موقع الشيخ عبد الحق التركماني - نور الإيمان يبدد ظلمات الشتاء

/ 21 حزيران 2025

للتواصل 00447432020200

نور الإيمان يبدد ظلمات الشتاء

نشرت بواسطة : إدارة الموقع تاريخ غير محدد 976

عباد الله: لقد جاءنا الشتاء بظلامه وبرده وسباته وسكونه، شتاء ثقيل نهاره قصير وليله طويل وظلامه قاتم. فمن لم ينوِّر الله تعالى قلبه، ويشرح صدره ويهده ضاق صدره، ولهذا تجدون حالات الكآبة والانتحار في الشتاء. ذلك من كان حاله فكأنه {‌فِي ‌بَحْرٍ ‌لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}. إنها ظلمة تورث القلب ضيقًا، والنفس كآبة، والروح ضجرًا، والحياة جمودًا وسكونًا وركودًا. نعم إنها كذلك وحُقَّ لها أن تكون كذلك؛ لأنَّها محل الموت والشر والجمود أعني الظلمة، كما أنَّ النور محل الحياة والخير والسرور، ولهذا قرن الله عز وجل بين الظلام والموت وبين الحياة والنور، فقال عز من قائل: {‌أَوَمَنْ ‌كَانَ ‌مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢)} [الأنعام]، فقد قرن الله تعالى للكافرين بين أمرين الموت والظلمة، وقرن للمؤمن الحياة والنور، وأن يحييه بالعلم والايمان والطاعة، فأنار قلبه وهدى سبيله.

عباد الله: حُقَّ للإنسان أن يبحث عن مصدر النور وأصله ومنبعه ليستأنس به، وليبصر به، وليستبصر به، وليستهدي به، ولينقذ به نفسه من الظلمات. فتعالوا أيها الإخوة نقف عند النور الذي لا تذهبه ظلمة الشتاء، ولا تطفئه أفواه الأعداء، إنه نور الإيمان في قلب المؤمن، نور الهداية والتوحيد، نور الوحي الالهي والهدي النبوي، نور العلم والطاعة، نور الهدى والتقى. وقد ضرب الله تعالى مثالًا له فقال: {‌اللَّهُ ‌نُورُ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)} [النور]. الله نور السماوات والارض الحسي والمعنوي، وذلك أنَّ الله تعالى هو النور سبحانه، هو النور الهادي، والنور صفة من صفاته عز وجل، و(حجابه نور الذي لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) «صحيح مسلم» (293). وبه استنار العرش والكرسي والشمس والقمر، وبه استنارت الجنة، وهو الله سبحانه الذي صفته النور ومن أسمائه النور، هو سبحانه منور السماوات والأرض، وهو خالق النور المخلوق، وهو سبحانه مرجع ومنبع النور المعنوي، فالنور المعنوي يرجع إلى الله، فكتابه نور وشرعه نور، والإيمان والمعرفة في قلوب عباده المؤمنين نور، فلولا الله عز وجل لتراكمت الظلمات، مثل نوره كما قال أبي بن كعب (مثل نوره في قلب المسلم). فذكر الله سبحانه وتعالى اولًا نوره، وذكر ثانيًا النور الذي في قلب عبده المسلم كمشكاة فيها مصباح، أي كوة فيها مصباح، المصباح هي الفتيلة التي تضيء، هذا المصباح في زجاجة، الزجاجة من صفائها وبهائها ونقائها كأنها كوكب دري، أي كوكب مضيء إضاءة الدر، يوقد ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدرية من شجرة مباركة زيتونة زيت الزيتون لا شرقية ولا غربية، لا شرقية لأنها لو كانت شرقية لم تصبها الشمس آخر النهار، ولا غربية لأنها لو كانت غربية لم تصبها الشمس أول النهار، ولكنها متوسطة، إنها متوسطة تصيبها الشمس من أول النهار وآخره، فيحسن النور ويطيب، ويكون ذلك أصفى لزيتها، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه النار، فزيتها صافٍ نقي يكاد يضيء ولو لم تشتعل بالنار، فإذا مسته النار أضاء إضاءة بالغة، فنور على نور، نور في ذاته وصفائه ونقائه، فلما اشتعل ازداد نورًا فصار نورًا على نور. هذا هو مثل النور الإلهي في قلب المؤمن، ضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة هي في الحائط فهي مثل الصدر، صدر المؤمن الذي فيه قلبه في هذا المكان زجاجة من أصفى الزجاج، وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه وهي مثل قلب المؤمن، شبه قلب المؤمن بالزجاجة، لأن الزجاجة فيها أوصاف هي في قلب المؤمن، وهي الصفاء والرقة والقوة، بالصفاء يرى الحق والهدى، وبالرقة تحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة، وبالقوة يشتد في الحق ويصلب فيه ويثبت عليه، ولا تُبطل صفة من هذه الصفات صفة أخرى، بل تساعدها وتعاضدها حتى يكون هذا القلب على أحسن حال وأجمله، هذا هو صفة قلب المؤمن. ويقابله قلبان مذمومان: قلب حجري قاس، لا رحمة فيه ولا إحساس ولا بر، ولا له صفاء بل هو جبار جاهل، لا علم له بالحق، ولا رحمة بالخلق. وقلب آخر، قلب ضعيف مائي لا قوة فيه ولا استمساك، بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصورة ولا قوة التأثير في غيره، وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف وطيب وخبيث. في الزجاجة مصباح هو النور الذي في الفتيلة ولذلك النور مادة وهو زيت من أصفى أنواع الزيت، وأبعد عن الكدر، إنه زيت الزيتون حتى إنه ليكاد من صفائه ليضيء بلا نار، فهذه مادة نور المصباح، وكذلك قلب المؤمن مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته، إنه قلب نظيف ونقي في مادته وذاته، فكلما اهتدى إلى دين الله عز وجل وتعلم العلم والإيمان اشتعل ذلك النور في قلبه، فهو صافي القلب، صاف من سوء القصد ومن سوء الفهم، فلما وصل إليه الايمان أضاء إضاءة عظيمة، نور على نور، نور الإيمان على نور الفطرة ،كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان (كل مولود يولد على الفطرة) «صحيح البخاري» (1319). فهذا هو مثل النور في قلب المؤمن، إنه نور حقيقي يضيء له قلبه وفكره وضميره ويساعده على الثبات على الخير، والسير على وجهة واحدة لا يتخبط ولا يتيه ولا يضيع، وبقدر فقدان هذا النور يحصل الضيق والحزن والكآبة واليأس والتخبط في الحياة، حتى تسيطر هذه الأمور على نفسية الإنسان ومزاجه، فييأس من الحياء ولا تصبح لها أي معان، بل يعمد إلى اليأس ويسعى إلى الانتحار حتى يتخلص من هذه الحياة الكئيبة، أما المؤمن فإنَّ قلبه منور بهذه الصفات التي تقدمت. فما هي الوسائل التي يستحصل بها هذا.

عباد الله تعالوا نذكر بعض الوسائل التي من أهمها تحقيق الإخلاص والتقوى وتجريد الاتباع للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم. يقول عز من قائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ‌يُؤْتِكُمْ ‌كِفْلَيْنِ ‌مِنْ ‌رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)} [الحديد]. إذن الايمان والاتباع مصدر للنور والهداية والصلاح والسعادة والتوفيق. ثم ماذا بعد ذلك؟ الصلاة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها نور فقال: (الصلاة نور) «أخرجه مسلم في صحيحه» (223). ثم ماذا بعد ذلك؟ الاجتماع على ذكر الله عز وجل وطاعته، وتعلم دينه والافتراق على ذلك، حتى إن ذلك النور المعنوي ليظهر أثره على الإنسان، وربما يكون كما حصل مع صحابيين جليلين (خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فتفرق النور معهما إنهما أسيد بن حضير وعباد بن بشر رضي الله تعالى عنهما) كما في «صحيح البخاري» (3594). ثم ماذا بعد ذلك أيها الأخوة؟ الدعاء، الدعاء مصدر للنور والهداية والسعادة وانشراح الصدر. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج الى صلاة الفجر وهو يقول: (اللهم اجعل في قلبي نورًا، واجعل في لساني نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل من خلفي نورًا، واجعل من أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم اعطني نورًا، واجعل لي نورًا، اللهم واجعلني نورًا) «أخرجه البخاري ومسلم» (763). وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أصبح أحدكم فليقل أصبحنا وأصبح الملك لله رب العالمين، اللهم إني اسألك خير هذا اليوم فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده، ثم إذا أمسى فليقل مثل ذلك) «سنن أبي داود» (5084). والحقيقة يا أخوة الإيمان أنَّ الطاعات كلها سبب للنور في قلب المؤمن وحياته، ولكنه في هذه الحياة الدنيا نور كامن لا يُرى ولا يُدرك، فإذا كان يوم القيامة ظهر أثره ورآه الناس، ويدل على هذا نصوص الكتاب والسنة. فلنقف هنا عند ثلاثة أحاديث منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) «سنن أبي داود» (561). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عند الترمذي وهو حديث حسن: (من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة) (1634). ويقول صلى الله عليه وسلم: (المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء) «أخرجه الترمذي وهو حديث صحيح» (2390). اسأل الله سبحانه وتعالى أن ينور قلوبنا وأبصارنا ويصحح نياتنا ومقاصدنا ويوفقنا لمرضاته. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم المسلمين والمسلمات.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وهو الكفيل بالزيادة لمن شكر إعزازًا لمن آمن به وأقر وإرغامًا لمن جحد به وكفر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأتباعه إلى يوم الدين.

عباد الله: إنَّ الإنسان كما هو محتاج إلى النور نور الإيمان والإسلام، حتى تستقيم له حياته في هذه الحياة الدنيا ويبصر دربه، ولا يقع صريع الوساوس واليأس والكآبة والحزن والمخدرات والانتحار والشذوذ، فكذلك هو في حاجة لهذا النور حتى يبصر دربه يوم القيامة إلى الجنة بإذن الله عز وجل، فالله تعالى قد نصب للناس سراطين، صراطًا في الدنيا، وصراطًا في الآخرة، فمن مشى على صراطه المستقيم في الدنيا يسر الله تعالى مشيه على الصراط يوم القيامة، وبقدر التوبة والإخلاص يكون يسره وسهولته يوم الدين. يقول ربنا سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌تُوبُوا ‌إِلَى ‌اللَّهِ ‌تَوْبَةً ‌نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)} [التحريم]. تعرفون لماذا يسألون الله تعالى أن يتمَّ لهم نورهم؟ لأنَّ المنافقين يُعطون نورًا يوم القيامة، لكنه سرعان ما ينطفئ نكاية بهم جزاء خداعهم ومكرهم في الدنيا. أما المؤمنون الصادقون فينعمون بالنور التام المضيء الذي لا ينطفئ. {‌يَوْمَ ‌تَرَى ‌الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢)} [الحديد]. فإذا رأى المنافقون المؤمنين يمشون بنورهم وهم قد طفي نورهم وبقوا في الظلمات حائرين، قالوا للمؤمنين: {يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا ‌انْظُرُونَا ‌نَقْتَبِسْ ‌مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣)} [الحديد]. انظرونا امهلونا لننال من نوركم، قيل لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا، أي إن كان ذلك ممكنًا والحال أنَّ ذلك غير ممكن، فضرب بينهم بين المؤمنين والمنافقين بسور أي حائط منيع وحصن حصين له باب باطنه فيه الرحمة، إنها جهة المؤمنين وظاهره من قبله العذاب، وذلك جهة المنافق الباب الذي يلي المنافقين، فعند ذلك ينادي المنافقون المؤمنين تضرعًا وترحمًا، ينادونهم ألم نكن معكم؟ نقول لا إله إلا الله، ونصلي صلاتكم ونصوم، نعمل كعملكم، {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ‌وَتَرَبَّصْتُمْ ‌وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)} [الحديد].

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل في قلوبنا نورًا، وفي ألسنتنا نورًا، وفي أسماعنا نورًا وفي أبصارنا نورًا.

شاركنا بتعليق

  • لا يوجد تعليقات بعد