اجتماع الكلمة بالتوحيد والاتباع

إخوة الإيمان: إنَّ الله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته، وأمرنا بطاعته، فهذه هي الغاية التي خلقنا من أجلها، كما قال ربنا سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} [الذاريات]، ولهذا فإنَّ الله تعالى لم يأمرنا إلا بما نحقق به هذه الغاية التي خلقنا من أجلها، فقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، فاستجاب المؤمنون الصادقون لهذا الأمر الإلهي فوحدوه بالعبادة، ورددوا في كل صلاة يقيمونها بين يدي ربهم سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)}، نفردك يا رب بالعبادة فلا نعبد غيرك، ونفردك يا رب بالاستعانة فلا نستعين بغيرك، تلك هي دعوة الرسل التي بعث الله تعالى بها رسله الكرام، فأخبر عن كل واحد منهم أنه قال لقومه: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. ولهذا كانت الدعوة إلى توحيد الله في العبادة والإخلاص أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، فكان يقول للناس: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) «مسند أحمد» (16023)، ولذلك بدأ بإرسال كتبه ورسله، وبعث معاذًا إلى اليمن فقال له صلى الله عليه وسلم: «إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية (تدعوهم إلى أن يوحدوا الله)» «سنن أبي داود» (1584)، فكان ذلك هم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحط عنايته ودعوته، وكان ديدنه في كل وقت وزمان، وبذلك ختم دعوته وحياته الشريفة المقدسة، فختم حياته وهو في فراش الموت بالتحذير مما ينافي توحيد الله تعالى في العبادة؛ فحذَّرهم من ذرائع الشرك ومداخله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو في فراش الموت: (لعن الله اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، تقول عائشة رضي الله عنها يحذر مما صنعوا) «صحيح البخاري» (425).
عباد الله: إنَّ لإقامة حقِّ الله تعالى على الأرض بتوحيده في العبادة، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، إنَّ في ذلك من البركات والخيرات ما يعم الأرض جميعًا، وما تظهر آثاره وبركاته في الدنيا، يعجِّل الله بها على عباده الصادقين المؤمنين، قبل ما ادَّخر لهم في الآخرة من الجنات والنعيم، فمن ذلك اجتماع الكلمة والقضاء على أسباب الفرقة والشقاق والعصبية والقبلية والعنصرية، حيث يكون الناس جميعًا عبادًا لله الواحد الأحد، لا يستعلي الإنسان على أخيه الإنسان، بل يستشعر معنى العبودية لله، فينكسر قلبه ويتواضع، ويعلم أنَّ الجميع عباد متساوون أمام خالقهم.
وتأملوا يا إخوة الإيمان: تأمَّلوا حال العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كانوا على حال سيِّئة من التفرُّق والتشرذم والقبلية والتنازع والفشل، فببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وباستجابتهم لهذه الدعوة العظيمة، اجتمعت كلمتهم واتَّحد صفُّهم وقد عبَّر عن ذلك الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في كلمته العصماء العظيمة أمام النجاشي في الحبشة إذ قال له: (أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك الحال، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، وعدد عليه أمور الإسلام) «مسند أحمد» (1740).
فتأملوا يا عباد الله، تأملوا هذه الكلمة الجامعة، وما فيها من بيان أصل التوحيد والإيمان، ثم أصول شرائع الإسلام في العبادات والأخلاق، وكيف أنَّ جعفرًا رضي الله تعالى عنه قد ذكر محاسن الإسلام وخلاله الطيبة، فديننا جامع للمحاسن كلها، فيه خير الدنيا والاخرة. هذه الكلمة العظيمة تصلح أن تكون دستورًا لدعوة غير المسلمين في هذه البلاد، فهي جامعة للمقاصد الدينية، والمعاني الكلية التي بُعث بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمقصود أيها الأخوة أنَّ دعوة التوحيد هي التي جمعت كلمة العرب، وجعلتهم خير أمة أخرجت للناس، فخرجوا من جزيرتهم وعزلتهم يحملون الهدى والنور إلى مشارق الأرض، فكل ما في المسلمين من تفرُّق وشقاق، فسببه الإخلال بهذا التوحيد وحقائقه، ومعانيه السامية من وجوه قليلة أو كثيرة، فلو حققنا التوحيد لله عز وجل على الوجه الأتم، لسلمنا من النفاق والرياء والسمعة وطلب الدنيا، واستسلمنا لأمر الله وحكمه، وتغلبنا على شهواتنا وشبهاتنا، وعلى نزعاتنا وعصبياتنا، وبهذا تجتمع الكلمة، ويتوحَّد الصف، وتتحقَّق الأخوَّة الإيمانية، كما قال ربنا سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)} [آل عمران].
عباد الله: نعمة الأخوَّة الإيمانية نعمة عظيمة، يجب أن نعتز بها ونعرف قدرها، فبها أصبحنا أخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وإنما هذه الأخوة هي ثمرة التوحيد والعبودية لله الواحد الأحد، العبودية التي تطهر القلب من الحقد والحسد والضغينة والكبر والعجب على عباد الله، تطهِّر القلب من العصبية والقبلية والعنصرية والطائفية، فيسمو الإنسان بفكره وهمَّته إلى معالي الأمور، إلى معالي الاخلاق وينهض بها، كما أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع، أعظم حجَّة شهدتها مكة فيها أعظم نبي ورسول أرسل إلى العالمين، وفيها خير الأصحاب، هم خير أصحاب الأنبياء أجمعين، صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم يعلن في ذلك الجمع الكريم العظيم: (أيها الناس ألا إنَّ ربكم واحد، ألا وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول فقال: اللهم فاشهد) «مسند أحمد» (23489). وإنَّا نشهد أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وهو الكفيل بالزيادة لمن شكر إعزازًا لمن آمن به وأقر وإرغامًا لمن جحد به وكفر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأتباعه إلى يوم الدين.
عباد الله: من ثمار توحيد الله عز وجل والإخلاص له ومن معالمه وشعائره، الاجتماع في المساجد لإقامة العبودية لله الواحد الاحد، حيث يتساوى الناس جميعا ويتحدون في قلوبهم وأجسادهم، لا فرق بين كبير ولا صغير، ولا بين قوي ولا ضعيف، ولا بين أحمر ولا أسود، يعلنون خضوعهم وعبوديتهم لله الواحد الأحد. {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨)} [الجن]، فلو أنَّ المسلمين تفرقوا في مساجدهم بدعوة غير الله، أو استقبلوا القبلة على وجوه مختلفة، أو كانت صلاتهم على أشكال وأنواع مختلفة، لكان في ذلك تفرقهم وضياعهم، ولكن اعتصامهم بكتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإخلاصهم العبودية لله عز وجل، ذلك الذي يجمعهم ويوحدهم {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (٣٦) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٨)} [النور].
فيا عباد الله: اذكروا نعمة الله عليكم، أن جعلكم من أهل الإسلام، ومن أهل التوحيد والسنَّة، اذكروا نعمة الله عليكم بأن جمع ووحَّد صفكم، وبثَّ بينكم الائتلاف والاجتماع والألفة، حتى تحقَّق لكم ما سعيتم إليه من بناء هذا المسجد الذي سيفتتح قريبًا إن شاء الله تعالى، وسننتقل إليه بإذن الله تعالى، وأنتم أصحاب كلمة واحدة، وهمة عالية تتجاوز الانتماءات القبلية والعنصرية، فنحن من بلاد شتى، وألوان شتى، ولغات شتى، تفرقنا كثير من الصفات والخصائص ولكن تجمعنا كلمة التوحيد، تجمع قلوبنا وتجمعنا في أعمالنا وعباداتنا، وفي مقاصدنا وغاياتنا، لهذا تحقَّق هذا المشروع أيها الاخوة. سيتم إن شاء الله تعالى افتتاح هذا المسجد مع بداية هذه السنة التي نسأل الله تعالى أن يجعلها سنة مباركة، سنة ألف وأربعمئة وثلاث وثلاثين للهجرة الشريفة، فانظروا نعمة الله عليكم كيف اجتمعتم على ذلك، وتوافد إليكم المتبرعون من مناطق شتَّى، من مساجد ومراكز إسلامية في بلاد مختلفة، وكذلك أن سخَّر لنا متبرِّعة كويتية وغيرها من أهل الإحسان الذين لا تعرفونهم ولا يعرفونكم، ولكن ما الذي جمعكم؟ وما الذي جمع هذه الإيرادات والمقاصد حتى تحقَّق هذا المشروع بإذن الله؟ إنَّ الجامع هو كلمة التوحيد لا إله إلا الله، الجامع الاجتماع على الكتاب والسنة، الجامع إرادة وجه الله وابتغاء مرضات الله عز وجل، لهذا أوصي نفسي وإياكم باجتماع الكلمة، وبالتآلف والتراحم بينكم، وعليكم بالرفق فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) «صحيح مسلم» (2594). وكما قال صلى الله عليه وسلم أيضا: (الرفق خير كله).
احرصوا على اجتماع الكلمة، وعلى التكاتف والتعاون حتى يتم استلام المسجد، وافتتاحه وتهيئته على خير حال إن شاء الله تعالى. واحذروا الشيطان ومداخله فإنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون الموحدون العابدون لربهم ولكن في ماذا؟ كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في التحريش بينكم. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم علينا هذه النعم العظيمة، وأن يديم هذا الاجتماع والأخوَّة والتكاتف والترابط، وأن يتم هذا المشروع العظيم على أحسن وجه، حتى يكون هذا المسجد، مسجد مدينة (فلين) منبعًا للخير واجتماع الكلمة، وتكاتف المسلمين، والدعوة إلى الله تعالى، دعوة أبناء المسلمين ودعوة غير المسلمين، ونشر المحبة والأخوة والأمن والأمان والاطمئنان.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تتم على إخواننا في هذه المدينة هذا المشروع، وأن يستلموا المسجد على خير حال يهيئوه للصلاة والجمعة والجماعات، اللهم واجز من تبرع لهذا المشروع، وشارك فيه من أهل المدينة ومن سائر المدن ومن بلاد بعيدة، اجزهم خير ما تجزي المحسنين المتصدِّقين المبتغين لمرضاتك.
- لا يوجد تعليقات بعد