي علمنا إياها رسول الله، فإن الله تعالى قد عاتب السابقين الأولين بهذه الآية إذ قال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. "ألم يأن" أي ألم يقرُب ويحِنْ، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين. وقال ابن عباس: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقال الحسن البصري: استبطأهم وهم أحب خلقه إليه. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الخاشعين لذكره، المنيبين إليه.
- لا يوجد تعليقات بعد