موقع الشيخ عبد الحق التركماني - في توديع سنة 1433

/ 21 حزيران 2025

للتواصل 00447432020200

في توديع سنة 1433

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 988

فيا عباد الله فها نحن أولاء نودِّع سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة وألف ونستقبل سنة أربع وثلاثين بالتاريخ الهجري: تاريخ المسلمين، وقد جرى كثير من النَّاس على الاهتمام بتوديع السنة المنقضية واستقبال السنة الجديدة، وبعضهم يستقبلها بالتهنئة والاحتفال، وربَّما زاد بعضهم بصيام آخر يوم من السنة حتى يختم سنته بعمل صالح. وكلُّ هذه الأمور لا أصل لها في الشريعة المطهَّرة، وليس من سنَّتنا نحنُ أهلَ الإسلام والسنة الاحتفالُ برأس السنة الجديدة هجرية كانت أو غيرها، ولا تخصيص وقت أو يوم بعبادة من العبادات كالصلاة والصيام إلا إن صحَّ ذلك وثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.. لكن مثل هذه المناسبة ينتهزها العلماء والوعَّاظ في تذكير الناس بذهاب الأيام وقصر الأعمار وقرب الآجال، وبعضهم يطيل الكلام في التذكير والموعظة، ويتكلَّف ويتوسع، ويذكر ما يصح وما لا يصح، وما ينبغي وما لا ينبغي من الحكايات والأخبار والأشعار، وقد تأملت في كلام العلماء، ونظرتُ في مواعظهم، وسبرتُ طريقتهم؛ فوجدت كلامهم قليلاً ولكنَّه كثير البركة، ورأيت مواعظهم بعيدة عن التكلُّف؛ لكنها مؤثِّرة صادقة محيية للقلوب مجدِّدة للمشاعر... وإذا بي أقف على خطبة وجيزة، وموعظة بليغة، لفقيه العصر العلامة الراحل الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فأجد فيها هدي القرآن والسنَّة، ومنهاج سلف الأمة في خطبة الجمعة ـ هذه العبادة الخالصة والفريضة الدينية الأسبوعية ـ التي أفسدها أكثر الخطباء اليوم بموضوعات من ضجيج الدنيا وتكالب أهلها عليها وتنافسهم فيها ومغالبة بعضهم بعضَا على حطامها،.. فيا لله ما أنفعَ كلامً العلماء الربانيين، المخلصين لربهم، المشمرين للآخرة، المتجردين من المقاصد والأغراض المادية الدنيَّة، طوبى لهم: {تلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣)} [القصص]. وتبقى علومهم وأخبارهم في الأرض تنتفع بها الأجيال المتعاقبة، تبقى سيرًا نبيلة، وبصائرَ هاديةً، ومواعظَ بليغةً:

وَكَانَتْ فِي حَيَاتِك لِي عِظَاتٌ *** وَأَنْتَ الْيَوْمَ أَوْعَظُ مِنْك حَيَّا

فإليكم خطبته، وهاكم موعظته، قال رحمه الله: أيها الناس اتقوا الله تعالى بفعل ما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه، وتبَّصروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، حتى تنتهي إلى آخر سفركم، وإن كلَّ يومٍ يمر بكم بل كل لحظةٍ تمر بكم فإنها تبعدكم من الدنيا وتقربكم من الآخرة، وإن هذه الأيام والليالي خزائن لأعمالكم محفوظةً لكم، شاهدةً بما فيها من خير أو شر، فطوبى لعبدٍ اغتنم فُرَصها بما يقرِّب إلى الله، وطوبى لعبدٍ شغلها بالطاعات واجتناب العصيان، وطوبى لعبدٍ اتَّعظ بما فيها من تقلُّبات الأمور والأحوال، فاستدل بهذا على ما لله تعالى فيها من الحكم البالغة والأسرار: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)} [النور].

إخواني: ألم تروا إلى هذه الشمس تطلع كل يومٍ من مشرقها وتغرب في مغربها، فإن في ذلك أعظم اعتبار أنَّ طلوعها ثم غروبها أذانٌ بأن هذه الدنيا ليست دار قرار، وإنما هي طلوعٌ ثم غيوبٌ وإدبار، ألم تروا إلى القمر يطلع هلالًا صغيرًا في أول الشهر كما يولد الأطفال ثم ينمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل في النمو أخذ في النقص والاضمحلال، وهكذا جسم الإنسان وحياته تمامًا، فاعتبروا يا أولي الأبصار، ينشأ  الإنسان ضعيفًا ثم يأخذ في النمو والقوة حتى إذا بلغ أشدَّه واستوى أخذ في النقص ثم الهرم ثم الموت والزوال. ألم تروا ـ أيها المسلمون ـ إلى هذه السنين تتجدَّد عامًا بعد عام يجيء أول العام فينظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر الأيام سريعةً كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان يتطلَّع إلى آخره تطلُّع البعيد ويؤمِّل أنه سيبقى في الدنيا طويلًا، وإذا به قد باغته الأجل. وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد، ربما يؤمِّل طول العمر ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبل الأمل قد انخرم، وببناء الأماني قد انهدم، وزالت الأيام، وصار في عالم الآخرة، بعد أن صار في عالم الدنيا.

أيها الناس: إنكم في هذه الأيام تودعون عامًا ماضيًا شهيدًا، وتستقبلون عامًا مشرقًا جديدًا، فليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي؟ وماذا نستقبل به العام الجديد؟ فليحاسب العاقل نفسه، ولينظر في أمره، فإن كان فرَّط في شيءٍ من الواجبات فليتب إلى الله وليستدرك ما فات، وإن كان ظالمًا لنفسه بفعل المحرمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممن منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليه إلى الممات.

أيها المسلمون، يا إخواني: ليس الإيمان بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، إنما الإيمان ما حلَّ في القلب وصدَّقته الأعمال، ليست التوبة مجرد قولٍ باللسان، ولكنها ندمٌ على ما فعل من الذنوب، وتركٌ لما كان عليه من المعاصي والعيوب، وإنابةٌ إلى الله تعالى بإصلاح العمل ومراقبة علَّام الغيوب. فحقِّقوا أيها المسلمون الإيمانَ، وأخلصوا التوبة ما دمتم في زمن الإمكان، وعظ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا وقال: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). ما أعظم هذه الموعظة: إنَّ في الشباب عزيمة وقوة فإذا هرم الإنسان فترت العزيمة وضعفت القوة ولم يستطيع التخلص مما شبَّ عليه. وفي الصحة انشراحٌ ونشاط فإذا مرض الإنسان ضاقت نفسه وانحطَّ نشاطه وثقلت عليه الأعمال. وفي الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان غلق فكره وانشغل بطلب العيش لنفسه وعياله. وفي الحياة ميدانٌ فسيح للأعمال فإذا مات الإنسان انقطعت عنه أوقات العمل وفات زمن الإمكان. فاعتبروا ـ أيها المسلمون ـ بهذه المواعظ، وقيسوا ما بقي من أعماركم بما مضى منها، فإنما بقي منها سوف يمضي سريعًا كما مضى ما سبق. واعلموا أنَّ كل آتٍ قريب، وكلَّ شيءٍ من الدنيا زائل، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيةً أو ضحاها. وتذكروا ـ أيها الإخوة ـ تذكروا إخوانًا لكم كانوا معكم في مثل هذه الأيام من سالف الأعوام، ثم انتقلوا من القصور إلى القبور، ومن الأهل والأموال إلى الجزاء على الأعمال، فأصبحوا مرتَهنين بأعمالهم في قبورهم، يتمنَّون زيادةَ حسنةٍ واحدةٍ في أعمالهم، فلا يستطيعون. ويتمنون أن يتوبوا من سيئات أعمالهم وهم عن التوبة بعد الموت محجوبون. رُؤي بعض الأموات في المنام فقالوا: قدمنا على أمرٍ عظيم نعلم ولا نعمل، وأنتم تعملون ولا تعلمون. أي لا تعلمون ما حلَّ بنا من الندم، واللهِ لتسبيحةٌ أو تسبيحتان أو ركعةٌ أو ركعتان في صفيحة أحدنا أحب إليه من الدنيا وما فيها. فيا ـ عباد الله ـ بادروا بالتوبة، واعرفوا قدر ما أنتم عليه، إنكم اليوم باستطاعتكم أن تتوبوا إلى الله، وأن تُقبلوا إلى الله، ولكنكم بعد الموت لا تستطيعون أن تتخلصوا مما متم عليه.

الخطبة الثانية:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضِعُ سوطِ أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها) «صحيح البخاري» (3078). يقول عليه الصلاة والسلام موضع سوط أحدنا في الجنة خيرٌ من الدنيا، وما فيها. السوطُ يبلغ نحو مترٍ فقط، وموضعه في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ليس الدنيا عصرك ولا دنياك وحدك، بل الدنيا كلها من أولها إلى آخرها، ما كان لك وما كان لغيرك، موضع سوط الإنسان في الجنة خير منَ الدنيا من أولها إلى آخرها، يقول الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الاسراء]، ويقول جل ذكره {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى]، ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء].

فاعتبروا ـ أيها المسلمون ـ واتَّعظوا، وبادروا الأوقات بالأعمال الصالحة، واقرؤوا ما ذَكَر سبحانه من ابتداء الخلق وانتهائه، حيث قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس].

فاعتبروا يا أولي الأبصار، واعملوا ليومٍ تتقلب فيه القلوب والأبصار، اللهم أيقظنا من رقاد الغفلة، اللهم أيقظنا من رقاد الغفلة، ووفقنا للتوبة النصوح قبل النُّقلة. اللهم ارزقنا اغتنام الأوقات زمن المهلة، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. اللهم اجعلنا من ذوي الحزم والإنابة والتوبة والإخلاص يا رب العالمين. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد