موقع الشيخ عبد الحق التركماني - هم الآخرة

/ 12 تموز 2025

للتواصل 00447432020200

هم الآخرة

نشرت بواسطة : إدارة الموقع 20 أيار 2011 3217

عباد الله: يولد الإنسان ولا يعرف شيئًا من هموم الدنيا إن جاع بكى بغريزته، فإن وُضِعَ سكت، فإذا كبر ودخل في سنِّ التمييز بدأت الهموم تتوارد عليه فهي في ازدياد مع الأيام والأعوام، فينشغل قلبه ويتكدَّر باله ويتشتَّت فكره بين هموم الحياة، همُّ الدراسة، وهمُّ العمل، وهمُّ الزوجة والولد، وهمُّ المال والمنزل، وهمُّ الأمن والاستقرار، وهمُّ المستقبل وتقلُّبات الأمور والأحوال، كلُّ ذلك يُورِد عليه كربًا وثقلًا وانشغالًا للقلب بالنية والعبادة والعزم والتفكير والاهتمام، فالهمُّ هو الكرب يحصل بسبب ما يتوقع الإنسان حصوله من أذى، وكلُّ إنسان في هذه الدنيا لا بدَّ من أمر يسعى إليه، ويهتمُّ به ويشغل باله، لهذا كان أصدق الأسماء حارث وهمام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصدق الأسماء حارث وهمام) «سنن أبي داود» (4950)، فالحارث بمعنى الكاسب، والهمَّام فعَّال من همَّ يهمُّ، فلا يخلو الإنسان عن كسب وهمٍّ بل عن هموم وهذه سنَّة الابتلاء، هذه سنَّة الابتلاء بهذه الحياة الدنيا وتفاصيلها، فهي دالَّة على قدرة الله عز وجل وحكمته ف {تَبَارَكَ ‌الَّذِي ‌بِيَدِهِ ‌الْمُلْكُ ‌وَهُوَ ‌عَلَى ‌كُلِّ ‌شَيْءٍ ‌قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ} ليبلوكم: ليختبركم ويمتحنكم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢)} [الملك].

عباد الله: العاقل الذي رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، وعلم أنَّ الدنيا مزرعة الآخرة وأنَّه واقف ولا بدَّ بين يدي ربِّه عزَّ وجلَّ فيسأله عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ ‌لَا ‌تَخْفَى ‌مِنْكُمْ ‌خَافِيَةٌ (١٨)} [الحاقة]. فلا بدَّ أن يكون همُّ الآخرة أكبر همومه، ولا بدَّ أن يتخفَّف من هموم الدنيا فكلُّ همٍّ دون همِّ الآخرة ضئيل وحقير، لأنَّ دار الدنيا دار زوال وانتقال واضمحلال، والار الآخرة دار جلال وجمال وكمال، الدنيا دار فناء والآخرة دار بقاء. واسمعوا لقول العزيز الحكيم: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ ‌لَهِيَ ‌الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)} [العنكبوت]. اللهو هو: الاستمتاع بلذات الدنيا، واللعب: العبث، سميت الدنيا بهما لأنها فانية زائلة، وإنَّ الدار الاخيرة لهي الحيوان أي: الحياة الدائمة الباقية والحيوان: بمعنى الحياة أي فيها الحياة الدائمة، لو كانوا يعلمون فناء الدنيا وبقاء الاخرة، ولكن أكثر الناس غافلون، فمن علم ذلك وأيقن ونوَّر الله عز وجل بصيرته وجمع عليه قلبه جعل الهم همًا واحدًا هم الآخرة، بالنجاة والفوز فيها ونيل جناتها ونعيمها، والوقاية من عذابها وجحيمها، عند ذلك يكفيه الله هم الدنيا فيطمئن قلبه، وتسعد أيامه ويصلح باله {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ‌أَلَا ‌بِذِكْرِ ‌اللَّهِ ‌تَطْمَئِنُّ ‌الْقُلُوبُ (٢٨)} [الرعد]. أخرج ابن ماجة في السنن وصححه الألباني عن زيد ابن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها، ومن كانت الاخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة» (4105). قال ابن القيم رحمه الله: (إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمَّه، وفرَّغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه، حمَّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال الله عز وجل: {وَمَنْ ‌يَعْشُ ‌عَنْ ‌ذِكْرِ ‌الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦)} [الزخرف]). ومصداق هذا فيما أخرجه ابن ماجه في السنن، وحسنه الألباني عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم همًا واحدًا، هم آخرته، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعَّبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبالِ الله في أي أوديتها هلك» (257).

إخوة الإيمان: إنَّ في جعل الهموم همًا واحدًا هم الآخرة، واجتماع القلب على مراقبة الله وخشيته، وإعداد العدة للوقوف بين يديه، صلاح للحياة الدنيا أيضًا، بل لا صلاح ولا إصلاح في الدنيا إلا فيما ابتغيت به الدار الآخرة، لأنَّ من يحكم قلبه وإراداته ونيته وعمله أمر الاخرة يؤدي الواجبات، ويجتنب المحرمات، ويسارع في الخيرات، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، يبرُّ والديه، ويصل رحمه، ويحسن إلى أهل بيته، يرعى أولاده ويحرص على تربيتهم وتنشأتهم على حبِّ الله ورسوله، يرحم الضعيف، ويعين المحتاج، ويتقن عمله، ويلتزم جانب الصدق والحقِّ والوفاء في معاملة الناس أجمعين مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ولا يضيِّع وقته ولا ماله فيما لا يعود عليه بالخير في دنياه وأخراه. فمن كانت الآخرة همّه سعى في إصلاح نفسه، وإصلاح عبادته لربه، وفي تقويم أخلاقه وسلوكه، وذلك صفة المؤمنين الصادقين {‌رِجَالٌ ‌لَا ‌تُلْهِيهِمْ ‌تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨)} [النور]. أولئك هم الأبرار الذي {يَشْرَبُونَ ‌مِنْ ‌كَأْسٍ ‌كَانَ ‌مِزَاجُهَا ‌كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (٦)} وقد كان حالهم في الدنيا أنهم كانوا {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (١١) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (١٢)} [الإنسان].

 فيا عباد الله: اِحذروا أن تشغلكم هموم الدنيا عن عمل الآخرة، واحرصوا على تجديد إيمانكم، وتوثيق صلتكم بربكم، واستعينوا على ذلك بالدعاء واللجوء إلى الله عز وجل، فقد علمنا نبينا الكريم أن نقول: (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا) «سنن الترمذي» (3502). ونقول: (اللهم إني اعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال) «صحيح البخاري» (2736). ودلنا على ما يذهب الهموم والأحزان فقال صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحدًا قطُّ هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا، قالوا يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) «مسند أحمد» (3712).

وعليكم يا عباد الله: عليكم بالاحتساب فيما أصابكم من الهموم، فانتظروا أجره وثوابه عند الله يوم تلقونه. فقد أخرج البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه» (5641). واجعلوا عدتكم في ذلك الصبر والصلاة، تنالوا معية الله بالحفظ والصون والرعاية والتوفيق، كما قال سبحانه: {‌وَاسْتَعِينُوا ‌بِالصَّبْرِ ‌وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥)} [البقرة]. لقد فاز الصابرون بعز الدارين، لأنهم نالوا من الله معيته، ومن كان الله معه فمعه القوي الذي لا يقهر، والعزيز الذي لا يغلب، والعدل الذي لا يظلم، والقيوم الذي لا ينام، والحي الذي لا يموت.

أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الذاكرين الشاكرين المخبتين، الذين شغلهم هم الآخرة عن هموم الدنيا بمنه وكرمه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد