ما هكذا يكون الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم

عباد الله: إنَّ غضب المسلمين لنبيِّهم الكريم محمد بن عبد الله، خاتم النبيين، وإمام المتَّقين، وسيِّد المرسلين، وحبيب ربِّ العالمين، فهو عبده المصطفى، ونبيُّه المجتبى، ورسوله المرتضى، صلوات ربي وسلامه عليه. إنَّ غضبهم له ضدَّ الإشاعات المتكررة، قولًا كانت أو كتابة أو رسمًا او تصويرًا او تمثيلًا. إنَّ غضبهم من حقائق الإيمان وموجباته، ومن دلائل المحبَّة والتعظيم ولوازمهما، ومن الحقوق الواجبة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على أمته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده، وولده، والناس أجمعين) «صحيح البخاري» (15). وهو أيضا من دلائل حياة هذه الأمة وقوتها، ولا خير في أمة لا تغار على مقدساتها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يغار، وإنَّ المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتيَ المؤمن ما حرم عليه) «صحيح مسلم» (2761). وهو أيضاً من المبشِّرات، بما أودع الله تعالى في هذه الأمة من عناصر القوة والدفع والمدافعة، رغم ما تعاني منه من ضعف وتفرُّق، وبُعد كثير من أبنائها عن العقيدة الصحيحة، والحياة الإسلامية القويمة، فلا شك أنَّ الله تعالى قد جعل الخير فيهذه الأمة إلى قيام الساعة.
نعم إخوة الإيمان: إنَّ الحماسة الإيمانية غضبًا لله عز وجل، والانتصار لدين الله عز وجل، أمر حسن محمود، بل هو حقٌّ واجب على كلِّ مسلم حسب العلم والقدرة والاستطاعة، ولكن ينبغي الحذر أشدَّ الحذر، والتَّيقُّظ أتم التَّيقُّظ من نوازع النفس الغضبية الأمَّارة بالسوء، ومن مسالك الشيطان المهلكة، ومن دوافع الجهل والهوى، ومن طرق البدع والضلالة، فتنقلب الحماسة الإيمانية إلى حميَّة جاهلية، ويكون الغضب لله عز وجل غضبًا للنفس وللقومية وللأمة، ويتحوَّل الانتصار لدين الله عز وجل بسبب الجهل والهوى إلى إساءة لدين الله، وانتهاك لحرمات الله، ونقض لعهوده ومواثيقه، وبدلًا من أن ينتصر المسلم لدينه الحنيف، ولنبيِّه الكريم، يردُّ الإساءة بمثلها. إنَّه يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر، وإلى دعوته ودينه من خلال أعماله القبيحة، وتصرفاته الطائشة. فاعلموا يا عباد الله اعلموا أنَّ الغضب والانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بالفوضى والتخريب والدمار، ولا بالغدر والخيانة، ولا بنقض العهود والمواثيق، واستهداف الأبرياء، وأخذ أمة كاملة بجريرة شخص أو أشخاص. لا والله إنَّ الانتصار الحق للنبي صلى الله عليه وسلم يكون باتباعه ظاهرًا وباطنًا حقًا وصدقًا، لا بالمظاهرات والهتافات والشعارات، بل باتباعه فيما جاء به من التوحيد الخالص لله عز وجل في العبادة، باتباعه بالقول والعمل والسلوك والأخلاق، وقد امتحن الله تعالى من ادعى محبته، امتحنه بالأمر باتباع حبيبه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢)}. إنه والله لامتحان كبير، لا ينجح فيه إلا من وفَّقه الله وأعانه وسدَّده، امتحان أن تحكِّم مشاعرك، وتضبط تصرفاتك بمنهاج النبوَّة وهدي السنَّة وأخلاق الإسلام، فلا يحملك الغضب والحماسة والاندفاع على ارتكاب ما لا يرضي الله عزَّ وجلَّ، وقد نجح الصحابة الكرام عليهم رضوان الله، نجحوا في هذا الامتحان العسير أعظم نجاح، ففازوا برضا الله تعالى، ولولا خشية الإطالة لذكرت لكم قصة صلح الحديبية، ففيها دروس وعبر عظيمة فقد رضي الصحابة بذلك الصلح مع المشركين رغم ما ظهر لهم فيها من هضم لحقوقهم، حتى أتى عمر رضي الله تعالى عنه نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وقال: (ألست نبيَّ الله حقا؟ قال بلى. قال: ألسنا على الحقِّ وعدونا على الباطل؟ قال بلى. قال: فلم نعطي الدَّنيَّة في ديننا إذن) «صحيح البخاري» (2581). ومع ذلك فقد رضوا بحكم الصلح كما أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتزموا به وتقيدوا بشروطه فكان ثمرة ذلك فتحًا عظيمًا وخيرًا كبيرًا.
عباد الله: لا يردُّ المسلمون على تلك الإساءات والتهم والشبهات التي يلصقها أعداء الاسلام بهذا الدين وبنبيه وكتابه، لا يردُّون بأحسن من أن يظهروا حقيقة دينهم، فيدعوا إلى الله عز وجل بالأقوال والأفعال، بالحُجَج والدلائل، بالسلوك والممارسة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)} [النحل]. ليعلم الناس جميعًا ما غرس هذا الدين في أتباعه من التوحيد الخالص لله، والاعتقاد الصحيح فيه، والعبادات التي فيها الهداية في الدنيا، والنجاة في الآخرة، والشريعة الكاملة التي فيها خير الدنيا، وسعادة الفرد والمجتمع، والأخلاق الفاضلة التي لا تستقيم الحياة إلا بها، ليعلموا أنَّ ديننا الحنيف يحرم الظلم والبغي والاعتداء، حتى في حال الحرب والعداوة، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)} [البقرة]. وإنه يأمر بالقسط والعدل والإنصاف، حتى مع الأعداء الحربيين {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} أي لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين الذين أخرجوكم من دياركم، وصدوكم عن زيارة المسجد الحرام، على أن تعتدوا عليهم بالقتل أو غيره {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)} [المائدة]. وليعلموا أيضا أنَّ الله تعالى حرَّم أخذ الجماعة بذنب رجل واحد {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وأنه سبحانه قد أمر بالوفاء بالعهد والمواثيق حتى في حال الحرب والعداوة {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨)} [الأنفال]. وإن قتل الأبرياء والآمنين، وقتل من دخل في بلاد الإسلام بأمان من أعظم المحرمات التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من قتل نفسا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإنَّ ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عامًا) «صحيح البخاري» (6516). وليعلموا أيضا أنَّ رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد جاءه رسولان مبعوثان من مسيلمة الكذاب فأساءا الأدب معه فقال لهما: (والله لولا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما) «مسند أحمد» (15989). فكيف بقتل السفراء والدبلوماسيين؟ فأين نحن يا أمة الإسلام؟ أين نحن من هدي القران والسنة؟ أين نحن من سيرة الكريم وأخلاقه؟ لو كنا صالحين مصلحين حقا، قائمين بهذا الدين قولًا وعملًا وسلوكًا هل كان الأعداء يجدون علينا سبيلا للتنقص والسخرية والاستهزاء؟ يقول ربنا سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، ويقول سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)} [آل عمران]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين والمسلمات
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وهو الكفيل بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اعزازا لمن آمن به وأقر، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالرحمة إلى جميع الخلق صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر.
عباد الله: أما تلك الإساءة لديننا ولنبينا ولعقيدتنا، فالواجب أن يتصدَّى لمواجهتها ومعالجتها أولو الأمر من أهل العلم والولاية، والمنظمات والمؤسسات الإسلامية بالطرق التي يرونها مناسبة، وليس من الشرع ولا من العقل أن يُزج المسلمون جميعهم في مثل هذه الأمور، فيحصل من الشر والفساد والفتنة والإساءة لسمعة الإسلام والمسلمين ما رأيتم بعضه خلال الأيام السابقة، والأيام حبلى وإلى الله المشتكى، فلابد أن يكون المسلمون تبعًا لعلمائهم وليس العكس، ولابد من تربية الناس على التحاكم إلى الكتاب والسنة، لا إلى الفكر والرأي والهوى، وتربيتهم على الرجوع لأهل العلم بالكتاب والصدور عن رأيهم، وألا يكون حال المسلمين في فوضى وضياع واتباع للشيطان، كما قال ربنا سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وهؤلاء هم أهل العلم يُرجع إليهم عند حلول الفتن {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣)} [النساء].
إنَّ علماء الأمة وعقلاءها يدركون أنَّ وراء حملات الإساءة أيادٍ خفية تريد جر الأمة إلى صراع دائم مع العالم الغربي، حتى لا يجد المسلمون فرصة للاستقرار يستغلونه في نشر دينهم، فإياكم وإياكم أن تُستفزوا وأن تجروا إلى حرب مفتوحة يراد منها تحجيم دعوة الإسلام واتهام دينكم، فلا علاج لهذه النازلة إلا بالصبر والثبات وضبط النفس، كما قال ربنا سبحانه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)} [آل عمران].
أخي المسلم اِحذر أشدَّ الحذر من القيام بدعاية مجانية لتلك الصور والأفلام المسيئة، من خلال إرسالها إلى الناس عبر وسائل الاتصال المختلفة، يصور لك الشيطان أنك تحذر منها والحقيقة أنك تشارك في الإساءة إلى نبيك الكريم، وتتعاون على الإثم والعدوان، وتخالف امر الله عز وجل بمجانبة أهل اللهو والباطل والابتعاد عنهم، وعدم مشاركتهم بأي وجه من الوجوه، كما قال ربنا سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠)} [النساء]، ويقول سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨)} [الأنعام] فليس من الدين ولا من العقل والمصلحة أنه كلما قام شخص أو جهة بنشر إساءة، أن يقوم المسلمون بالدعاية لها وترويجها فيحقق أولئك ما سعوا إليه من الشهرة والإثارة والتحريض، وهذا ما حصل أيام الرسوم المسيئة في الدنمارك، فانتشرت في كل أرجاء الدنيا انتشارًا مذهلًا بعد أن كانت مجهولة منبوذة، وهذا ما يحصل اليوم مع الفيلم المسيء بعد أن كان مجهولًا مهملًا ثلاثة أشهر، فأشهره بعض المسلمين وأذاعوه ولفتوا الأنظار إليه، وكان الواجب عليهم الإهمال والإعراض بالكلية كما فعل الصحابة وأئمة السلف مع إساءات المشركين، فقد كان بعض المشركين يقولون القصائد الطويلة في التنقص من النبي صلى الله عليه وسلم وذمه، فهل كان من الدين والعقل أن يأتي البخاري في صحيحه مثلا في ذكر أبواب في طعن المشركين في النبي، ويسوق قصائد طويلة كلها في السب والقدح والطعن في رسوله ودينه.
فالتزم أيها المسلم، التزم بما أمرك الله به وتأدب بما أدبك الله به، وكن من الذين مدحهم الله تعالى بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (٥٥)} [القصص]. اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
- لا يوجد تعليقات بعد